الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله بوحيه بما أراد، فينتهي به إلى الملائكة فكلما مر بسماء سأله أهلها ماذا قال ربنا قال: الحق، فينتهي به حيث أمر» والحديث وإن لم يكن نصّا في القرآن إلا أن «الوحي»
يشمل وحي القرآن، وغيره، بل يدخل فيه الوحي بالقرآن دخولا أوليا.
وهذا الرأي هو أحد الاحتمالين الّذين جوّزهما «الطيبيّ» وهو مراده بقوله: أن يتلقفه تلقفا روحانيّا.
والاحتمال الثاني: وهو حفظه من اللوح المحفوظ وإن كان غير مستبعد إلا أن ما دل عليه النص أولى، وينبغي أن يصار إليه وهو الأليق بالقرآن الكريم.
وفي تلقي «جبريل» عليه السلام القرآن من ربه دون وساطة: إعظام للقرآن وتفخيم لشأنه، وتنبيه إلى غاية العناية به، والحرص والمحافظة عليه، ومبالغة في صيانته عن التحريف، والتبديل.
ألا ترى في دنيا الناس أن الملوك والرؤساء حينما يرسلون رسولا برسالة كتابية أو شفهية فإنهم يسلمونها لهم بأيديهم أو يقرءونها عليهم مبالغة في الحرص عليها، وشدة الاعتناء بها، وتحذيرا لهم من الخيانة فيها أو عدم تبليغها بنصها، وكمالها، فما بالك بملك الملوك، وبالقرآن الذي هو رسالة الرسالات! ألا ترى أن أحد الملوك أو الرؤساء أو الأمراء إذا أرسل رسالة مهمة، في أمر مهم، لرجل ذي شأن فإنه يتخير لها الرسول، ويأبى إلا أن يختمها بختمه، وأن يناولها إليه بيده، أو أن يقرأها عليه بنفسه مبالغة منهم في الحرص عليها، وصيانتها، وعلى تبليغها كما تلقاها بنصها وفصها من غير تحريف لها ولا تزيد فيها.
فما بالك بالقرآن الذي هو كلام الله ورسالة الرسالات وأحق الكتب بالتحوط والصيانة، والحفاظ عليه.
8 - كيف كان يتلقّى النبي الوحي
كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى عن جبريل- عليه
السلام- على حالتين:
1 -
أن ينسلخ النبي صلى الله عليه وسلم من حالته الشريفة العادية، إلى حالة أخرى، بها يحصل له استعداد، لتلقي الوحي من «جبريل» عليه السلام، وهو على حالته الملكية وفي هذه الحالة قد يسمع عند مجيء الوحي صوت شديد كصلصلة الجرس (1) .. وأحيانا يسمع الحاضرون صوتا عند مجيء الوحي كدويّ النحل .. وتأخذ النبي صلى الله عليه وسلم حالة شديدة روحانية، يغيب فيها عما حوله، ويثقل جسمه، حتى لتكاد الناقة التي يركبها تبرك، وإذا جاءت فخذه على فخذ إنسان تكاد ترضّها ويتصبب عرقه، وربما يسمع له غطيط كغطيط النائم، فإذا ما سرّي عنه وجد نفسه واعيا لكل ما سمع من الوحي فيبلغه كما سمعه، وهذه الحالة أشد حالات الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويشير إلى هذا قوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)[المزمل: 5]؛ وعلى هذه الحالة تلقى القرآن.
2 -
أن يتحول «جبريل» عليه السلام من الملكية إلى الصورة البشرية، فيأتي في صورة رجل، فيأخذ عنه الرسول ويسمع منه .. وكثيرا ما كان جبريل- عليه السلام يأتي في هذه الحالة في صورة «دحية الكلبي» (2)، أو صورة أعرابي لا يعرف (3)، وهذه الحالة أهون الحالين على
(1) قال الخطابي: والمراد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: هو صوت خفق أجنحة الملك، والحكمة في تقدمه، أن يفرغ سمعه للوحي، فلا يبقى فيه مكانا لغيره.
(2)
دحية: بكسر الدال، وكان من أجمل العرب وأنظفهم، ففي صحيح البخاري عن أبي عثمان النهدي أنه قال:«أنبئت أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث معه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من هذا» أو كما قال، قالت: هذا دحية فلما قام- يعني النبي- قالت:- يعني أم سلمة- والله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل أو كما قال. (كتاب فضائل القرآن- باب كيف نزل الوحي).
(3)
وذلك كما في حديث جبريل المشهور الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما ففي رواية لمسلم: «بينما نحن عند رسول الله إذ طلع علينا رجل .. ولا يعرفه منا أحد» وفي الصحيحين أن النبي قال لأصحابه: «ردوا عليّ الرجل» فذهبوا فلم يجدوه فقال:
الرسول. يدل على هاتين الحالين: ما رواه البخاري، في صحيحه بسنده عن عائشة- رضي الله عنها: أن الحارث بن هشام- رضي الله تعالى عنه- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم (1) عني، وقد وعيت منه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا، فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة- رضي الله عنها:
«ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، وأن جبينه ليتفصّد عرقا» وإنما اكتفى النبي في الجواب بهاتين الكيفيتين دون غيرهما من الكيفيات والأنواع؛ لأن الظاهر أن السؤال كان على الوحي الذي يأتي عن طريق جبريل.
والقرآن الكريم لم ينزل منه شيء إلا عن طريق جبريل- عليه السلام ولم يأت شيء منه عن تكليم أو إلهام (2) أو منام، بل كله أوحي به في اليقظة وحيا جليّا، ولا يخالف هذا ما ورد في صحيح مسلم (3) عن أنس- رضي الله عنه قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة (4) .. ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله فقال: إنه نزل عليّ آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)[سورة الكوثر].
إذ ليس المقصود ب «الإغفاءة» في الحديث: النوم، وإنما المقصود:
الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، وهي الغيبوبة عما حوله.
«هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم» .
(1)
الفصم: القطع من غير إبانة، والتعبير به في هذا المقام صادف محز البلاغة؛ لأنه ينقطع عنه صلى الله عليه وسلم ليعود إليه، أما القصم- بالقاف- فهو القطع مع الإبانة.
(2)
سنفصل الكلام عن الوحي وكيفياته فيما يأتي.
(3)
صحيح مسلم- كتاب الصلاة- باب حجة من قال البسملة آية من كل سورة سوى براءة.
(4)
يقال: أغفى إغفاءة، أي (نام نومة خفيفة) والمراد ما كان يعتريه عند الوحي من الغيبوبة عمن حوله.
وقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا، وبهذا يفسّر أيضا ما ورد في بعض روايات هذا الحديث: أنه أغمي عليه.
وقال «السيوطي» في «الإتقان» (1) بعد أن ذكر أن من كيفيّات الوحي تكليم الله إما في اليقظة وإما في المنام: «وليس في القرآن من هذا النوع شيء- فيما أعلم- نعم يمكن أن يعد منه آخر سورة «البقرة» لما تقدم (2)، وبعض سورة «الضحى» و «ألم نشرح» ، فقد أخرج «ابن أبي حاتم من حديث عديّ بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته، فقلت: أي رب، اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فقال: يا محمد، ألم أجدك يتيما فآويت، وضالا فهديت، وعائلا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي» .
وما أشار إليه فيما تقدّم: هو ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال: «لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى ..
الحديث» وفيه: «فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثا، أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك- من أمته- بالله شيئا .. المقحمات (3)» .. وفي «الكامل» للهذليّ: نزلت آمَنَ الرَّسُولُ إلى آخرها بقاب قوسين» (4).
وأعقب على ما ذهب إليه الإمام «السيوطي» إمكانا: بأن رواية «مسلم» ليس فيها تصريح بنزول خواتيم سورة «البقرة» عن طريق تكليم الله، فلعلّ المراد بإعطائه إيّاها: إعلام الله له باختصاصه صلى الله عليه وسلم وأمته بما تدلّ عليه؛ تمنّنا عليه في هذا الموقف العظيم .. ألا ترى أنه أعطي الصلوات الخمس، وفرضت مع أنها لم ينزل فيها قرآن هذه الليلة! وليس في رواية الهذليّ
(1) الإتقان ج 1 ص 45.
(2)
يعني في كتابه الإتقان.
(3)
الكبائر.
(4)
الإتقان ج 1 ص 23.