الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم ينبسوا ببنت شفة، ورضوا لأنفسهم السكوت وباءوا بالعجز، بل عجزهم أشد من عجز أهل مكة، ثم أي دارس للأدب تسول له نفسه أن يفضل أهل المدينة على أهل مكة في البلاغة والفصاحة والتصرف في فنون القول والقدرة على إنشاء العبارات!
ومعروف أن قريشا كانت أوسط العرب دارا وأبرعهم في الخطابة والشعر والتفنن في الأساليب، وإليها كان يحتكم العرب في شعرهم ونثرهم، وقد ساعدها على هذا اجتماع العرب في مواسم الحج، والمجامع الأدبية الحافلة، والأسواق السنوية التي كانت تعقد بالقرب من دارهم في عكاظ ومجنة وذي المجاز، فكانوا يتخيرون من لغتهم ما خف على اللسان، وحسن في الأسماع وجاد من الأساليب.
الشبهة الثانية
قال: إن القسم المكي يمتاز بميزات الأوساط المنحطة أما القسم الثاني المدني فتلوح عليه أمارات الثقافة والاستنارة، فالقسم المكي ينفرد بالعنف والشدة والقسوة والسباب والوعيد والتهديد مثل: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) السورة، وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2)، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ أما القسم المدني: فهادئ لين وديع مسالم يقابل السوء بالحسنى.
وللرد على ذلك نقول:
1 -
إن القسم المكي فيه ثقافة واستنارة أيضا، وفيه سمو ورفعة ووقار وجلال ولين، وهو إن قسا فعلى الكافرين والمفسدين، وإذا لان فللأخيار والصالحين وهو في كلا الحالين يدعو لخير الإنسانية جمعاء وعباراته مهذبة غاية التهذيب، وكيف لا يكون فيه ثقافة واستنارة وقد تحدث أكثر ما تحدث عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعن الفضائل والآداب الإنسانية السامية، وبحسبك أن تقرأ أي سورة من السور المكية لتعلم ذلك علم اليقين، ثم ماذا يريد هذا الطاعن بالسباب إن أراد البذاءة والفحش
من القول فقد كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا، وإن أراد ما اشتمل عليه من الوعيد والإنذار والتقريع فهذا لا يسمى سبابا إلا في دماغ قائله، وكنا نحب من الناقد المخرب أن يربأ بنفسه وأدبه عن هذا الإسفاف في التعبير حينما يتحدث عن كتاب كالقرآن العظيم.
2 -
دعواه أن القسم المكي اشتمل على الوعيد والشدة دون القسم المدني دعوى من لم يطلع على القرآن الكريم، أو اطلع ولكن أعمته عصبيته عن إدراك الحق المبين، فالقسم المدني اشتمل على الوعيد والإنذار كما أن القسم المكي اشتمل على الدعوة إلى اللين والعفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان.
استمع إلى قول الحق تبارك وتعالى في سورة البقرة المدنية الآية 174:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)، وقوله في سورة آل عمران المدنية الآية 10: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)، وفي سورة النساء المدنية الآية 47: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) وفي سورة المائدة الآية 78 - 81: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الآيات، إلى غير ذلك من آيات الوعيد في القسم المدني، ثم استمع إلى ما جاء في السور المكية حثّا على اللين والعفو والتسامح؛ قال تعالى في سورة الأعراف المكية الآية 199: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)، وقال في سورة فصلت المكية الآية 34 - 35: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وفي سورة الشورى المكية الآية 36 - 43: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إلى قوله وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) فأيّ لين ووداعة بعد هذا وأي دعوة إلى الصبر والعفو والمغفرة تداني هذه الدعوة
وهكذا نرى القرآن الكريم يسلك مسلك الوعيد والشدة متى اقتضى المقام ذلك ويسلك مسلك اللين والعفو والصفح إذا اقتضى الحال ذلك، وهذا هو الأسلوب الحكيم، ويرحم الله القائل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما
…
فليقس أحيانا على من يرحم
والقائل:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
…
مضر كوضع السيف في موضع الندى
3 -
هذه السور والآيات التي ذكرها الطاعن ليس فيها رائحة سباب، ولو علم سبب النزول والمراد بالآيات لما رمى بهذه القولة الجائرة، وإليك ما ورد في سبب نزول سورة أبي لهب. أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» ، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال:«أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ» قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا قال:
«إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) وأخرج ابن جرير أن امرأة أبي لهب كانت تأتي بأغصان الشوك فتطرحها في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل كانت تنقل الحديث وتمشي بالنميمة بين الناس؛ فالسورة إذا نزلت ردا على أبي لهب في دعائه على النبي، وإيذائه له، وإنذارا له ولزوجه بأنهما سيصليان النار الشديدة جزاء لهما على ما صنعا، ولا شك أن في هذا
الوعيد ردعا لأبي لهب وزوجته وأمثالهما ممن يناهضون رسالات الرسل ويسعون في الأرض بالفساد ولا أدري في أي عرف أو ذوق يعتبر إنذار مثل هذا المعوق عن الخير والحق أمرا خارجا عن المألوف وسبابا وشدة وماذا كان ينتظر هذا الطاعن في الرد على أبي لهب وزوجته أكان ينتظر من منزل القرآن الحكيم أن يظهر له الرضا على مقالته ويقول له: بخ بخ فيزداد بطرا وأشرا!
وأما سورة «والعصر» فليس فيها ما يشتم منه السباب، وليس فيها عنف ولا شدة وكل ما عرضت له السورة أن الناس قسمان:
1 -
قسم ناج من الخسران والعذاب فائز برضوان الله، وهم الذين جمعوا عناصر السعادة الأربعة؛ وهي الإيمان بالله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
2 -
قسم غارق في الخسران، مآله إلى الهلاك والعذاب، وهم الذين لا يقرون بإله ولا يدينون بشريعة ولا يعملون صالحا: فهم جراثيم شرور، ولا يتواصون بحق؛ فالحق بينهم مضيع، ولا يتواصون بصبر؛ فهم في هلع وجزع، ومما لا يقضى منه العجب أن يستشهد هذا الناقد بهذه السورة التي أقر بكفايتها وغنائها الأئمة في القديم والحديث؛ قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده- رحمه الله: ثم تراها لم تدع شيئا إلا أحرزته في عباراتها الموجزة، حتى قال الإمام الشافعي- رحمه الله: لو تدبر الناس هذه
السورة لوسعتهم! أو قال: لو لم ينزل الله من القرءان سواها كلفت الناس ولجلالة ما جمعت روي أنه كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة «والعصر» ثم يسلم أحدهما على الآخر؛ ذلك ليذكّر كل منهما صاحبه بما يجب أن يكون عليه فإذا رأى منه شيئا ينبغي أن ينبه إليه فعليه أن يذكره له (1).
وأما قوله تعالى في سورة الفجر: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَ
(1) تفسير جزء عم ص 154.