الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنها مسطورة عند الله في لوحه، مسجلة لديه في كتابه (1) كما قال جل شأنه: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)[سورة القمر: 52 - 53](2).
3 - نزول القرآن الكريم
للقرآن الكريم نزولان:
الأول: نزول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.
الثاني: نزوله من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل وتوضيح .. وإليك البيان:
النّزول الأول:
نزول «القرآن الكريم» من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا جملة واحدة، وهذا النزول أكان بعد نبوته صلى الله عليه وسلم أم كان قبل ذلك رأيان للعلماء، أرجحهما الأول، وهو الذي تدل عليه الآثار الآتية، وكان هذا النزول في رمضان ليلة القدر.
والدليل على هذا النزول ما يأتي:
1 -
قوله تعالى في مفتتح سورة «القدر» : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وقال في مفتتح سورة «الدخان» : حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)، وقال في سورة «البقرة»: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [البقرة:
185]، «والإنزال» أكثر ما يرد في لسان العرب فيما نزل جملة واحدة (3)،
(1) مناهل العرفان ج 1 ص 35 ط أولى.
(2)
ومعنى مستطر: مكتوب في السطور.
(3)
الغالب في التعبير القرآني عما نزل دفعة واحدة بلفظ «الإنزال» وما نزل مفرقا «التنزيل» ولهذا لما جمع الله بين القرآن والتوراة والإنجيل عبر في جانب نزول القرآن على النبي بالتنزيل وفي
جانب التوراة والإنجيل بالإنزال؛ لأنهما نزلا دفعة واحدة؛ وهذا ما لا خلاف فيه، قال تعالى في سورة «آل عمران» نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ
بخلاف «التنزيل» فإنه يعبر به في جانب ما نزل مفرقا؛ فدلّت الآيات على أن القرآن «نزل جملة واحدة في ليلة القدر! أخذا من سورة «القدر» وهي الليلة المباركة، أخذا من آية «الدخان» ، وهي ليلة من شهر رمضان أخذا من آية «البقرة» .
وأيضا فمن البدهيّ: أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في سنين لا في ليلة واحدة، وأنه نزل في غير رمضان؛ كما نزل في رمضان: فدل هذا على أن النزول الذي نوّهت بشأنه الآيات غير النزول على النبي مفرقا في بضع وعشرين سنة، وأن المراد به: هو النزول جملة واحدة.
2 -
قد جاءت الآثار الصحيحة مبيّنة لهذا النزول وشاهدة عليه:
(أ) فمنها ما أخرجه النّسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس، أنه قال:«أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة» ثم قرأ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)[الفرقان: 33]، وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) [الإسراء: 106].
(ب) ومنها ما أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله بعضه في إثر بعض» .
(ج) وأخرج الحاكم وغيره، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
«فصل القرآن من الذّكر، فوضع في بيت العزّة من سماء الدّنيا فجعل جبريل
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ.
والتفريق بين الإنزال والتنزيل أمر غالب؛ وليس قاعدة مطردة؛ ولذا عبرت بلفظ «أكثر» بدليل قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان:
32]، فقد استعملوا التنزيل وأرادوا الإنزال، وبدليل قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)[الكهف: 1] فقد عبّر بالإنزال وأراد التنزيل.
ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم»، قال: الحافظ في الفتح: وإسناده صحيح (1).
(د) أخرج ابن مردويه والبيهقيّ- في كتاب «الأسماء والصفات» عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود، فقال: أوقع في قلبي الشكّ قوله تعالى:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وهذا أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع، فقال ابن عباس: أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا (2) في الشهور والأيام».
ومعلوم: أن هذا لا يقوله ابن عباس بمحض الرأي، فهو محمول على سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ممن سمعه من النبيّ من الصحابة، ومثل هذا له حكم المرفوع؛ لأن القاعدة عند أئمة الحديث: أن قول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليّات فيما لا مجال للرأي فيه له حكم الرّفع، وبذلك ثبتت حجّية هذه الآثار (3).
وقد ذكر «السيوطي» في «الإتقان» (4) عن القرطبي: أنه حكى الإجماع على أن القرآن نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، ودعوى الإجماع غير مسلّمة؛ فإن من العلماء من لا يقول به ويحمل الآيات التي ظاهرها ذلك على ابتداء الإنزال.
وهناك قول ثان: وهو أن «القرآن» نزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين (5)، ينزل الله في كل ليلة منها ما
(1) فتح الباري ج 9 ص 4.
(2)
رسلا: أي رفقا، وعلى تمهل، مواقع النجوم: مساقطها، يريد أنه نزل على ما وقع منجما مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق.
(3)
نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 43.
(4)
الإتقان ج 1 ص 40.
(5)
هذا مبني على الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة أهي عشر سنوات، أم ثلاث عشرة، أم خمس عشرة، وأصحها أوسطها.
يقدر إنزاله في كل السنة، ثم ينزل به جبريل بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم في جميع السنة، وبه قال «مقاتل بن حيّان» (1)، نقله القرطبي في تفسيره عنه، وبقوله قال الحليمي والماوردي، قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر قول الحليمي:«وهذا أورده ابن الأنباري من طرق ضعيفة ومنقطعة» .
أقول: فلا يعوّل عليه، قال:«وما تقدم من أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك مفرقا هو الصحيح المعتمد» .
وهناك قول ثالث: هو أن المراد بالآيات السابقة ابتداء إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجّما في أوقات مختلفة على النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال «الشعبي» (2)
وكأنّ صاحب هذا القول ينفي النزول جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
وقد ذهب إلى هذا الرأي من المتأخرين الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده» في تفسير جزء «عمّ» ، فقد نقل كلام «الشعبيّ» وقوّاه، وقال: إن ما جاء من الآثار الدّالة على نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، مما لا يصح الاعتماد عليه؛ لعدم تواتر خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا يجوز الأخذ بالظن في عقيدة مثل هذه، وإلا كان اتباعا للظن (3).
(1) هو تابع التابعي مقاتل بن حيان- بحاء مهملة ثم ياء مثناة- النبطي أبو بسطام البلخي، روى عن كثير من التابعين منهم سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر وأبي بردة ابن أبي موسى الأشعري وغيرهم، وروى عنه أخوه مصعب بن حيان وعبد الله بن المبارك وأبو عصمة نوح بن أبي مريم وغيرهم، وقد اختلف فيه العلماء فمنهم من وثّقه، ومنهم من ضعّفه، ومنهم من قال لا بأس به، مات قبل الخمسين ومائة (تهذيب التهذيب 10/ 277 - 278).
(2)
هو الإمام التابعي الثقة الفقيه الحافظ عامر بن شراحيل الهمداني الحميري، روى عنه أنه قال:«أدركت خمسمائة من الصحابة» ، وكان يفتي والصحابة متوافرون، ولد في خلافة سيدنا عمر عام جلولاء، وقد اختلف في وفاته اختلافا كثيرا، والأكثرون على أنه عام 109 أو مائة وعشرة.
(3)
تفسير جزء «عمّ» ص 132 ط بولاق.