الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صاحب سمرقند
ألوغ بك بن شاه رخ بن تيمور - بقية نسبه يأتي في ترجمة جده تيمور إن شاء الله تعالى - وقيل إن اسمه محمد، وقيل تيمور، على اسم جده، ولهذا سمي يألوغ بك والله أعلم.
العلامة فريد دهره ووحيد عصره في العلوم العقلية والهيئة والهندسة، طوسي زمانه، صاحب سمرقند، ابن القان معين الدين شاه رخ صاحب هراة، بن الطاغية تيمورلنك كوركان.
مولده بعد سنة تسعين وسبعمائة تخميناً، ونشأ في أيام جده، وتزوج أيضاً في أيامه، وعمل له جده تيمور العرس المشهور.
ولما مات جده تيمور، وآل الملك إلى أبيه شاه رخ بعد مدة، ولاه سمرقند وأعمالها، فحكمها نيفاً على ثلاثين سنة، وهلم جرا وإلى يومنا هذا. وعمل بها رصداً
عظيماً، انتهى منه في سنة أربع وخمسين، أو في التي قبلها. وقد جمع لهذا الرصد علماء هذا الفن من سائر الأقطار، وأغدق عليهم الأموال، وأجرى عليهم الرواتب الكثيرة، حتى رحل إليه علماء الهيئة والهندسة من البلاد البعيدة، وهرع إليه كل صاحب فضيلة، وهو مع هذا يتلفت من يسمع به من العلماء في الأقطار، ويرسل يطلب من سمع به، وعرف مقرته، ولا يزال به حتى يستقدمه معظماً مبجلاً. هذا مع علمه الغزير، وفضله الجم، وإطلاعه الكبير، وباعه الواسع في هذه العلوم، مع مشاركة جيدة إلى الغاية في فقه الحنفية والأصلين والمعاني والبيان واللغة، والعربية والتاريخ وأيام الناس.
وأما غير ذلك كالهيئة والهندسة والتقاويم الفلكيات فيه يضرب المثل، وانتهت إليه الرئاسة في ذلك في عصره، مع علمي بمن عنده من العلماء، لكنه هو مشاركته أعظم؛ لأن كل عالم عنده هو إمام في علم واحد، بخلاف ألوغ بك هذا، فإنه يشارك في علوم كثيرة. قيل إنه سأل بعض حواشيه: ما تقول الناس عني؟ وألح عليه، فقال له: يقولون إنك ما تحفظ القرآن الكريم، فدخل من وقته وحفظه في أقل من ستة أشهر حفظاً متقناً.
حكى لي من لفظه السيد الشريف سراج الدين عبد اللطيف الفاسي، قاضي قضاة الحنابلة بمكة، قال: قدمت على القان شاه رخ في بعض سفراتي إليه، فوجهني إلى ألوغ بك، صاحب سمرقند، فلما وصلت إليه رحب بي وأكرمني غاية الإكرام، فأخذ يحادثني في بعض الأيام، ويسألني عن كيفية الحرم الشريف، وكيف مثال الكعبة والحجر الأسود، والحجر وغير ذلك، فصرت أصف له كل ما بالحرم من البناء وغير ذلك. وهو لا يكرر مني اللفظ، بل يفهمه من أول مرة، كأنه رآه، فذهل عقلي بما رأيت من ذكائه المفرط، وصرت كلما جالسته بعد ذلك أسمع منه من الغرائب ما أتعجب منه من كثرة محفوظه للشعر، واستشهاده على ما يحكيه من الحكايات بكلام العرب، وحفظه للتاريخ، ثم يعتذر، لقلة معرفته باللغة العربية، ويقول: ما نحسن إلا باللغة التركية والعجمية. ويظهر لي صدق مقالته، فإنهما لغته. ثم يسألني في بعض الأيام، قال: يقف محملنا على جبل عرفات تحت المحمل المصري أم فوقه؟ قال الشريف: فاستحييت أن أقول له تحت المحمل الشامي، فنقلته إلى كلام غيره،
وعرفته أنهما يقفان صفاً واحداً، ثم أخذت أثني على أمير حاج محملهم، وأذكر من عقله وسياسته، فقال: يا شريف كم في عسكرنا مثل هذا؟ وأنشد قول المتنبي: الخيل والليل والبيداء تعرفنا. ومد وفخم بنون العظمة، ثم تذاكرنا معه أيضاً، فجرى ذكر أشراف مكة، يعني بني حسن، فقال بعض من حضر: هم أولاد جوار، فأنشد ألوغ بك المذكور في الحال قول الشاعر:
لا تزرين فتى من أن تكون له
…
أم من الترك أم سوداء عماء
فإنما أمهات الناس أوعية
…
مستودعات وللأنبياء آباء
انتهى كلام الشريف سراج الدين باختصار.
قلت: وألوغ بك هذا أسن أولاد القان شاه رخ، وأمه زوجة القان شاه رخ الحاكمة معه بهراة، تسمى كهرشاه، تحت والده إلى أن توفى سنة إحدى وخمسين وثمانمائة - على ما يأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى - ولما توفى شاه رخ أقامت زوجته المذكورة كهرشاه في الملك ولد ولدها علاء الدولة
وتركت ولدها ألوغ بك هذا، وأرادت بذلك أن يستمر حكمها في هراة. فلما بلغ ألوغ بك المذكور ذلك، جمع العساكر وتوجه إلى هراة؛ لقتال بن أخية باي سنقر علاء الدولة، فتوجه إلى هراة واستولى عليها، وفر منها علاء الدولة وجدته كهرشاه المذكورة، ووقع لهم حوادث إلى أن عاد إلى سمرقند مؤيداً منصوراً، بعد أن أخذ غالب خزائن والده شاه رخ، واستمر بسمرقند، حتى خرج عن طاعته ولده عبد اللطيف.
وسببه أن عبد اللطيف المذكور لما ملك والده ألوغ بك هذا هراة، طمع أن يوليه هراة، فلم يفعل وولاه بلخ ولم يعطه من مال جده شاه رخ شيئاً. وكان ألوغ بك هذا مع فضله وغزير علمه مسيكاً، فسأمته أمراؤه لذلك، وكاتبوا عبد اللطيف في الخروج عن طاعة أبيه ألوغ بك، وكان هو أيضاً في نفسه ذلك ويخاف يظهره، فانتهز الفرصة، وخرج عن الطاعة، وبلغ أباه الخبر، فتجرد لقتاله، والتقى معه، وفي ظنه أن عبد اللطيف لا يثبت لقتاله. فلما التقى الفريقان وتقاتلا، هرب جماعة من أمراء ألوغ بك إلى ابنه عبد اللطيف، فانكسر ألوغ بك وهرب على وجهه، وملك عبد اللطيف سمرقند، وجلس على كرسي والده أشهراً. ثم بدا لألوغ بك العود إلى سمرقند، ويكون الملك لولده، ويكون هو كآحاد الناس، واستأذن ولده لذلك، فأذن له، ودخل ألوغ بك سمرقند، وأقام بها إلى أن قبض عبد اللطيف على أخيه عبد العزيز