الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويشترط في الاستيلاء الحكمي لا الاستيلاء الحقيقي: قصد التملك، عملاً بقاعدة «الأمور بمقاصدها» . فمن نصب شبكة، فتعلق بها صيد، فإن كان قد نصبها للجفاف، فالصيد لمن سبقت يده إليه؛ لأن نيته لم تتجه إليه. وإن كان قد نصبها للصيد، ملكه صاحبها، وإن أخذه غيره كان متعدياً غاصباً. ولو أفرخ طائر في أرض إنسان، كان لمن سبقت إليه يد إلا إذا كان صاحب الأرض هيأها لذلك.
وإذا دخل طائر في دار، فأغلق صاحبها الباب لأخذه، ملكه، وإن أغلقه صدفة لم يملكه. وهكذا لو وقع الصيد في حفرة أو ساقية، المعوَّل في تملكه على نية صيده، وإلا فلمن سبقت إليه يده (1).
13 -
قراءة القرآن: إن القرآن يخرج عن كونه قرآناً بالقصد، فجاز للجنب والحائض قراءة ما فيه من الأذكار بقصد الذكر، والأدعية بقصد الدعاء (2).
عاشراً ـ النية في العقود أو المعاملات
(مدى تأثير النية غير المشروعة أو الباعث على العقود):
للفقهاء اتجاهان من نظرية السبب بالمعنى الحديث: اتجاه يغلِّب النظرة الموضوعية أو الإرادة الظاهرة، واتجاه آخر يلاحظ فيه النوايا والبواعث الذاتية أو الإرادة الباطنة (3).
أما الاتجاه الأول: فهو مذهب الحنفية والشافعية (4) الذين يأخذون بالإرادة الظاهرة في العقود، لا بالإرادة الباطنة، أي أنهم حفاظاً على مبدأ استقرار
(1) البدائع: 193/ 6ومابعدها.
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص20
(3)
سيأتي مزيد بيان لهذا الموضوع.
(4)
انظر عند الحنفية مختصر الطحاوي: ص 280، تكملة فتح القدير: 127/ 8، البدائع: 189/ 4، تبيين الحقائق: 125/ 2 ومابعدها.
المعاملات لا يأخذون بنظرية السبب أو الباعث لأن فقههم ذو نزعة موضوعية بارزة كالفقه الجرماني، والسبب أو الباعث الذي يختلف باختلاف الأشخاص عنصر ذاتي داخلي قلق يهدد المعاملات.
ولا تأثير للسبب أو للباعث على العقد إلا إذا كان مصرحاً به في صيغة التعاقد، أي تضمنته الإرادة الظاهرة، كالاستئجار على الغناء والنوح والملاهي وغيرها من المعاصي. فإذا لم يصرح به في صيغة العقد، بأن كانت الإرادة الظاهرة لا تتضمن باعثاً غير مشروع، فالعقد صحيح لا شتماله على أركانه الأساسية من إيجاب وقبول وأهلية المحل لحكم العقد، ولأنه قد لا تحصل المعصية بعد العقد، ولا عبرة للسبب أو الباعث في إبطال العقد، أي أن العقد صحيح في الظاهر، دون بحث في النية أو القصد غير المشروع، لكنه مكروه حرام، بسبب النية غير المشروعة، نظراً لاستكمال العقد أركانه وشروطه المطلوبة شرعاً في الظاهر.
وبناء عليه قال الحنفية والشافعية بصحة العقود التالية في الظاهر، مع الكراهة التحريمية أو الحرمة عند الشافعية، للنهي عنها في السنة النبوية، وهي:
1 ً - بيع العينة (أي البيع الصوري المتخذ وسيلة للربا): كبيع سلعة بثمن مؤجل إلى مدة بمئة درهم، ثم شراؤها من المشتري في الحال بمئة وعشرة، فيكون الفرق ربا. لكن أبا حنيفة رحمه الله استثناء من مبدئه في عدم النظر إلى النية غير المشروعة، اعتبر هذا العقد فاسداً، إن خلا من توسط شخص ثالث بين المالك المقرض والمشتري المقترض، لأساس آخر: وهو عدم تمام البيع الأول بسبب عدم قبض الثمن، ولأن البيع الثاني بيع شيء منقول قبل القبض وبيع الشيء قبل القبض فاسد شرعاً.
2 ً - بيع العنب لعاصر الخمر: أي لمن يعلم البائع أنه سيتخذه خمراً أو يظنه ظناً غالباً، فإن شك في اتخاذه خمراً أوتوهمه، فالبيع مكروه.
3 ً - بيع السلاح في الفتنة الداخلية، أو لمن يقاتل به المسلمين أو لقطاع الطريق المحاربين، ومثله بيع أدوات القمار، وإيجاد دار للدعارة أو للقمار، وبيع الخشب لمن يتخذ منه آلات الملاهي، والإجارة على حمل الخمر لمن يشربها، ونحو ذلك.
4 ً - زواج المحلِّل: وهو الذي يعقد زواجه على امرأة مطلقة طلاقاً بائناً، أي البائن بينونة كبرى، بقصد تحليلها لزوجها الأول بالدخول بها في ليلة واحدة مثلاً، ثم يطلقها ليصح لزوجها الأول العقد عليها من جديد، هو عقد صحيح في الظاهرعملاً بظاهر الآية القرآنية:{فإن طلقها فلا تحل له من بعد، حتى تنكح زوجاً غيره} [البقرة:230/ 2]، أي أنه لا يصرح في عقد التحليل بالغرض المقصود، وإنما يتم الاتفاق سراً وبنحو مستتر في غير حالة إبرام العقد.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يأخذ بالسبب أو الباعث إلا إذا كان داخلاً في صيغة العقد، وتضمنه التعبير عن الإرادة ولو ضمناً، ولا يعتد به إذا لم تتضمنه صيغة العقد.
وأما الاتجاه الثاني: فهو مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية والشيعة (1) الذين ينظرون إلى القصد والنية أو الباعث، فيبطلون التصرف المشتمل على باعث غير مشروع، بشرط أن يعلم الطرف الآخر بالسبب غير المشروع، أو كان بإمكانه أن يعلم بذلك بالظروف والقرائن التي تدل على القصد الخبيث، كإهداء العدو هدية
(1) راجع عند المالكية: بداية المجتهد: 140/ 2، مواهب الجليل للحطاب: 404/ 4، 263، الموافقات: 261/ 2، الفروق:266/ 3، وعند الحنابلة: المغني: 174/ 4، 222، أعلام الموقعين: 106/ 3، 108، 121، 131، 148، غاية المنتهى: 18/ 2، وعند الظاهرية: المحلى: 36/ 9، وعند الشيعة الجعفرية: المختصر النافع في فقه الإمامية: ص140، وعند الزيدية: المنتزع المختار:19/ 3 ومابعدها.
لقائد الجيش، والإهداء للحكام والموظفين، فذلك مقصود به الرشوة. فتكون للدولة. وهبة المرأة مهرها لزوجها، يقصد به استدامة الزواج، فإن طلقها بعدئذ، كان لها الرجوع فيما وهبت (1).
هذا الاتجاه يأخذ تقريباً بنظرية السبب أو بمذهب الإرادة الباطنة في الفقه اللاتيني، مراعاة للعوامل الأدبية والخلقية والدينية، فإن كان الباعث مشروعاً، فالعقد صحيح، وإن كان غير مشروع فالعقد باطل حرام، لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان.
وبناء عليه، قال المالكية والحنابلة وموافقوهم ببطلان العقود السابقة وأضاف إليها المالكية: أنهم لا يجيزون بيع أرض بقصد بناء كنيسة أو بيع خشب بقصد صنع صليب، أو شراء عبد بقصد أن يكون مغنياً، أو استئجار كراريس فيها عبارات النوح، وبيع ثياب حرير ممن يلبسها (2).
أما عدم صحة بيع العنب للخمار، وبيع السلاح للأعداء ونحوهما، فلأنه إعانة على الحرام، أو عقد على شيء لمعصية الله به، فلا يصح. وأما فساد زواج المحلل، فلأنه يتنافى مع أغراض الزواج السامية: وهو أنه عقد مؤبد، قصد به تكوين أسرة دائمة، لإنجاب ذرية تنعم بجو هادئ مطمئن، وهذا الزواج اتخذ لتحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول في وضع مؤقت قلق، فهو حيلة لرفع تحريم مؤبد، وهو قصد غير مشروع.
وأما فساد بيع العينة أو بيوع الآجال، فلأنه اتخذ البيع حيلة لتحليل التعامل بالربا، ولم يكن الغرض الحق هو البيع والشراء، فهو وسيلة لعقد محرم غير مشروع، فيمنع سداً للذرائع المؤدية إلى الحرام.
(1) القواعد لابن رجب: ص322
(2)
مواهب الجليل للحطاب: 254/ 4، ط دار الفكر - بيروت.
والخلاصة: أن هذا الاتجاه يعتد بالمقاصد والنيات، ولو لم تذكر في العقود، بشرط أن يكون ذلك معلوماً للطرف الآخر، أو كانت الظروف تحتم علمه؛ لأن النية روح العمل ولبّه. ويكون هذا الاتجاه آخذاً بنظرية السبب التي تتطلب أن يكون السبب مشروعاً، فإن لم يكن سبب العقد مشروعاً، فلا يصح العقد.
أما في الأحوال غير المصحوبة بنية غير مشروعة أو بباعث سيء، فهل يصح العقد بنية تحول صفة العقد؟.
يرى المالكية والحنفية: أن للنية تأثيراً في صيغة العقود، فقالوا: يصح عقد الزواج بكل لفظ يدل على تمليك العين في الحال، كالتزويج والنكاح والتمليك، والجعل، والهبة والعطية والصدقة، بشرط توافر النية أو القرينة الدالة على أن المراد باللفظ هو الزواج، وبشرط فهم الشهود للمقصود،؛ لأن عقد الزواج كغيره من العقود التي تنشأ بتراضي العاقدين، فيصح بكل لفظ يدل على تراضيهما وإرادتهما (1).
أما البيع والإقالة والإجارة والهبة فلا تتوقف على النية، فلو وهب مازحاً صحت. لكن قال الحنفية (2): إن عُقِد البيع بمضارع لم يصدَّر بسوف أو السين توقف على النية، فإن نوى به الإيجاب للحال، كان بيعاً، وإلا لا، بخلاف صيغة الماضي، فإن البيع لايتوقف على النية. وأما المضارع المتمحض للاستقبال فهو كالأمر، لا يصح البيع به ولا بالنية، ولا يصح البيع مع الهزل، لعدم الرضا بحكمه معه.
(1) فتح القدير: 346/ 2، الدر المختار ورد المحتار: 368/ 2 ومابعدها، الشرح الكبير للدردير: 220/ 2 ومابعدها، بداية المجتهد: 168/ 2، القوانين الفقهية: ص195.
(2)
الأشباه والنظائر لابن نجيم: ص 18، 20 وأما الإقرار والوكالة والإيداع والإعارة والقذف والسرقة، فلا تتوقف على النية.