الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا المعنى الذي أراده الحق سبحانه- فيما أراده من حكم لنزول القرآن منجما ومفرقا قطعا قطعا- هو غاية ما وصل إليه أهل التربية في حفظ النصوص الطويلة، وتسهيل فهمها.
وهذا المعنى التربوي ما كان يجول بخاطر بشر في هذا العصر، وفي هذه البيئة البدوية، مما يدل على أن منزّل القرآن على هذه الطريقة البديعة هو الله .. العالم بالطبائع البشرية، والنفوس وأسرارها.
الحكمة الثانية:
التدرج في تربية الأمة دينيّا وخلقيّا واجتماعيّا، وعقيدة وعلما وعملا، وهذه الحكمة هي التي أشار إليها الحق- تبارك وتعالى بقوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106)[سورة الإسراء: 106]، ويندرج تحت هذه الحكمة ما يأتي:
التدرج في انتزاع العقائد الفاسدة، والعادات الضارة والمنكرات الماحقة، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يعبدون الأصنام، ويشركون بالله غيره، ويسفكون الدماء، ويشربون الخمر، ويزنون، ويغتصبون الأموال، ويئدون البنات خشية العار، ويقتلون الأولاد خشية الفقر، ويظلمون النساء، ويتزوجون نساء الآباء، ويجمعون بين الأختين، كما كانوا يتظالمون، ويقع بينهم الحروب لأوهى الأسباب كناقة رعت من حمى، أو سبق فرس، أو نحو ذلك. وكانت الحروب تدوم بينهم عشرات الأعوام
حتى تأكل الأخضر واليابس، وكان التكافل والتعاون بينهم يكاد يكون معدوما فلا تراحم بين الأغنياء والفقراء، ولا بين السادة والعبيد ولا بين الأقوياء والضعفاء.
ومعلوم: أن النفس يشق عليها ترك ما تعودته مرة واحدة «وشديد عادة منتزعة» والإقلاع عما اعتقدته بمجرد النهي عنه؛ لأن للعقائد- حتى ولو كانت باطلة- وللعادات- ولو كانت مستهجنة- سلطانا على النفوس، والناس أسراء ما ألفوا، ونشئوا عليه، فلو أن القرآن نزل جملة واحدة،
وطالبهم بالتخلي عمّا هم منغمسون في حمأته من كفر وجهل ومنكرات مرة واحدة لما استجاب إليه أحد، ولما وفّق الرسول في أداء مهمته، ولعاد ذلك بالنقض على الشريعة الجديدة.
لذلك اقتضت حكمة الله سبحانه- ولله الحكمة البالغة- أن يتدرج معهم في انتزاع هذه العقائد والمنكرات، فينهاهم عن عبادة غير الله، فإذا ما أقلعوا عنه، أخذ في النهي عن منكر غيره .. وهكذا.
وكذلك كان القرآن يتدرج معهم في انتزاع المنكر الواحد، كما حدث في تحريم الخمر، فقد نزل فيها أول ما نزل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: 219] فشربها قوم، وتركها آخرون، ثم إن بعض المسلمين صنع طعاما، ودعا أصحابه؛ فأكلوا وشربوا ثم قام أحدهم ليصلي بهم، فقرأ «قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون» فأنزل الله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] فكانوا يتركونها عند الصلوات، وفي الأوقات القريبة منها؛ حتى لا يقعوا في مثل هذا الخلط.
وبذلك صار من السهل تحريمها تحريما باتّا قاطعا؛ فقد صنع بعض المسلمين طعاما، فأكلوا وشربوا حتى لعبت الخمر برءوسهم فتقاولوا الأشعار فتشاجروا حتى شج أحدهم رأس الآخر، فقال الفاروق «عمر»:
«اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا» فحرّمها الله تحريما باتّا بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [سورة المائدة:
90 -
91] فقال «عمر» : انتهينا (1) فمن ثم .. اقتضت الحكمة نزول القرآن مفرقا.
2 -
التدرج في تثبيت العقائد الصحيحة، والأحكام التعبدية والعملية والآداب والأخلاق الفاضلة، فأمرهم أولا: بالإيمان بالله وصفاته، وعبادته
(1) انظر تفاسير: الكشاف، وابن كثير، والقرطبي، والآلوسي في آيات الخمر.
وحده، حتى إذا ما آمنوا بالله دعاهم إلى الإيمان باليوم الآخر، ثم بالإيمان بالرسل، والملائكة، حتى إذا ما اطمأنت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبّه، سهل عليهم بعد ذلك تقبل الأوامر والتشريعات التفصيلية، والأحكام العملية والفضائل والآداب العالية، فأمروا بالصلاة والصدق والعفاف، ثم أمروا بالزكاة، ثم بالصوم ثم بالحج، وبيّنت لهم أحكام النكاح والطلاق والرجعة والمعاملات، من بيع وشراء، وتجارة وزراعة، ودين ورهن ..
إلى غير ذلك من المعاملات الصحيحة منها وغير الصحيحة.
ولذلك كان مدار الآيات في القسم المكي على إثبات العقائد والفضائل التي لا تختلف باختلاف الشرائع. بخلاف القسم المدني، فكان مدار التشريعات فيه على الأحكام العملية والتشريعات التفصيلية التي تتعلق بصيانة الدماء، والأعراض، والأموال، وصيانة العقول، والمحافظة على الأنساب سواء منها ما يتعلق بالمجتمع الصغير وهي الأسرة، أو ما يتعلق بالمجتمع الكبير وهي الأمة، وذلك كأحكام النكاح والطلاق والرجعة والعدة، والحضانة والنفقة، وكالحدود، والعقود، والمعاهدات والسياسات ونحوها. وتفصيل ما أجمل قبل ذلك من الآداب والفضائل.
وقد أشارت السيدة العاقلة العالمة، التي تربت في منزل الوحي «عائشة» رضي الله عنها إلى هذه الحكمة، فقالت- كما ورد في صحيح البخاري-:«إنما نزل من القرآن أول ما نزل منه «سورة» (1) من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا» (2).
ولا شك أن من طبيعة التدرج نزول آيات القرآن، وسوره بعضها في أثر
(1) لعل مرادها: سورة «المدثر» فإنها أول ما نزلت بعد فترة الوحي ففيها الأمر بتوحيد الله، وذكر الجنة والنار، أو أن مرادها بالسورة الجنس أي سور من المفصل، وسور المفصل تدور حول تثبيت العقائد والفضائل، وذكر الجنة والنار.
(2)
صحيح البخاري- كتاب فضائل القرآن- باب تأليف القرآن.
بعض، وقد دل القرآن بهذه السياسة الرشيدة في إصلاح الشعوب وتهذيبها على أنه معجز، وأنه من عند الله؛ فما كان لبشر- مهما كان ذكيّا- أن يتوصل إلى هذه الطرق الحكيمة في ذلك الوقت الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذلك من صنع الحكيم العليم الخبير.
3 -
تيسير حفظه وفهمه على الأمة، فقد أوجب الله على المسلمين حفظ ألفاظه، كما أوجب عليهم فهم معانيه، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ
(29)
[سورة ص: 29]، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) [سورة محمد: 24].
وقد ابتلي المسلمون في مكة بالمشركين، كما ابتلوا في المدينة باليهود والمنافقين هذا إلى اشتغالهم بأمور معايشهم، وبإقامة الدين، ونشر الإسلام، والدفاع عن دعوته، فلو نزل القرآن مرة واحدة لما أمكنهم حفظه ولا فهمه مع وجود هذه الملابسات والظروف المحيطة بهم.
لذلك اقتضت حكمته أن ينزل القرآن مفرقا، حتى إذا ما نزلت قطعة منه أمكنهم أن يحفظوها ويجيدوا فهمها.
4 -
تثبيت قلوب المؤمنين، وتعويدهم على الصبر والتحمل بذكر قصص الأنبياء والسابقين الفينة بعد الفينة، وتذكيرهم بأن النصر مع الثبات والصبر، وأن العاقبة للمتقين، والخذلان والخسران للكافرين، اقرأ- إن شئت- قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)[سورة البقرة: 214]، فقد ذكر «عطاء» أن المسلمين لما هاجروا إلى المدينة، وتركوا الأهل والوطن والمال، وآثروا رضاء الله ورسوله، وتعرضوا لألوان من الإيذاء والجهد والفقر والمرض، ومعاداة اليهود والمنافقين لهم، شق ذلك على نفوسهم، فأنزل الله هذه الآية.
وقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)[سورة آل عمران: 142]، وقال تعالى: الم (1) أَحَسِبَ