الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النية: الإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بالقلب، أو لأن حقيقتها القصد مطلقاً، فإن نوى بقلبه، وتلفظ بلسانه، أتى عند الجمهور بالأكمل، وإن تلفظ بلسانه ولم ينو بقلبه لم يجزئه. وإن نوى بقلبه، ولم يتلفظ بلسانه أجزأه. قال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً، من جلب نفع، أو دفع ضر، حالاً أو مآلاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل، لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال حكمه.
و
الحاصل أن في الكلام عن محل النية أصلين:
الأصل الأول ـ أنه لا يكفي التلفظ باللسان دون القلب، لقوله تعالى:{وماأمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة:98/ 5]، والإخلاص: ليس في اللسان، وإنما هو عمل القلب، وهو محض النية، وذلك بأن يقصد بعمله الله وحده، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .
ويتفرع عن هذا الأصل:
أـ أنه لو اختلف اللسان والقلب، فالعبرة بما في القلب، فلو نوى بقلبه الوضوء، وبلسانه التبرد، صح الوضوء، ولو نوى عكسه لا يصح. وكذا لو نوى بقلبه الظهر، وبلسانه العصر، أو بقلبه الحج وبلسانه العمرة أو عكسه، صح له مافي القلب. وجاء في بعض كتب الحنفية (القنية والمجتبى): من لا يقدر أن يحضر قلبه لينوي بقلبه أو يشك في النية يكفيه التكلم بلسانه: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة:2/ 286].
ب ـ إن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بالله تعالى بلا قصد، فلا تنعقد عند الجمهور (غير الحنفية) وهي يمين اللغو، ولا يتعلق به كفارة، أو قصد الحلف على
شيء، فسبق لسانه إلى غيره. وقال الحنفية (1):انعقدت الكفارة؛ لأن يمين اللغو التي لاحكم لها أصلاً ولا كفارة لها: هي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال، على الظن أن المخبر به كما أخبر، وهو بخلافه في النفي أو الإثبات (2). كمن قال:«والله مادخلت هذه الدار» وفي ظنه أنه كذلك، والأمر بخلافه، أو رأى طيراً من بعيد، فظن أنه غراب، فحلف، فإذا هو حمام، ويمين اللغو عند الجمهور: هي اليمين التي تجري على لسان الحالف (سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل) من غير قصد اليمين، كأن يقول: لا والله، أو بلى والله، أو كان يقرأ القرآن، فجرى على لسانه اليمين.
والحاصل أن الحنفية يقولون: لا لغو في المستقبل، بل اليمين على أمر في المستقبل تعتبر يميناً منعقدة، وتجب فيها الكفارة إذا حنث الحالف، سواء قصد اليمين أو لم يقصد، وإنما تختص يمين اللغو في الماضي أو الحال فقط، بحسب الظن من الحالف أن الأمر كما حلف، والحقيقة بخلاف ذلك.
هذا في اليمين بالله تعالى، وأما في الطلاق والعتاق والإيلاء فيقع قضاء لا ديانة، أي أنه لم يتعلق به شيء باطناً، ويديَّن بذلك فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يقبل كلامه في الظاهر والقضاء، لتعلق حق الغير به.
جـ ـ إن قصد بالطلاق أو العتق معنى آخر غير معناه الشرعي، كلفظ الطلاق أراد به الطلاق من وثاق، أو يقصد ضم شيء إليه يرفع حكمه، لم يقبل منه قضاء، ويديَّن فيما بينه وبين الله تعالى، فيعمل بما قصده. قال الفوراني في الإبانة: الأصل أن كل من أفصح بشيء وقبل منه، فإذا نواه، قبل فيما بينه وبين الله تعالى
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 7
(2)
البدائع: 3/ 3 - 4. دون الحكم.
ومثاله: إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت من وثاق، ولا قرينة، لم يقبل في الحكم، ويديَّن. فإن كان قرينة، كأن كانت مربوطة، فحلَّها، وقال ذلك، قبل ظاهراً.
الأصل الثاني ـ أنه لا يشترط مع نية القلب التلفظ في جميع العبادات، فلا معتبر باللسان، ويترتب على ذلك ما يأتي:
أـ إذا أحيا إنسان أرضاً بنية جعلها مسجداً، فإنها تصير مسجداً بمجرد النية، فلا يحتاج إلى التلفظ.
ب ـ من حلف: (لا يسلِّم على فلان) فسلَّم على قوم هو فيهم، واستثناه بالنية، فإنه لا يحنث، بخلاف من حلف:(لا يدخل على فلان) فدخل على قوم هو فيهم، واستثناه بقلبه، وقصد الدخول على غيره، فإنه يحنث في الأصح عند الشافعية، وكذا يحنث عند الحنفية إن كان فلان ساكناً في الدار، ولا يحنث إن لم يكن ساكناً.
ويستثنى من هذا الأصل مسائل:
منها: (النذر والطلاق والعتاق والوقف) لو نواها بقلبه، ولم يتلفظ لم ينعقد النذر والوقف، ولم يقع الطلاق والعتق بمجرد النية، بل لابد من التلفظ.
ومنها: لو قال رجل لامرأته: (أنت طالق) ثم قال: أردت: إن شاء الله تعالى، لم يقبل قوله، قال الرافعي: المشهور أنه لا يديَّن أيضاً. ومنها: حديث النفس لايؤاخذ به مالم يتكلم أو يعمل، أو من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة ـ «إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت بها أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل به» .
وقد قسم السبكي وغيره من العلماء الذي يقع في النفس من قصد المعصية خمس مراتب:
الأولى ـ الهاجس: وهو ما يُلقى في النفس، وهذا لا يؤاخذ به إجماعاً لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له فيه ولا صنع.
الثانية ـ الخاطر: وهو ما يجري في النفس، وكان الإنسان قادراً على دفعه، كصرف الهاجس أول وروده. وهذا لا مؤاخذة فيه أيضاً.
الثالثة ـ حديث النفس: وهو ما يقع في النفس من التردد، هل يفعل أو لا؟ وهذا لا إثم فيه أيضاً، بنص الحديث السابق، وإذا ارتفع حديث النفس، ارتفع ما قبله با لأولى.
وهذه المراتب الثلاث لو كانت في الحسنات لم يكتب له بها أجر، لعدم القصد.
الرابعة ـ الهمّ: وهو ترجيح قصد الفعل، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الهم بالحسنة يكتب حسنة، والهمّ بالسيئة لا يكتب سيئة (1)، وينظر: فإن تركها لله تعالى كتبت حسنة، وإن فعلها كتبت سيئة واحدة. والأصح في معناه أنه يكتب عليه إثم الفعل وحده، وأن الهمَّ مرفوع.
الخامسة ـ العزم: وهو قوة القصد والجزم به، والمحققون على أنه يؤاخذ به.
(1) رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عَشْرَ حسنات، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» .