الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمر من نسخ السنة بالسنة، ويكون قولها في الحديث «فتوفي رسول الله وهن مما يقرأ من القرآن» أي من حكم القرآن على أنه سنة لا قرآن، ولا شك أنهم كانوا يعنون بحفظ السنة أيضا، أو يكون المراد وهن فيما يعلم من أحكام القرآن.
2 -
وللحديث تأويل آخر، وهو أنه يحمل على أنه كان قرآنا ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وبعد النسخ لم يعد يسمى قرآنا ولا له حكمه، فإن قيل: هذا تأويل مقبول لولا ما يعارض من قولها: «فتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن» قلت: إن غرضها الإخبار بأن هذا النسخ لم يقع إلا قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فعلم بالنسخ الكثيرون، وتركوا القراءة به، ولم يعلم البعض، فبقي هذا البعض على القراءة حتى تيقنوا فيما بعد نسخه فتركوا القراءة به؛ قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: ومعناه أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جدّا، حتى أنه صلى الله عليه وسلم توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنا متلوا لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى (1).
وهذا الجواب إنما يتم على مذهب من يرى أن من أقسام النسخ ما نسخت تلاوته وبقي حكمه، وهذا النوع قد أنكره بعض العلماء، قال الإمام السيوطي في الإتقان (2): حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم إنكار هذا الضرب، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها.
هذا ولعل الوجه الأول في الجواب أولى وأسلم.
الشبهة الثامنة
: ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» وفي رواية أخرى له أيضا
(1) المرجع السابق.
(2)
ج 2 ص 26.
نحو هذا وفي آخرها قال ابن عباس: فلا أدري من القرآن هو أم لا قال:
وسمعت ابن الزبير يقول: ذلك على المنبر.
وروي عن أنس عن أبي قال: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1)(1).
ورواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس وفي آخره: فلا أدري أمن القرآن هو أم لا
وفي رواية أخرى له عن أنس مثله وفي آخره: فلا أدري أشيء نزل أم شيء كان يقوله وروى عن أبي موسى الأشعري قصة وفيها: وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها «لو كان لابن آدم واديان
…
إلخ» (2) كما روي في غير الصحيحين فظاهر هذه الروايات أنها كانت قرآنا، ولكن أنى هي في المصاحف المقروءة اليوم
والجواب:
1 -
إن هذه الروايات كلها لا تدل على أن هذا قرآن؛ إذ القرآن لا يثبت إلا بالتواتر؛ وغاية ما تدل عليه أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وها أنت قد رأيت أن بعض الروايات قد جاءت مصرحة بأن ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، وأما الروايات التي فيها إيهام أن ذلك قرآنا؛ فإنما جاءت على صيغة الشك كما سمعت، وإذا كان الجزم في هذا لا يثبت القرآنية، فما بالك بالشك والتردّد وليس من ريب في أنه إذا تعارض اليقين والشك فالرجحان لليقين وعليه فتكون الروايات التي نسبت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من كلامه هي المعول عليها، وهذا الذي ذهبنا إليه هو ما سبق إليه أئمة العلم.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (3) تعليقا على قول أبي: كنا نرى (4) هذا
(1) فتح الباري ج 11 ص 212 ومسلم شرح النووي 7/ 189.
(2)
الإتقان في علوم القرآن ج 2 ص 25.
(3)
ج 11 ص 215.
(4)
نرى بضم النون بمعنى نظن.
من القرآن حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) ووجه ظنهم أن الحديث المذكور من القرآن ما تضمنه من ذم الحرص على الاستكثار من جمع المال والتقريع بالموت الذي يقطع ذلك، ولا بد لكل أحد منه فلما نزلت هذه السورة وتضمنت معنى ذلك مع الزيادة عليه علموا أن الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
إن هذا كان قرآنا ثم نسخت تلاوته لما أنزل الله أَلْهاكُمُ ثم بقي حكم ذلك مقررا، قال الحافظ ابن حجر: وقد شرحه بعضهم على أن ذلك كان قرآنا ونسخت تلاوته لما نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) فاستمرت تلاوتها، فكانت ناسخة لتلاوة ذلك، فأما الحكم والمعنى فيه فلم ينسخ؛ إذ نسخ التلاوة لا يستلزم المعارضة بين الناسخ والمنسوخ؛ كنسخ الحكم، والأول أولى، وليس ذلك من النسخ في شيء، ومراد الحافظ بالأول أي أنه من كلام النبوة لا قرآنا، ولعل مما يشهد لهذا التأويل الثاني ما ورد في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح مسلم، وهو ما ذكرناه آنفا، وهذا الوجه لا يثبت إلا بتسليم كونه قرآنا في أول الأمر، ودون إثبات ذلك خرط القتاد؛ إذ القرآن لا يثبت بالآحاد كما هو رأي المحققين.
3 -
إن هذا من قبيل الأحاديث القدسية، التي هي من الله، وقد ورد في بعض الروايات التصريح بنسبته إلى الله بلفظ:«إن الله يقول» ويشهد لذلك أن اسلوبه ومعناه شبيهان بأساليب ومعاني الأحاديث القدسية، إذ هي كثيرا ما تدور حول الزهد والفضائل، قال الحافظ ابن حجر في الفتح في أثناء شرحه لهذا الحديث: «ومنه ما وقع عند أحمد وأبي عبيد في فضائل القرآن من حديث أبي واقد الليثي قال: كنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزل عليه فيحدثنا فقال لنا ذات يوم: «إن الله قال: إني أنزلت المال لإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم
…
الحديث» وهذا يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عن الله تعالى على أنه من القرآن، ويحتمل أن يكون من الأحاديث القدسية والله أعلم، وعلى الأول فهو مما نسخت تلاوته جزما، وإن كان حكمه مستمرا.