الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الليلة هو وعسكره على ظهور خيولهم بآلة الحرب، وأصبح من الغد ومعه عسكر جيد.
وأما منطاش، فإنه توجه إلى دمشق وأخبر نائبها جنتمر بأنه كسر الظاهر برقوق، وجمع عسكر دمشق وعاد إلى شقحب، واقتتل مع الظاهر ثانياً، فانكسر كسرة أقبح من الأولى، ورجع إلى دمشق، فأقام السلطان بشقحب تسعة أيام، ثم رحل قاصداً للديار المصرية.
ذكر سلطنة الظاهر برقوق ثانياً
ولما استولى الظاهر على المنصور بشقحب، واستفحل أمره، خلع المنصور نفسه، وتسلطن الظاهر برقوق، وعاد إلى القاهرة، فوصلها في يوم الثلاثاء رابع عشر صفر سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وفرشت الشقق الحرير تحت ممر فرسه، فتنحى عن الشقق بفرسه، وأمر المنصور حاجي أن يدوسها؛ فأعجب العامة منه ذلك، وضجوا له بالدعاء إلى أن طلع القلعة، فنزل من باب القلعة عن فرسه، ومشى راجلاً تجاه فرس المنصور، وهو راكب حتى نزل؛ فأخذ الظاهر يعضده، فاستحسن منه ذلك إلى الغاية.
ثم عاد إلى القصر وجلس على تخت الملك، وخلع على الخليفة والقضاة وأرباب الدولة، فكان يوماً مشهوداً. ومن غريب ما اتفق في الديار المصرية في غيبة الظاهر برقوق أن منطاشاً كان قد حبس جماعة من أمراء
برقوق ومماليكه في خزانة الخاص بالقلعة، بعد أن سد بابها، وفتح من سقفها موضعاً وصارت جباً، وأنزل إليها هذه الجماعة؛ فأقاموا بها إلى ليلة الخميس ثاني صفر انكشف لهم سرداب تحت الأرض؛ فخرجوا منه إلى طبقة الأشرفية، ففتحوا بابها الذي يصل إلى الإصطبل؛ فهرب منه سراي تمر دودار منطاش، وكان مقيماً بالإصطبل نائب الغيبة، ثم أصبحوا في يوم الخميس تقاتلوا مع سراي تمر المذكور، ومع الأمير تكا نائب القلعة حتى انتصروا، وانهزم تكا وسراي تمر بعد حروب.
واستفحل أمر الظاهرية، وملكوا القلعة، ورأسهم الأمير بطا الطولوتمري، وأفرجوا عمن بها من المماليك الظاهرية. فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم الخبر بوصول الملك الظاهر برقوق إلى مدينة غزة؛ فمهدوا له الديار المصرية قبل قدومه. فلما جلس الظاهر على تخت الملك، أرسل بالإفراج عن الأمير يلبغا
الناصري والجوباني، وغيرهما من سجن الإسكندرية - وهم الذين حبسهم منطاش - فوصلوا إلى بر الجيزة في سابع عشر صفر، وباتوا بها.
وعدوا من الغد وطلعوا إلى القلعة، وهم سبعة عشر أميراً: الأتابك يلبغا الناصري - صاحب الوقعة الذي قهر برقوق على الملك وسجنه بالكرك - وألطنبغا الجوباني - الذي قبض عليه من بيت أبي يزيد، وطلع به إلى الناصري المذكور - وألطنبغا المعلم أمير سلاح، وقراد مرداش الأحمدي - الذي كان جعله برقوق بعد أيتمش أتابكاً، وأنعم عليه بثلاثين ألف دينار، فقبضها، ثم فر إلى الناصري ومنطاش، وترك برقوق - وأحمد بن يلبغا العمري أمير مجلس - الذي كان سبب كسرة عسكر برقوق بدمشق لما فر هو وأيدكار الحاجب وصارا من حزب الناصري - وقردم الحسني، وسودون باق، وسودون الطرنطاي، وآقبغا المارديني، أقبغا الجوهري، وكشلي القلمطاوي، وبجاس النوروزي، ومأمور القلمطاوي، وألطنبغا الأشرفي، ويلبغا المنجكي، ويونس العثماني، وآلابغا العثماني؛ فقبلوا الجميع الأرض بين يديه وعادوا إلى منازلهم، ولم يعاتب أحداً منهم على فعله. فانظر يا هذا إلى الدهر وتقلباته في أمر الظاهر برقوق، وفي
أمر الناصري؛ وهو أن كلا منهما كان مملوكاً ليلبغا الخاصكي، وكان الناصري هو الأكبر، ثم صار الناصري بعد موت أستاذه يلبغا أمير مائة ومقدم ألف بالديار المصرية، وبرقوق يومئذ من جملة الأجناد، فكان برقوق يعضد الناصري عند ركوبه ونزوله ويقف بخدمته، ثم ضرب الدهر ضرباته حتى صار برقوق سلطاناً والناصري من جملة أمرائه، وولاه نيابة حلب، ودام على ذلك إلى أن خرج عن طاعة برقوق وملك الديار المصرية - حسبما ذكرناه - وقبض على برقوق من بيت أبي يزيد وجيء به إلى بين يديه، وصار الناصري مالك رقبته، ثم أرسله إلى حبس الكرك، ثم إن منطاشاً قبض على الناصري، وحبسه بثغر الإسكندرية، وأطلق برقوق من حبس الكرك، وعاد إلى ملكه، ثم صار الناصري في قبضته وبين يديه - فسبحان من يعز ويذل -.
وفي يوم الاثنين عشرين صفر من سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة جلس السلطان الملك الظاهر برقوق بدار العدل على عادته، وأخلع على الأمير سودون الشيخوني بنيابة السلطنة على عادته، وعلى الأمير إينال اليوسفي أتابك العساكر، وعلى الأمير يلبغا الناصري غريمه أمير سلاح، وعلى الأمير كمشبغا الخاصكي أمير مجلس، وعلى الأمير ألطنبغا الجوباني رأس نوبة النوب، وعلى الأمير بطا الطولوتمري دواداراً، وعلى الأمير بكلمش العلائي أمير آخور، وعلى الأمير طوغان أمير جندار، ثم استقر
بالجوباني في نيابة دمشق وبالأمير قراد مرداش في نيابة طرابلس، ومأمور في نيابة حماة. وأمرهم بمحاربة منطاش، ثم أضاف إليهم جماعة من الأمراء المصريين، وجعل مقدم العساكر الأمير يلبغا الناصري، وندبه لمحاربة منطاش، وقال له: هو غريمك، ابرز إليه؛ فتجهز، وخرج صحبة العساكر إلى دمشق، بعد أن قام له الظاهر بكل ما يحتاج إليه.
وتقاتل مع منطاش، وقتل الجوباني في المعركة، وتولى الناصري نيابة دمشق عوضه. ثم وقع للناصري مع منطاش حروب أسفرت عن فرار منطاش إلى ابن نعير وإقامته عنده سنين، ثم قبض الظاهر على الناصري وقتله، ثم ظفر بمنطاش وغيره، ولا زال يتتبع غرماءه وأعداءه واحداً بعد واحد إلى أن أفنى خلائق بالقتل. وصفا له الوقت، وأخذ في ترقي مماليكه، وتجرد بعد ذلك عدة تجاريد إلى البلاد الشامية.
ودام على ذلك إلى سنة ست وتسعين وسبعمائة، قدم عليه السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد، فاراً من تيمورلنك؛ فنزل السلطان إلى أن تلقاه بمطعم الطير - خارج القاهرة - وأكرمه غاية الإكرام - كما ذكرناه في ترجمة السلطان أحمد مفصلا -
ثم قدم كتاب تيمورلنك على السلطان الملك الظاهر برقوق في أثناء السنة المذكورة.
ونص كتاب تيمورلنك: قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، واعلموا أنا جند الله مخلوقون من سخطه مسلطون على من حل عليه غضبه، لا ترق لشاكٍ، ولا نرحم عبرة باك، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل ثم الويل لمن لم يكن من حزبنا ومن جهتنا قد خربنا البلاد، وأيتمنا الأولاد، وأظهرنا في الأرض الفساد، وذلت لنا أعزتها، وملكنا بالشوكة أزمتها، فإن خيل ذلك على السامع وأشكل، وقال: إن فيه عليه مشكلاً، فقل له: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذله؛ وذلك لكثرة عددنا وشدة بأسنا فخيولنا سوابق، ورماحنا خوارق، وأسنتنا بوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وجيوشنا كعدد الرمال، ونحن أبطال وأقيال، وملكنا لا يرام وجارنا لا يضام وعزنا أبداً سؤدده منقام، فمن سالمنا سلم، ومن حاربنا ندم، ومن تكلم فينا ما لا يعلم جهل، فأنتم إن أطعتم أمرنا، وقبلتم شرطنا، فلكم ما لنا، وعليكم ما علينا، وإن خالفتم وعلى نعيكم عاديتم، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فالحصون منا مع تشييدها لا تمنع، والمدائن بشدتها لقتالنا لا ترد ولا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يستجاب فينا ولا يسمع، وكيف يسمع الله دعاءكم وقد أكلتم الحرام، وضيعتم جميع الأنام، وأخذتم أموال الأيتام وقبلتم الرشوة من الحكام، وأعددتم لكم النار وبئس المصير:
" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ". فبما فعلتم ذلك أوردتم أنفسكم موارد المهالك، وقد قتلتم العلماء، وعصيتم رب الأرض والسماء، وأرقتم دم الأشراف، وهذا والله هو البغي والإسراف، فأنتم بذلك في النار خالدون، وفي غد ينادى عليكم اليوم يجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون، فأبشروا بالذلة والهوان، يا أهل البغي والعدوان، وقد غلب عندكم أننا كفرة وثبت عندنا أنكم والله أنتم الكفرة الفجرة، وقد سلطنا عليكم الإله، أموراً مقدرة، وأحكاماً مدبرة، فعزيزكم عندنا ذليل، وكثيركم لدينا قليل؛ لأننا ملكنا الأرض شرقاً وغرباً، وأخذنا منها كل سفينة غصباً، وقد أوضحنا لكم الخطاب، فأسرعوا برد الجواب، قبل أن يكشف الغطاء وتضرم الحرب نارها، وتضع أوزارها، وتصير كل عين عليكم باكية، وينادي منادي الفراق: هل ترى لهم من باقية، ويسمعكم صارخ القنا، بعد أن تهزكم هزاً " هل