الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
59 -
كِتَابُ بَدْءِ الخَلقِ
1 - مَا جَاءَ فِي قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ، وَالْحَسَنُ: كُلٌّ عَلَيْهِ هَيِّنٌ هَيْنٌ، وَهَيِّنٌ مِثْلُ لَيْنٍ وَلَيَّنٍ، وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ، وَضَيْقٍ وَضَيِّقٍ. {أَفَعَيِينَا}: أفَأَعْيَا عَلَيْنَا حِينَ أنشَأَكُمْ وَأَنْشَأَ خَلْقَكُمْ، لُغُوبٌ: النَّصَبُ. {أَطْوَارًا} : طَوْرًا كَذَا، وَطَوْرًا كلذَا، عَدَا طَوْرَهُ؛ أَيْ: قَدْرَهُ.
(كتاب بَدْء الخَلْق) بالهمز، أي: ابتدائِه.
(باب ما جاءَ في قَول اللهِ عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ} الآية [الروم: 27])
(أهون)؛ أي: هيِّن، فالبِداءة والإعادَة سواءٌ بلا تفاوُت، كلٌّ منهما هيِّنٌ عليه، فهذا غرَضه مِن تقريره بما ذكَره.
(أفعيينا)؛ أي: في قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15] معناه.
(أفأعيا علينا)؛ أي: ما أَعجزَنا الخَلْقُ الأوَّلُ، حتَّى تُعجِزَنا الإعادة.
(حين أنشأكم) الأصل أن يقول في تفسيره: أَنشأْناكم، لكنَّه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيبة، أو قصد الإشارة إلى قوله تعالى في آيةٍ أُخرى:{إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم: 32]، فذكَره على وجه التَّفسير.
قال (ك): وهو الظَّاهر، فالمعنى: إذْ قال حين أَنشأَكم، أو هو محذوفٌ في اللَّفْظ، واكتفى بالتَّفسير عن المفسَّر، وهو لفْظ (إذ) في تلك الآية.
(لغوب)؛ أي: في قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، وعبارة "الكشَّاف": اللُّغُوب: الإِعْياء.
(أطوارًا)؛ أي: في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14].
(طورًا كذا)؛ أي: طَورًا نُطفةً، وطورًا علقةً، وطورًا مضغةً، وغير ذلك.
(عدا طوره)؛ أي: ويُقال: فُلانٌ عَدَا طَورَه، أي: جاوزَ قدْره.
واعلم أنَّ ذكْر هذا كلِّه من استِطراد البُخَارِيّ على عادته فيما إذا ذكَر آيةً أو حديثًا في التَّرجمة.
* * *
3190 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ نَفَرٌ مِنْ بَنِي تمِيمٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"يَا بَنِي تَمِيمٍ! أَبْشِرُوا"، قَالُوا:
بَشَّرْتنا فَأَعْطِنَا، فتغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَجَاءَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ، فَقَالَ:"يَا أَهْلَ الْيَمَنِ! اقْبَلُوا الْبُشْرَى إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ"، قَالُوا: قَبِلْنَا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بَدْءَ الْخَلْقِ وَالْعَرْشِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ! رَاحِلتُكَ تَفَلَّتَتْ، لَيْتَنِي لَمْ أَقُمْ.
الحديث الأول:
(نفر)؛ أي: رجالٌ من ثلاثةٍ إلى عشَرةٍ.
(أبشروا) من الإِبْشار، وجاء ثُلاثيًّا: بَشَرت الرجُل أَبشُره بالضَّم، أي: بشَّرهم صلى الله عليه وسلم بما يقتضي دُخولَ الجنَّة حيث عرَّفَهم أُصول العَقائد: المَبْدأ، والمَعاد، وما بينَهما.
(فأعطنا)؛ أي: من المَال.
(اقْبلُوا) من القَبول.
(راحلتك) هي النَّاقة التي يصلُح أن تُرحَل، وتُطلَق أَيضًا على المَركُوب ذكَرًا كان أو أُنثى.
(تفلتت)؛ أي: بالتاء، أي: تَشرَّدت، أي: أَدرِكْ راحلتَك.
(ليتني لم أقم)؛ أي: من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى لا يفوتَني سماعُ كلامه، فالآخِرةُ خيرٌ وأبقى.
* * *
3191 -
حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا جَامعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ: أنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهما، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ، فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ:"اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ"، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ:"اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ"، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، قَالَ:"كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ"، فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ الْحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ، فَوَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا.
3192 -
وَرَوَى عِيسَى، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يَقُولُ: قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنسِيَهُ مَنْ نسِيَهُ.
الحديث الثاني:
(إذ لم يقبلها) في بعضها: (أن) بفتح الهمزة بمعنى: إذْ قال، قال (ك): وبكَسْرها.
(هذا الأمر)؛ أي: الذي تقدَّم بيانه من بَيان الاعتِقادات في الأُولى والآخرة.
(على الماء)؛ أي: لم يكُن تحته إلَّا الماء.
ففيه أنَّ العرش والماء كانا مخلوقَين قبل السَّماء والأرض، والواو في هذه الجملة بمعنى: ثم.
(وكتب)؛ أي: قدَّر كلَّ الكائنات، وأثبتَها في محلِّ الذِّكْر، وهو اللَّوح المحفوظ، ونحوه.
(تقطع) بالتشديد: فعلٌ ماضٍ، أو بالتَّخفيف مضارع: قطَع.
(السراب) فاعلُه: وهو ما يَراه الإنسانُ وسَط النَّهار كأنَّه ماءٌ، والمعنى: فإذا هي انتهى السَّرابُ عندها (1).
(تركته)؛ أي: حتَّى لا يفوتَني سماع كلامه صلى الله عليه وسلم.
(وروى عيسى)؛ أي: الملقَّب بِغُنْجَار، بضم الغين، وسكون النُّون، ثم جيم، وصلَه الطَّبَراني في (مسند رَقَبَة بن مَصقلَة)، وابن مَنْدَه في "أماليه".
قال الغَسَّاني: فالصَّواب: عيْسى، عن أبي حَمْزة -أي: بمهملةٍ، وزايٍ- السُّكَّري، عن رَقَبَة، فسقَط أبو حَمْزة بينهما، وكذا قالَه أبو مَسعُود الدِّمَشقيّ، وغيره.
(حتَّى) غايةٌ للبَدْء، أو للإخبار، أي: حتَّى أخبَر عن دُخول أهل الجنة.
والحاصل أنَّه أخبَر عن المبتدأ، والمعاش، والمعاد جميعًا.
* * *
(1)"عندها" ليس في الأصل.
3193 -
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُرَاهُ: "يَقُولُ اللهُ: شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتِمَنِي، وَتَكَذَّبَنِي وَمَا يَنْبَغِي لَهُ؛ أَمَّا شَتْمُهُ فَقَوْلُهُ: إنَّ لِي وَلَدًا، وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ فَقَوْلُهُ: لَيْسَ يُعِيدُنِي كَمَا بَدَأَنِي".
الحديث الثالث:
(شتمني) الشَّتْم: الوصْف بما يُزْري ويُنقِص، ولا سيَّما فيما يتعلَّق بالغَيرة، وإثْبات الولَد له من ذلك؛ لأنَّه يستلزِم الإمكان المُتَداعي إلى الحُدوث، قالوا: إنَّ هذا الحديث كلامٌ قُدسيٌّ، أي: نصٌّ إلهي في الدَّرجة الثَّانية؛ لأنَّ الله تعالى أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالإلهام، وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أُمتَه بعبارة نفْسه.
وقد سبق تحقيقه في (كتاب الصوم).
* * *
3194 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا قَضَى اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهْوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي".
الحديث الرابع:
(عنده) ليستْ عنديَّةً مكانيةً؛ لأنها محالٌ، بل إشارةٌ إلى كونه
مكتُوبًا على الخَلْق مرفوعًا عن خبَر إدراكهم.
(فوق العرش) قال (خ): قال بعضهم: أي: دُونه؛ استِعظامًا أن يكون شيءٌ من الخلْق فوق العرش (1)، كما في قوله تعالى:{بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] أي: فما هو أصغَر منها، وقيل:(فوق) زائدةٌ، كما في:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11].
والأحسن أن يُقال: أراد بالكتاب أحدَ شيئَين:
إما: القَضاء الذي قَضاه، وأحبَّه، والمعنى: فعلم ذلك عنده فوق العرش كما قال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه: 52].
وإما: اللَّوح المَحفوظ الذي فيه ذِكْر الخلائق وأحوالهم، فالمعنى: أنَّ ذِكْره، أو عِلْمَه عنده فَوق العَرْش، هذا مع أنَّه لا محذورَ أنْ يكون كتابٌ فوق العَرْش.
(إن رحمتي غلبت) هذا تفسيرٌ للمَكتوب، وهو إشارةٌ إلى سَعَة رحمة الله تعالى، وشُمولها الخلْق، وكأنَّها الغالِب، كما يُقال: غلَب على فُلانٍ الكرَمُ، أي: كان أكثَرَ أفعاله.
والرَّحمة والغضَب وإنْ كانت حقيقتُهما محالةً على الله تعالى، والمُراد لازِمُهما، إما وصفُ ذاتٍ، وهو إرادة الخَير والشَّرِّ، فالسَّبْق حينئذٍ باعتبار التعلُّق، أي: تعلُّق الرَّحمة سابقٌ على تعلُّق الغضَب، وإما صفة فعلٍ هي الإحسان، أو الانتِقام، فهما وصفان للأفعال، لا امتناعَ في
(1)"فوق العرش" ليس في الأصل.