الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) فلا سباب فيه ولا عنف وكل ما فيه إخبار من الحق عز شأنه، بأن عادا وثمود وفرعون لما طغوا في البلاد وظلموا العباد وأكثروا من الفساد أنزل الله بهم العقاب جزاء لهم على ظلمهم وإفسادهم، فالمراد بصب السوط إنزال العقوبة الشديدة بهم، وهو من المجازات البديعة، ومعنى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) أنه القائم بتدبير الأمور الرقيب على عباده لا يفوته من شئونهم شيء وهو مجازي كل عامل بعمله فلا يفلت منه أحد، فلا يظن أهل الطغيان الذين يفسدون في الأرض أن يفلتوا من الله وعقابه، وفي هذا الإخبار تحذير للموجودين والمخاطبين أن يفعلوا مثل ما فعلوا فيعاقبوا مثل ما عوقبوا، فانظر- أيها القارئ الفطن- كيف اشتملت هاتان الآيتان على وجازتهما على هذه المعاني الثرية والتحذيرات النافعة المفيدة.
وأما سورة «ألهاكم التكاثر» فغاية ما فيها أن يترك الناس التفاخر بالأحساب والأنساب والتكاثر بالأموال والأولاد والتلهي بما لا يفيد وأن يقبلوا على الاشتغال بما ينفع من الإيمان والعمل الصالح، أما التلهي بالتكاثر والتفاخر فلن يكون من ورائه إلا خسران الدنيا والآخرة، فلا عجب أن يردعهم الله، وأن يكرر الردع والزجر فقال: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)، ولو علم اللاهون المتكاثرون علم اليقين لأعرضوا عما فيهم، وأقبلوا على الأعمال الصالحة؛ لأنهم سيرجعون إليه في يوم يحاسبون فيه ويجازون على أعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) فالسورة لا تخرج عن كونها وعيدا وتحذيرا وإرشادا وتعليما.
الشبهة الثالثة
قال: إن القسم المكي يمتاز بالهروب من المناقشة، وبالخلو من المنطق والبراهين، فيقول: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) إلى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) بخلاف القسم المدني فهو يناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين، فيقول: لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا ويستدل بهذا على تأثر القرآن بالبيئة والوسط، وغرضه التشكيك في أن القرآن من عند الله.
وهذا الكلام منقوض بما يأتي:
1 -
أنه لا يجرؤ على هذه المقالة إلا أحد رجلين: إما جاهل أغرق في جهله فلا يكاد يميز بين المكي والمدني، وإما زنديق أعمته زندقته عن إدراك الحق الظاهر، وقد سقط هذا الباحث الناقد والمفكر الجريء سقطة لا إقالة له منها، ولا يكاد يقع فيها الطلاب المبتدءون، فضلا عن الباحثين؛ ولو تناول مصحفا وأمر القارئ له أن يقرأ ما كتب قبل مفتتح سورة الأنبياء لوجد سورة الأنبياء مكية وآياتها 112، ولو تناول كتابا من كتب الفن لعلم أن سورة الأنبياء مكية بلا استثناء عند جمهور العلماء، وباستثناء آية أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها عند البعض، ومهما يكن من شيء فالآية التي استدل بها مكية بالإجماع، وكيف تتفق هذا السقطة التي لا تكون من مبتدئ، وما أضفاه على نفسه من الصفات الطنانة والعبارات الجوفاء الحق أنه قدم لنا الخنجر للإجهاز عليه.
وأن نظرة بسيطة في السور المكية لترينا أنها استفاضت بالأدلة والبراهين القطعية؛ اقرأ إن شئت في إثبات الإله قوله تعالى في سورة الغاشية: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)[الغاشية: 17 - 20] الآيات، وقوله تعالى في سورة الواقعة: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) إلى قوله فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)[الواقعة: 57 - 74] وقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36)[الطور: 35 - 36].
واقرأ أيضا في إثبات الوحدانية في سورة الأنبياء المكية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22]، ومهما أسهب الفلاسفة وعلماء الكلام في إقامة الأدلة والبراهين على الوحدانية فلن يخرجوا عن فلك هذه الآية على وجازتها وقصرها، وفي سورة «المؤمنون» المكية: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ
وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ [المؤمنون: 91] الآية، وفي سورة النمل: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) إلى قوله قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النمل: 60 - 64]، وقوله تعالى في سورة الروم: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) إلى قوله: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26)[الروم: 20 - 26].
واقرأ إن شئت في التدليل على إمكان البعث في سورة «يس» المكية وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)[يس: 79 - 83] إلى آخر السورة، وقوله تعالى في سورة الأحقاف المكية: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)[الأحقاف: 33].
وكذلك يعرض القرآن في السور المكية لإثبات الرسالة بالمنطق السليم والحجج الدامغة، فيقول في جواب المشركين لما قالوا: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان:
20]، ولما قالوا: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: 7] قال في جوابهم:
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)[الأنبياء: 7].
ولو تتبعنا الأدلة والبراهين التي زخر بها القسم المكي لطال المقام، وبحسبنا هذا المقدار.
أما ما ذكره الطاعن من سورة «قل يا أيها الكافرون» فلا يصلح أن يكون دليلا، لأن السورة لم تسق مساق الدليل وإنما سيقت للرد على كفار قريش لما رغبوا إلى النبي أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، فأنزل الله على نبيه هذه السورة تأييسا لهم وقطعا لأطماعهم، ولبيان أنهم قوم مخادعون، ولن تكون منهم عبادة لله الواحد القهار، وقد جاءت السورة على هذا النسق