الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن نواهيه والاعتبار بمواعظه وقصصه والتأدب بآدابه وأخلاقه، وتبليغه إلى الناس كافة، فمن ثم كان النبي صلوات الله وسلامه عليه مرجع المسلمين في حفظ القرآن، وفهمه، والوقوف على أسراره، ومراميه.
حفظ الصحابة للقرآن:
وأما الصحابة رضوان الله عليهم فقد جعلوا القرآن في المحل الأول، يتنافسون في حفظ لفظه ويتسابقون في فهم معناه، وجعلوه مسلاتهم في فراغهم، ومتعبدهم في ليلهم، حتى لقد كان يسمع لهم بقراءته دوي كدوي النحل كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) [الذاريات:
17 -
18]؛ ولقد وصفهم واصف فقال: كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار، وكان اعتمادهم في الحفظ على التلقي والسماع من الرسول، أو ممن تلقاه من الصحابة من الرسول، وما كانوا يعتمدون في حفظه على النقل من الصحف والسطور؛ لأن الاعتماد في حفظ القرآن على الصحف والمكتوب يفوت على القارئ ركنا مهما من أركان أداء القرآن الكريم على وجهه الصحيح، وهو «علم التجويد» .
ومن خصائص هذه الأمة حفظها لكتاب ربها وهو القرآن ففي الحديث الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربي قال لي: قم في قريش فأنذرهم، قلت أي ربي إذن يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة، فقال: إني مبتليك ومبتل بك، ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا، فابعث جندا أبعث مثلهم،
وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق ينفق عليك» (1).
فقد أخبر أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء وإنما محلّه القلوب كما جاء في وصف هذه الأمة «أناجيلهم في صدورهم» (2) بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرءونه كله إلا نظرا لا عن ظهر قلب.
فلا عجب والحال كما سمعت أن حفظ القرآن جم غفير من الصحابة منهم الخلفاء الأربعة وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس، وابن الزبير، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وأبوه، وغيرهم من المهاجرين، ومن الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وأبو زيد، ومهما يكن من شيء فقد حفظ القرآن الكثيرون من الصحابة في عهد النبي؛ ولقد روي أنه قتل في يوم بئر معونة سبعون من القراء.
رواية مشكلة: ولكن يشكل على ما ذكرنا ما رواه البخاري في صحيحه (3) عن أنس بن مالك قال: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة، أبو الدرداء،
(1) الحديث بتمامه كما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلته عبدي حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم ينزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا، وإن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك
…
» الحديث (كتاب الجنة ونعيمها، وصفة أهلها- باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل (النار)، يثلغوا رأسي: يشدخوه ويشجوه كما يشج الخبز.
(2)
المراد كتابهم المقدس وهو القرآن لأن المسلمين ليس لهم أناجيل، وإنما ذلك للنصارى، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره عن قتادة في قوله: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) [الأعراف:
154] قال موسى: رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلها أمتي!! قال: تلك أمة أحمد، قال: ربي إني أجد في الألواح نبي أمة هم الآخرون السابقون رب فاجعلها أمتي قال: تلك أمة أحمد، قال رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، رب اجعلهم أمتي! قال تلك أمة أحمد، قال قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد.
(3)
كتاب فضائل القرآن- باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، وأبو زيد هذا اسمه قيس بن السكن كما رواه ابن أبي داود بإسناد صحيح على شرط البخاري عن أنس:
«أنّ أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السكن، قال: وكان رجلا منا من بني عدي بن النجار، أحد عمومتي، ومات ولم يدع عقبا ونحن ورثناه» (1) قال ابن أبي داود: قد مات قريبا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فذهب علمه، وكان عقبيا بدريا.
والحق أن لا إشكال؛ لأن مراد أنس الحصر الإضافي لا الحقيقي حتى يشكل الأمر إذ لا يتم له الحصر الحقيقي إلا إذا كان أنس لقي كل الصحابة وسألهم واحدا واحدا حتى يتم له الاستقراء، وهذا أمر مستبعد في العادة، ويدل أيضا على أن أنسا لم يقصد القصر الحقيقي أنه سأله قتادة عمن جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أربعة كلهم من الأنصار، أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، قلت من أبو زيد قال أحد عمومتي» رواه البخاري فقد ذكر في هذه الرواية «أبي بن كعب» بدل «أبي الدرداء» زد على هذا ما استفاض من أن الذين حفظوا القرآن على عهد الرسول كثيرون غير هؤلاء منهم الخلفاء الأربعة؛ ومما لا يرتاب فيه أن الصديق رضي الله عنه كان يحفظ القرآن جميعه في حياة الرسول لكثرة ملازمته له وحرصه على تلقف كل ما يصدر عنه، وفي الصحيح أنه بني له مسجدا وهو في مكة في فناء داره فكان يقرأ فيه القرآن على ما كان فيه من جهد وبلاء حتى لقد خاف المشركون على نسائهم وأبنائهم أن يفتتنوا بقراءته، ومنهم عبد الله بن مسعود، فقد كان أول من جهر بالقرآن بمكة، وأخذ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة.
وقد أجاب العلماء السابقون- أثابهم الله- على حديث أنس؛ فمن قائل:
(1) فتح الباري ج 9 ص 51 - 53 ط السلفية، الإتقان ج 1 ص 199 - 203 طبعة المشهد الحسيني.
1 -
لم يجمع القرآن غير هؤلاء الأربعة تلقينا من الرسول، أما غيرهم فأخذوا بعضه بالتلقين وبعضه بالواسطة.
2 -
ومن قائل: أن المراد بالجمع الكتابة.
3 -
ومن قائل: لم يجمعه بجميع حروفه وقراءاته غير هؤلاء إلى غير ذلك من التأويلات.
4 -
والحق ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر في الفتح من أن ذلك بالنسبة إلى الخزرج دون الأوس فلا ينافي أن الكثيرين غيرهم من المهاجرين قد حفظوه قال الحافظ: وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف؛ وقد ظهر لي احتمال آخر وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين؛ لأنه قال ذلك في معرض المفاخرة بين الأوس والخزرج كما أخرجه ابن جرير بسنده عن أنس قال: «افتخر الحيان الأوس والخزرج فقال الأوس: منا أربعة: من اهتز له العرش، سعد بن معاذ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين، خزيمة بن ثابت، ومن غسلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومن حمته الدّبر (1)، عاصم بن أبي ثابت (2) فقال الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم فذكرهم (3).
وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقد أتم حفظه الألوف المؤلفة من الصحابة وبحسبك أن تعلم أن من قتل من القراء في موقعة اليمامة كانوا سبعمائة على ما قيل، وعن الصحابة حفظه الألوف المؤلفة من التابعين، وهكذا دواليك، تلقته طبقة عن طبقة بالحفظ والعناية والصيانة، حتى وصل إلينا القرآن الكريم، من غير زيادة ولا نقصان ولا تحريف ولا تبديل، فكان تصديقا لقول الله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9).
(1) الدبر: جماعة النحل، والزنابير.
(2)
هكذا جاء في الإتقان، والصحيح عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، انظر: الإصابة ج 2 ص 244.
(3)
الإتقان ج 1 ص 71.