الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا كان اتباع الأهواء محرما ً لزم تقييد الأخذ بأيسر المذاهب بوجود حالة الضرورة أو الحاجة، لأن (الضرورات تبيح المحظورات) و (الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامة كانت أو خاصة) والضرورة: مايترتب على عصيانها خطر. أما الحاجة: فهي مايترتب على عدم الاستجابة إليها عسر وصعوبة. والمراد بكون الحاجة عامة: أن تكون شاملة جميع الأمة، والمراد بكونها خاصة أن يكون الاحتياج لطائفة متخصصة من الأمة كأهل بلد أو حرفة، لا أن تكون فردية (1).
ولست مع الشاطبي في أن العمل بالضرورة أو الحاجة أخذ بما يوافق الهوى (2)، لأن الضرورات والحاجات تتجدد بحسب التطور. ولابد من مراعاة ضوابط الضرورة الشرعية والحاجة (وهي أن تكون قائمة لامتوقعة، ويقينية أو غالبة الظن، وملجئة أو محرجة
…
إلخ) (3).
الضابط الخامس ـ أن يتقيد الأخذ بالأيسر بمبدأ الترجيح
.
أي أن يكون الهدف العام أولاً هو العمل بالرأي الأقوى أو الأرجح بحسب رجحان دليله، لأن الأخذ بالأيسر نوع من الاجتهاد، والمجتهد ملزم باتباع الدليل الراجح المؤدي إلى الصواب، بحسب غلبة ظنه. لذا أوجب الأصوليون على المفتي (أي المجتهد) أن يتبع القول لدليله، فلايختار من المذاهب أضعفها دليلاً، بل يختار أقواها دليلاً؛ لأن الصحابة أجمعوا في اجتهاداتهم على وجوب العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما، ولأن العقل يوجب العمل بالراجح في الحوادث، والأصل اتفاق الشرع مع العقل. قال القرافي: إن الحاكم إن كان
(1) المدخل الفقهي للأستاذ مصطفى الزرقاء: ف 603.
(2)
الموافقات: 145/ 4.
(3)
راجع نظرية الضرورة الشرعية للدكتور وهبة الزحيلي: ص 66 ومابعدها.
مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه، وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحاً عنده، مقلداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا.
وقال أيضاً: أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع (1). لكن ناقش الشيخ عليش هذا الإجماع فقال: ولعل هذا الإجماع ـ على تقدير ثبوته ـ إنما يكون حيث تبع القاضي أو المفتي في تقليد الشاذ هواه، فإن أبغض شخصاً أو كان من ذوي الخمول، شدد عليه، فقضى عليه وأفتاه بالمشهور، وإن أحبه أو كان له عليه منة، وكان من أصدقائه أو أقاربه واستحيا منه، لكونه من ذوي الوجاهة أو أبناء الدنيا، أفتاه، أو قضى له بالشاذ الذي فيه رخصة (2).
ثم ذكر الشيخ عليش في فتاويه عند الكلام على موضوع التخير بين الأقوال: الصحيح إن كان المقلد أهلاً للنظر في طرق الترجيح وإدراك مدارك التقديم والتصحيح، فإنما الواجب عليه في القولين أو الأقوال إن كانت لشخص واحد ألا يعمل أو يفتي أو يحكم إلا بالراجح عنده (3).
ثم تعقب الشيخ عليش (4) عبارة القرافي في أنه منع المجتهد من الحكم والفتيا إلا بالراجح عنده، وأجاز للمقلد أن يفتي بمشهور مذهب من قلده حتى ولو كان شاذاً مرجوحاً في نظره. ثم قال عليش: لا دليل فيه على جواز العمل بغير الراجح، لأنه لا يلزم من العمل بالمرجوح عنده الراجح في نظر إمامه أو عكسه العمل بالمرجوح في نظرهما معاً.
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام: ص 79، 80، تبصرة الحكام: 66/ 1، فتاوى الشيخ عليش: 64/ 1،68.
(2)
فتح العلي المالك: 62/ 1.
(3)
فتاوى الشيخ عليش: 65/ 1.
(4)
المرجع السابق: 68/ 1.
وخلاصة الكلام المفهوم من كلام القرافي والشيخ عليش: إن المقلد إذا كان أهلاً للترجيح، وكان هناك قولان: راجح ومرجوح، فعليه النظر والترجيح. وإن كان القولان متكافئين لا راجح فيهما في نظره، جاز له الحكم بأحد القولين أو الترجيح بالأعلم أو بالأكثر أو بالأشد والأثقل (1).
هذا هو الأصل العام عند العلماء في أنه يجب العمل بالراجح في الفتوى والقضاء والعمل إلا لعارض معتبر شرعاً، فإذا وجدت ضرورة أو حاجة أومصلحة عامة للعمل بالقول المرجوح (الضعيف أو الشاذ)(2) أو اعتمد الحاكم قولاً مرجوحاً، جاز الأخذ به، كما بينت سابقاً، ولا إجماع في الحقيقة على منع الأخذ بالمرجوح بدليل وجود الاختلاف بين العلماء فيما يأخذ به المقلد من أقوال العلماء.
قيل: يأخذ بقول أعلمهم. وقيل: يأخذ بقول أكثرهم، وقيل: يأخذ بقول من شاء منهم، يعني وإن لم يكن قائله أعلم ولا أكثر، بل يكون مماثلاً أو أقل عدداً أو أدنى علماً، وهذا هو عين القول الشاذ. وقد قال بعض المفسرين في سر قوله تعالى لداود عليه السلام:{ولا تتبع الهوى} [ص:26/ 38]، بعد أمره له أن يحكم بالحق: إن فيه إشارة إلى أن الامتثال لايكون بمجرد الحكم بالحق، حتى يكون الباعث على الحكم به حقيته، لا اتباع الهوى، فيكون معبود من اتصف بهذا هواه، لا مولاه جل وعلا، حتى إذا لم يجد هواه في الحق تركه، واتبع غير الله.
أما من قلد القول الشاذ لأنه حق في حق من قال به، وفي حق من قلده، ولم يحمله عليه مجرد الهوى، بل الحاجة والاستعانة على دفع ضرر ديني أو دنيوي،
(1) الإحكام للقرافي: ص30، 80، فتاوى عليش: 65/ 1،69، 79
(2)
القول الشاذ: هو الذي ضعف مُدْرَكه جداً.