الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن ذا الذي يسمع من نبيه الأكرم هذا الحديث- وأمثاله كثير- ثم لا يحفظه عن ظهر قلب، ولا يفني عمره فيه؛ إن هذا الكتاب العظيم أحق ما يفنى فيه الشباب، وأجدر ما تنفق فيه الأعمار فلا تعجب إذا كان المسلمون حفظوه غاية الحفظ، وفهموه غاية الفهم، وتدبروه غاية التدبر، وهذا هو ما كان، وهذا هو ما شهد به تاريخ الأجيال، وارجع إلى كتاب التواريخ والرجال والطبقات تقف على ما يقنع العقل، ويثلج الصدر، ويطمئن القلب.
العامل الثامن إعجاز القرآن، وسحر بيانه، وعجائب أسلوبه، وحلاوة كلامه:
وهذه خصائص للقرآن الكريم، وقد كانت من أعظم العوامل وأقوى الدوافع إلى حفظ القرآن الكريم.
والعرب كانوا أرباب الفصاحة، والبلاغة وفرسان البيان، فمن ثم كانت معجزة النبي العظمى القرآن الكريم، وكان العربي تستهويه الكلمة الفصيحة، ويكاد يخر ساجدا للكلام البليغ، ويملك ناصيته البيان المعجز، والأساليب العجيبة، ويجد في الكلام الفصيح البليغ حلاوة ليس بعدها حلاوة؛ لأن فيه إشباعا لغريزته، وإرضاء لفطرته، وتنمية لمواهبه.
وإليك ما ذكره ابن إسحاق في سيرته عن ثلاثة من فصحاء العرب وبلغائهم؛ روى عن الزهري قال: حدثت أن أبا جهل، وأبا سفيان، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا، فيستمع منه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فجمعهم الطريق، فتلاوموا!! وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا، ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا ..
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا ..
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذه عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها، وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها، ولا ما يراد بها .. فقال الأخنس: أنا- والذي حلفت به- كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فقال له: يا أبا الحكم فما رأيك فيما سمعت من محمد
فقال: ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء؛ فمتى ندرك هذه! فو الله لا نؤمن به أبدا؛ ولا نصدقه (1).
وهو يدل على استلذاذ العرب لسماع القرآن، استجابة لفطرتهم العربية، وإذا كان تأثير القرآن في أهل الشرك فكيف يكون تأثيره في أهل الإيمان
وهذا هو الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنما رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا!. قال: فقل في القرآن قولا يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول! فو الله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا
(1) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة ج 1 ص 322، 323.