الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول الثالث
أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، وإن شئت فقل: سبع لغات من لغات العرب المشهورة في كلمة واحدة، تختلف فيها الألفاظ والمباني مع اتفاق المعاني، أو تقاربها، وعدم اختلافها وتناقضها، وذلك مثل: هلم، وأقبل، وتعال، وإليّ، ونحوي، وقصدي، وقربي، فإن هذه ألفاظ سبعة مختلفة يعبر بها عن معنى واحد، وهو طلب الإقبال.
وليس معنى هذا أن كل كلمة كانت تقرأ بسبعة ألفاظ من سبع لغات، بل المراد: أن غاية ما ينتهي إليه الاختلاف في تأدية المعنى هو سبع، فالمعنى الذي تتفق فيه اللغات في التعبير عنه بلفظ واحد يعبر عنه بهذا اللفظ فحسب، والذي يختلف التعبير عنه بلفظين، وتدعو الضرورة إلى التوسعة يعبر عنه بلفظين، وهكذا إلى سبع.
ومن أمثلة ذلك من القرآن قوله تعالى: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] وقد قرأ ابن مسعود: إلا زقية واحدة.
وقوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ قد قرأ عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: فامضوا إلى ذكر الله (1)، ومثل ما روى ورقاء عن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب: أنه كان يقرأ: لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا، «للذين آمنوا أمهلونا» ، «للذين آمنوا أخّرونا» ، «للذين آمنوا ارقبونا»؛ وبهذا الإسناد عن أبي أنه كان يقرأ: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، «سعوا فيه» (2).
ولا يقال: إن بعض هذه الحروف لا يقرأ بها اليوم؛ لأنا نقول: إن هذا هو معنى الأحرف السبعة، ونحن لا ندعي بقاءها كلها إلى اليوم كما ستعلم عن قريب.
(1) مقدمتان في علوم القرآن: ص 222.
(2)
تفسير القرطبي ج 1 ص 42.
وهذا الرأي يتفق هو والروايات السابقة الدالة على اختلاف الصحابة في كلمات من القرآن، وتنازعهم، ورفع الأمر إلى رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- ثم إقرار الرسول كلا على قراءته، ويوافق الأصول التي استنتجناها من هذه الروايات؛ فالغرض من النزول على سبعة أحرف التيسير، ورفع الحرج عن الأمة بالتوسعة في الألفاظ ما دام المعنى واحدا، فقد كانوا أمة أمية، وكانت لغاتهم متعددة، وكان يشق على كل ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ له إلا بمشقة عظيمة،
ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وتغيير للعادة، فمن ثم جعل الله لهم متسعا في اللغات بقراءة المعنى الواحد بألفاظ مختلفة.
وقد استمر الأمر على هذا حتى كثر فيهم من يقرأ ويكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لسان قريش، ولا سيما بعد أن صارت لقريش السيادة الدينية والدنيوية معا، وقدروا على النطق بلغة قريش، التي هي أعذب اللغات وأسهلها وأطوعها للألسنة؛ فلم يسعهم أن يقرءوا بخلافها، ولا سيما وقد زالت الضرورة وأصبحت التوسعة في القراءة بالأحرف السبعة مثار اختلاف وتنازع، فقد حدث في عهد الخليفة الثالث «عثمان» رضي الله عنه أن اجتمع أهل الشام مع أهل العراق في غزوة «أرمينية» وكانت قراءاتهم مختلفة، فصار يخطّئ بعضهم بعضا، ويقول كل منهم: حرفي الذي أقرأ به خير من حرفك، فجاء حذيفة بن اليمان إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أدرك المسلمين قبل أن يختلفوا في كتابهم اختلاف اليهود والنصارى، وحدث أيضا: أن كان المعلم يعلم قراءة الرجل، والآخر يعلم قراءة رجل آخر، فصار الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع هذا الخلاف إلى المعلمين، وكاد أن يكفر بعضهم بعضا، فقال عثمان: أأنتم عندي تختلفون فمن نأى من الأمصار كان أشد اختلافا، فرأى الخليفة الراشد عثمان- ونعم ما رأى- على ملأ من الصحابة، ومشورة من أهل الرأي منهم أن يجمع الناس على حرف واحد، حتى تضيق