الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه من فكرة العقل الباطن لا تساعدهم بل ترد عليهم.
وبعد: فلعلك أيقنت أن ما ذهبوا إليه من فكرة الوحي النفسي إنما قصدوا بها إبطال الوحي المحمدي، ولكن يأبى الله والراسخون في العلم ذلك، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) [سورة التوبة: 32].
13 - قصة جان دارك
إن تمثيلهم الوحي المحمدي بما زعمته جان دارك الفرنسية من أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، وأنها سمعت صوت الوحي يأمرها بذلك تجن على الرسالة المحمدية،
والوحي المحمدي، وأين الحصا من نجوم السماء، بل أين السراب من زلال الماء
إن (جاك دارك) لم تدّع النبوة، ولو أنها ادعتها لما صدّقت؛ لأن دعوى النبوة لا تثبت إلا بدليل، وهي المعجزة، وأين ما ظهر على يدها من معجزات وإنما هي فتاة قوية القلب، مرهفة الحس، أهاج وجدانها، وحركه ما كانت تتصف به من شعور ديني كريم، وما كان يعانيه قومها من ذل وعبودية، لقد تلاقى شعورها الديني، وشعورها السياسي، فاستنهضت قومها للجهاد، وقادتهم إلى التخلص من الاستعباد، وقد صادفت دعوتها هوى في نفوس قومها، فأجابوها وخرجوا معها، وكان لهم النصر على العدو، وكونها استغلت مزاعمها في إثارة النفوس وإلهاب الحماس لا يقتضي أنها صادقة فيما زعمت، وما أسهل تهييج حماس أهل فرنسا بمثل هذه المؤثرات، وبما هو أضعف منها، فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين بكلمة شعرية يقولها ككلمته عند الأهرام، فهي لم تزد عن كونها امرأة شجاعة متدينة، امتلأ قلبها بحب بلادها، ورغبتها في تخليصها من عدوها فقادت جيشا قوامه عشرة آلاف جندي وضابط، وانتصروا على الإنجليز.
وإليك ما ذكره البستاني عنها في (دائرة معارفه) قال: «كانت متعودة
الشغل خارج البيت كرعي المواشي، وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت، وكان الناس في جوار (دومري) - يعني بلدها- متمسكين بالخرافات، ويميلون إلى حزب (أوليان) في الانقسامات التي مزقت مملكة فرنسا، وكانت (جان) تشترك في الهياج السياسي والحماس الديني، وكانت كثيرة التخيل والورع، تحب أن تتأمل في قصص العذراء، وعلى الأكثر في نبوءة كانت شائعة في ذلك الوقت، وهي أن إحدى العذارى ستخلص فرنسا من أعدائها، ولما كان عمرها ثلاث عشرة سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة الطبيعية، وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها، ورؤى كان تراها، ثم بعد ذلك ببضع سنين خيل لها أنها قد دعيت لتخلص بلادها، وتتوج ملكها، ثم أدفع (البرغنيور) تعديا على القرية التي ولدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خيّل لها» (1).
وكان انتصارها سنة (1429 م) ثم ذكر أنها بعد ذلك زالت أخيلتها الحماسية، ولذلك هوجمت في السنة التالية (1430 م) فانكسرت وجرحت وأسرت.
وهكذا يتبين لنا مما ذكره أن دعوتها شبيهة بدعوات من زعم أنه المهدي المنتظر، ودعوة الباب الإيراني، وكذا البهاء والقادياني، وأمثالهم ممن زعموا أنهم يوحى إليهم، ووجدوا من يغتر بدعواتهم، فأين هذه النوبة العصبية القصيرة الأجل المعروفة السبب، والتي لا دعوة فيها إلى دين وعلم ولا إصلاح اجتماعي أو أخلاقي، والتي لم تلبث أن أفل نجمها، وغربت شمسها، أين هذه الدعوة من دعوة الأنبياء ولا سيما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هذه الدعوة التي قامت في بيئة هي أبعد ما تكون عن العلم والمعرفة وأقوى ما تكون عنادا وصلابة وعنجهية، والتي تعرضت لتكالب جيوش الشر والغدر، والحقد والعصبية من العرب والرومان والفرس، فإذا بها تصرعهم جميعا، وتهزمهم في عقر دارهم، وتتمخض عن ميلاد أمة هي خير أمة أخرجت
(1) الوحي المحمدي ص 79 - 80.