الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وضربوا مثلا للوحي النفسي قصة «جان دارك» الفتاة الفرنسية التي اعتقدت أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، ودفع العدو عنه، وادعت أنها تسمع صوت الوحي، فأخلصت في دعوتها وتوصلت بصدق إرادتها إلى رئاسة جيش صغير تغلبت به على العدو، ثم ماتت غبّ انتصارها لما خذلها قومها، ووقعت في يد عدوها فألقوها في النار حية، وقد ذهبت تاركة وراءها اسما يذكر في التاريخ، وقد حظيت بتعظيم قومها، وإجلالهم لها، حتى قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها فيما بعد موتها بزمن (1).
ومما يؤسف أن هذا التصوير الذي يصورون به ظاهرة الوحي قد سرت شبهته إلى كثير من المسلمين المرتابين، الذين يقلدون هؤلاء الماديين في نظرياتهم المادية أو يقتنعون بها، وأغلب هؤلاء من المتعلمين الذين تلقوا العلم في الغرب، وليس عندهم من الثقافة الإسلامية العميقة ما يعصمهم من الانسياق وراء هؤلاء.
[المقدمات الست التى اسندوا اليها]
ولأجل أن يؤيدوا فكرة الوحي النفسي ذكروا مقدمات تخيلوها أو تصيدوها زاعمين أنها أساس هذه التشريعات والعلوم التي امتلأ بها عقل النبي الباطن ثم فاضت بها نفسه فقالوا:
أ- إن محمدا كان يصحب عمه أبا طالب في كثير من رحلاته التجارية وأنه استفاد من هذه الرحلات بما كان يسمعه من الأعراب الذين كانوا يسكنون الديار التي يمر عليها كديار ثمود، ومدين وغيرهما، وما كان يسمعه من أحبار اليهود ورهبان النصارى وذلك مثل بحيرى الراهب الذي لقيه في مدينة «بصرى» بالشام، وقالوا: إنه كان نسطوريّا من أتباع «آريوس» في التوحيد، وينكر ألوهية المسيح، وعقيدة التثليث، وإن محمدا لا بدّ أن يكون علم منه عقيدته بل غالى بعضهم فزعم أنه كان معلما للنبي ومصاحبا له بعد رسالته.
2 -
إن ورقة بن نوفل كان من متنصّرة العرب العالمين بالنصرانية وكان
(1) الوحي المحمدي للسيد محمد رشيد رضا ص 76 ط السادسة.
يعرف العبرانية، وله علم بالكتب السابقة، وكان قريبا لخديجة- رضي الله عنها وهو الذي ذهبت إليه خديجة ومعها النبي لما أخبرها بخبر الوحي وغرضهم بهذا إثبات أن النبي أخذ عنه بعض علم أهل الكتاب.
3 -
ما كان من انتشار اليهودية والنصرانية في بلاد العرب قبل الإسلام ومن تنصر بعض فصحاء العرب وشعرائهم كقس بن ساعدة الإيادي وأميّة بن أبي الصّلت، وإشادة هؤلاء بما كانوا يسمعونه من علماء أهل الكتاب عن قرب ظهور النبي الذي بشّر به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء وغرضهم بهذا أن النبي استفاد من هؤلاء، واستغل البشارة لنفسه.
4 -
زعموا أنه كان بمكة أناس من اليهود والنصارى وأنهم كانوا عبيدا أو خدما، وكانوا يسكنون أطرافها.
وكان هؤلاء يتحدثون بالكثير من القصص الذي جاءت به كتبهم فسمع منهم النبي ما سمع واستفاد منهم الكثير مما ذكره من قصص الأولين.
5 -
ذكروا ما كان من رحلتي قريش: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، واجتماعهم بالأحبار والرهبان في كلّ منهما كلما مروا بدير أو صومعة، وكان هؤلاء يتحدثون بقرب ظهور نبي من العرب، فتعلقت نفسه بما سمع، وظهر ذلك على لسانه بدعوى النبوة.
6 -
قالوا: إن محمدا توصل إلى ما توصل إليه من عقائد بالخلوة في غار حراء، والانقطاع إلى عبادة الله وحده، والتفكر في خلق السموات والأرض من نجوم وكواكب وسهول ونجود وبحار ذات أمواج، وليل ونهار، وكان لهذا التعبد والتفكر أثرهما في صقل نفس محمد، وامتلاء قلبه بوحدانية الله ونظامه البديع في الكون، وما زال يفكر ويتأمل وينفعل بما يرى ويسمع، ويتقلب بين الآلام والآمال، حتى أيقن أنه هو النبي المنتظر الذي سيبعثه الله لهداية البشر، فتجلى له هذا الاعتقاد في الرؤيا المنامية، ثم قوي حتى صار يتمثل له الملك ويلقنه الوحي في اليقظة.
وأما المعلومات التي جاء بها في هذا الوحي فهي مستمدة من تلك