الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدهما ـ تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلاً، وتمييز رمضان من صيام غيره. أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظيف ونحو ذلك، وهذه النية هي التي توجد كثيراً في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني ـ بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو لله وحده لا شريك له، أو لله وغيره. وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدمين. وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفاً سماه (كتاب الإخلاص والنية) وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم تارة بلفظ (النية) وتارة بلفظ (الإرادة) وتارة بلفظ مقارب. وقد جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضاً من الألفاظ المقاربة.
وإنما فرَق من فرَق بين النية وبين الإرادة والقصد ونحوها لظنهم اختصاص النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال: النية تختص بفعل الناوي، والإرادة لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له، ولا ينوي ذلك، وقد ذكرنا أن النية في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، إنما يراد لها هذا المعنى الثاني غالباً، فهي حينئذ بمعنى الإرادة، ولذلك يعبر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيراً.
ثانياً ـ حكم النية وأدلة إيجابها، والقواعد الشرعية المتعلقة بها:
حكم النية عند جمهور الفقهاء (1)(غير الحنفية): الوجوب فيما توقفت صحته عليها، كالوضوء والغسل، ماعدا غسل الميت والتيمم، والصلاة بأنواعها،
(1) الشرح الكبير للدردير: 93/ 1 ومابعدها، المجموع للنووي: 361/ 1 ومابعدها، مغني المحتاج:47/ 1 ومابعدها، المهذب: 14/ 1 ومابعدها، المغني: 110/ 1 ومابعدها، كشاف القناع: 94/ 1 - 101، أحكام النية للحسيني: ص10، 76، 78 ومابعدها.
والزكاة والصيام والحج والعمرة إلى غير ذلك، والندب فيما لم تتوقف صحته عليها كرد المغصوب، والمباحات كالأكل والشرب والتروك كترك المحرَّم والمكروه، مثل ترك الزنا والخمر وغيرهما من المحرَّمات، وترك اللهو الخالي من القمار: وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما، فهو مكروه، لما فيه من تضييع الوقت والانشغال عن كل نافع مفيد.
ورأي الحنفية (1): أن النية تسن في الوضوء والغسل وغيرهما من وسائل الصلاة، لتحصيل الثواب، وهي شرط لصحة الصلاة، كما قرر المالكية والحنابلة وسيأتي مزيد بيان لذاك في بحث النية في العبادات، علماً بأن العلماء اتفقوا على أن النية واجبة في الصلاة، لتتميز العبادة عن العادة وليتحقق في الصلاة الإخلاص لله تعالى؛ لأن الصلاة عبادة، والعبادة: إخلاص العمل بكلية العابد لله تعالى.
وأدلة إيجاب النية كثيرة، منها قول الله تعالى:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء .. } [البينة:98/ 5] قال الماوردي: والإخلاص في كلامهم النية.
ومنها الحديث المتفق على صحته بين البخاري ومسلم وباقي الأئمة الستة وأحمد (الجماعة) من رواية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو ـ كما قا ل النووي ـ حديث عظيم، أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، بل هو أعظمها، وهي اثنان وأربعون حديثاً. ونصه: قا ل عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله
(1) الدر المختار: 98/ 1 ومابعدها، البدائع: 17/ 1، تبيين الحقائق:99/ 1.
ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدُنيا يصيبها أو امرأة ٍ ينكِحُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليه».
والمراد بالأعمال: أعمال الطاعات والأعمال الشرعية، دون أعمال المباحات. وقد دل الحديث على اشتراط النية في العبادات، لأن كلمة (إنما) للحصر، تثبت المذكور وتنفي ماسواه، وليس المراد صورة العمل، فإنها توجد بلا نية، وإنما المراد أن حكم العمل لا يثبت إلا بالنية، ومعناه لا يعتد بالأعمال الشرعية بدون النية، مثل الوضوء والغسل والتيمم، وكذلك الصلاة والزكاة والصوم والحج والاعتكاف وسائر العبادات. فأما إزالة النجاسة فلا تحتاج إلى نية؛ لأنها من باب التروك، والترك لا يحتاج إلى نية.
وفي قوله: (إنما الأعمال بالنيات) محذوف، اختلف العلماء في تقديره، فقال جمهور العلماء (غير الحنفية) الذين اشترطوا النية: المراد إما صحة الأعمال، أو تصحيح الأعمال أو قبول الأعمال، ويكون التقدير: صحة الأعمال بالنيات، فالنية شرط صحة، لا تصح الوسائل من وضوء وغسل وغيرهما، والمقاصد من صلاة وصوم وحج وغيرها إلا بها.
وقال الحنفية الذين لم يشترطوا النية في الوسائل: المراد كمال الأعمال ويكون تقديرهم كمال الأعمال بالنيات، فالنية شرط كمال فيها، لتحصيل الثواب فقط.
وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) يدل على أمرين:
الأول ـ قال الخطابي: يفيد معنى خاصاً غير الأول، وهو تعيين العمل بالنية وقال النووي: فائدة ذكره أن تعيين العبادة المنوية شرط لصحتها. فلو كان على
إنسان صلاة مقضية، لا يكفيه أن ينوي الصلاة الفائتة، بل يشترط أن ينوي كونها ظهراً أو عصراً أو غيرهما، ولولا هذا اللفظ الثاني، لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيين، أو أوهم ذلك.
الثاني ـ أنه لا تجوز النيابة في العبادات ولا التوكيل في النية نفسها. وقد استثني من ذلك تفرقة الزكاة وذبح الأضحية، فيجوز التوكيل فيهما في النية والذبح والتفرقة، مع القدرة على النية، وكذلك يجوز التوكيل في دفع الدَّين (1).
وآخر هذا الحديث أبان سببه، روى الطبراني في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر، فهاجر، فتزوجها، فكنا نسميه: مهاجر أم قيس.
والخلاصة: دل هذا الحديث على عدة أمور منها:
أـ لا يكون العمل شرعياً يتعلق به ثواب وعقاب إلا بالنية.
ب ـ تعيين المنوي وتمييزه عن غيره شرط في النية، فلا يكفي أن ينوي الصلاة، بل لابد باتفاق العلماء من تعيينها بصلاة الظهر أو العصر أو الصبح مثلاً.
جـ ـ من نوى عملاً صالحاً، فمنعه من تنفيذه عذر قاهر كالمرض أوالوفاة، فإنه يثاب عليه؛ لأن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها، لم تكتب له سيئة، قال السيوطي: من عزم على المعصية ولم يفعلها أو لم يتلفظ بها لا يأثم (2)، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الأئمة الستة عن أبي هريرة:«إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدّثت بها أنفسها، مالم تتكلم به أو تعمل به» .
(1) المجموع:361/ 1 ومابعدها، شرح الأربعين النووية للنووي: ص5 - 7، ولابن دقيق العيد: ص 13 - 14.
(2)
الأشباه والنظائر للسيوطي: ص 29.
د ـ الإخلاص في العبادة والأعمال الشرعية هو الأساس في تحصيل الأجر والثواب في الآخرة، والفلاح والنجاح في الدنيا، والدليل تصريح الزيلعي بأن المصلي يحتاج إلى نية الإخلاص فيها.
هـ ـ يصبح كل عمل نافع أو مباح أو ترك بالنية الطيبة وقصد امتثال الأمر الإلهي عبادة مثوباً عليها عند الله تعالى.
وـ إذا كانت نية الفعل لإرضاء الناس أو الشهرة والسمعة أو لتحقيق نفع دنيوي مثل مهاجر أم قيس، فلا ثواب للفاعل في الآخرة.
رأي الحنفية في بيان تعيين المنوي وعدم تعيينه:
فصَّل الحنفية (1) في شأن تعيين المنوي، فقالوا:
أـ إن كان المنوي عبادة: فإن كان وقتها ظرفاً للمؤدى بمعنى أنه يسعه ويسع غيره، وهو الواجب الموسَّع، فلا بد من التعيين كالصلاة، كأن ينوي الظهر، فإن قرنه باليوم كظهر اليوم، صح. وعلامة التعيين للصلاة أن يكون بحيث لو سئل أي صلاة يصلي يمكنه أن يجيب بلا تأمل. ولا يسقط التعيين في الصلاة بضيق الوقت؛ لأن السعة باقية.
ب ـ وإن كان وقت العبادة معيارا ً لها، بمعنى أنه لا يسع غيرها كالصوم في يوم رمضان، وهو الواجب المضيَّق، فإن التعيين ليس بشرط، إن كان الصائم صحيحاً مقيماً، فيصح بمطلق النية، وبنية النفل؛ لأن التعيين في المتعين لغو. وإن كان مريضاً، ففيه روايتان، والصحيح وقوعه عن رمضان، سواء نوى واجبا ً آخر أو نفلاً. وأما المسافر: فإن نوى عن واجب آخر، وقع عما نواه، لا عن رمضان. وفي النفل روايتان، والصحيح وقوعه عن رمضان.
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 25 ومابعدها، طبع دار الفكر بدمشق.