الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على فرض صحّتها التصريح بنزول الآيتين عن طريق التكليم.
وأيضا فالإسراء والمعراج كان قبل الهجرة بمكة، وسورة البقرة كلها مدنية، فكيف تنزل خواتيمها بمكة!
وأما حديث «عدي بن ثابت» الذي أخرجه ابن أبي حاتم، فليس فيه أن الله أنزل هذه الآيات وإنما كل ما فيه: التمنن عليه بالمنن التي ذكرت في هذه الآيات، ولا سيّما وألفاظ الحديث مغايرة للنص القرآني للآيات، مما يستبعد معه أن تكون الآيات نزلت في هذا التكليم، والظاهر أن السورتين نزلتا قبل ذلك؛ لأن التمنن إنما يكون بأمر معروف معلوم للمخاطب.
فالحق ما قاله الإمام السيوطي أولا، وهو أنه ليس في القرآن من هذا النوع شيء.
تلقي النبي القرآن عن جبريل وهو على ملكيته
والذي نقطع به- والله أعلم- أن القرآن الكريم كله نزل في الحالة الأولى، وهي الحالة التي يكون فيها جبريل على ملكيته، وتحول النبي صلى الله عليه وسلم من البشرية إلى الملائكية، وهذا هو الذي يليق بالقرآن الكريم، ونفي أي احتمال، أو تلبيس في تلقيه، ولم أقف قط على رواية تفيد نزول شيء من القرآن عن طريق جبريل، وهو في صورة رجل، وكل ما جاء من ذلك في الأحاديث الصحاح كحديث جبريل المشهور وسؤاله النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة وأشراطها، فإنما هو في وحي السنة لا في وحي القرآن.
نعم هناك قرائن لا تصل إلى حد الأدلة تدل على نزول القرآن بالطريق الأول، فمن ذلك قول الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)[المزمل: 5] أي ثقيلا تلقيه، وثقيلا علمه، وذلك إنما يكون في الحالة التي تسود فيها الملائكية عند تلقي الوحي، وقيل: ثقيلا العمل به، والقيام بفرائضه وحدوده، وقيل: ثقيل من الوجهين معا.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن ابن عباس في قوله
تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)[القيامة: 16] قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه
…
» (1) وهذه الشدّة لن تكون إلا في الحالة الأولى.
وروى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هل تحسّ بالوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسمع صلاصل، ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إليّ إلّا ظننت أن نفسي تقبض» رواه أحمد، وروى ابن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها (2) فما تستطيع أن تحرك حتى يسرّى عنه، وعن زيد بن ثابت- رضي الله عنه أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فكادت ترضّ (3) فخذي (4)، رواه البخاري في الصحيح.
وأيضا فلو أنزل شيء من القرآن في الحالة الثانية وهي مجيء جبريل- عليه السلام في صورة رجل لكان هذا مثارا للشك، والتلبيس على ضعفاء الإيمان، ولكان فيه مستند للمشركين في قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ....
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا في قوله حكاية لمقالة المشركين وردّا عليهم: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)(5)[الأنعام: 8 - 9]، فكان من الرحمة بالعباد، وعدم التلبيس عليهم أن لا ينزل القرآن إلا في هذا الجو الملائكيّ، الروحانيّ.
(1) صحيح البخاري- باب كيف كان بدء الوحي.
(2)
الجران: باطن العنق.
(3)
تكسر عظامها.
(4)
تفسير ابن كثير ج 9 ص 27 - 28.
(5)
لقضي الأمر بإهلاكهم، فقد جرت سنة الله مع الكافرين أنهم إذا سألوا أسئلة تعنتية، ثم أجيبوا أن يهلكهم.