الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أي واحد ووحيد، وتوضع أفعل موضع فعيل نحو قولهم: الله أكبر بمعنى كبير وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي هين (1) وممن يحمل الآية على العموم العلامة ابن كثير في تفسيره قال (2): وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق- رضي الله عنه حتى أن بعضهم (3) حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ عموم وهو قوله: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة؛ فإنه كان صديقا تقيّا كريما جوادا بذالا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل.
وأيّا ما كان المراد من لفظ الأتقى فالآيات نص في الدلالة على فضل الصديق الأكبر- رضي الله عنه وأرضاه-؛ لأن السبب يدخل في الآية دخولا أوليّا.
شبيه بالسبب الخاص مع اللفظ العام
قد تنزل بعض الآيات على الأسباب الخاصة وتوضع مع ما يناسبها من الآي العامة رعاية لنظم القرآن وحسن السياق وتناسب الآيات فيكون ذلك الخاص قريبا من صورة السبب في كونه قطعي الدخول في العام، وقد اختار الإمام ابن السبكي في «جمع الجوامع» أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق التجرد، ومثاله قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ
(1) تفسير القرطبي ج 20 ص 88، وقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ في سورة الروم الآية: 37.
(2)
تفسير ابن كثير والبغوي ج 9 ص 226.
(3)
لعل مراده الإمام الرازي.
الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)[النساء: 51 - 52].
فقد نزلت هاتان الآيتان في كعب بن الأشرف ونحوه من علماء اليهود لما قدموا مكة بعد بدر (1) ليحرضوا قريشا على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بالثأر فنزل كعب بن الأشرف على أبي سفيان بن حرب فأحسن مثواه ونزل بقية اليهود دور قريش فقال سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، أينا أهدى طريقا نحن أم محمد فقال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فذكر له أبو سفيان بعض فضائلهم فقال كعب أنتم- والله- أهدى سبيلا مما عليه محمد وأصحابه
قال هذا مع علمه هو ومن معه من اليهود بما في كتابهم التوراة من نعت النبي الأمي العربي المبعوث في آخر الزمان، وأخذ المواثيق عليهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ولا يكتموا أوصافه، فكان هذا أمانة لازمة لهم وعليهم أن يؤدوها، وكان قول كعب بن الأشرف ومن وافقه خيانة لهذه الأمانة التي ائتمنوا عليها وأمروا بأدائها إذا حان وقتها، وقد وبخهم الله سبحانه وتعالى على خيانتهم هذه ولعنهم وتوعدهم عليها، وقد اقتضى هذا التوعد واللعن الأمر بمقابل خيانتهم، وهو أداء الأمانة الخاصة التي هي بيان صفة النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يجدون نعته عندهم مكتوبا في التوراة، ويعرفونه كما
(1) هذا ما ذكره السيوطي في الإتقان وفي تفسير الجلالين وما ذكره الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع.
وفي تفاسير البغوي والقرطبي والآلوسي أن قدوم كعب وأصحابه كان بعد أحد والصحيح الأول فقد قتل كعب بن الأشرف قبل أحد على الصحيح «البداية والنهاية» (لابن كثير ج 4 ص 5 وما بعدها)
نعم قد جاء في رواية أخرى أن الآيتين نزلتا في الوفد من اليهود الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله وذلك أنهم لما قدموا على قريش سألوهم هذا السؤال فأجابوهم بهذا الجواب ولم يكن في هؤلاء كعب قطعا فلعل من ذكر أن الآية نزلت بسبب الوفد الذين قدموا بعد أحد أراد هذه القصة ولكن وهم في ذكر كعب بن الأشرف في الوافدين.
يعرفون أبناءهم بل أشد، ثم جاء بعده الأمر بأداء الأمانات عامة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)[النساء: 58].
فكانت المناسبة رائعة حقّا، والاتصال وثيقا، والانتقال في غاية الحسن والجمال، إذ أن آية الأمانة عامة في كل أمانة، وما تقدم كان في أمانة خاصة، والعام تال للخاص في الرسم متراخ عنه في النزول، وهذه المناسبة تقتضي دخول ما دل عليه الخاص في العام دخولا أوليّا، فهو كسبب في كونه قطعي الدخول في اللفظ النازل بسببه ولا يجوز خروجه بالإجماع.
وقد اعتبر الإمام ابن السبكي هذا النوع مرتبة متوسطة دون السبب وفوق التجرد؛ أما كونه دون السبب فلأن الأولى ليست سببا في الثانية اصطلاحا وأما كونه فوق التجرد فلهذه المناسبة القوية بين الخاص والعام ودخول الأول في الثاني.
ولا يرد على ما ذكرناه تأخر الآية الثانية عن الأولى بنحو ست سنين؛ لأن الزمان إنما يشترط في سبب النزول لا في المناسبة؛ لأن المقصود منها وضع الآية في الموضع الذي يناسبها، والآيات كانت تنزل على أسبابها ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي علم من الله أنها مواضعها، وهذا الكلام الذي قاله ابن السبكي ونقله عنه السيوطي في الإتقان من الحسن بمكان، وقد نبه إلى هذه المناسبة البديعة بين الآيات الإمام القرطبي في تفسيره (1) حيث قال: وجه النظم بما تقدم أنه- تعالى- أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم وقولهم إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات.
…
(1) تفسير القرطبي ج 5 ص 257.