الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يوم الثلاثاء ثامن المحرم سنة إحدى وخمسين وثمانمائة، ودفن من الغد، وحضر السلطان الملك الظاهر جقمق الصلاة عليه بمصلاة بكتمر المؤمني، ودفن بسفح المقطم، وسنه نيف على الخمسين، وكان مهملاً، مسرفاً على نفسه، ربعة، أشقر، خفيف اللحية، سامحه الله تعالى.
البجاسي الأتابكي
أيتمش بن عبد الله الأسندمري البجاسي الجرجاوي، الأمير سيف الدين أتابك العساكر بالديار المصرية، وعظيم الدولة الظاهرية.
أصله من مماليك أسندمر البجاسي الجرجاوي، وترقى بعد موت أستاذه أسندمر المذكور، إلى أن صار من جملة الأمراء بديار مصر بسفارة الأتابكي برقوق العثماني اليلبغاوي.
ولما تسلطن الملك الظاهر برقوق قربه وأدناه، وجعله أمير مائة ومقدم ألف، ورأس نوبة النوب، ثم بلغ الملك الظاهر برقوق أن أيتمش هذا إلى الآن في رق ورثة الأمير جرجي نائب حلب، فطلب السلطان ورثة جرجي المذكور في يوم السبت ثامن شهر ذي القعدة سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وجمع القضاة والأعيان واشترى الأمير أيتمش المذكور من ورثة جرجي؛ بحكم أن جرجي مات ولم يعتق أسندمر أستاذ أيتمش، بل كان في رقه؛ فأخذه الأمير بجاس من ورثة جرجي، بغير طريق شرعي وأعتقه، وصار أسندمر بعد موت أستاذه بجاس أميراً، وفي زعمه أن أستاذه بجاس اشتراه من ورثة جرجي وأعتقه؛ فاشترى أسندمر المذكور أيتمش - صاحب الترجمة - وأعتقه، فحكمت القضاة بأن أسندمر البجاسي كان في رق جرجي إلى أن مات، وعتق بجاس له في غير محل، وأن أيتمش أيضاً في رق ورثة جرجي المذكور.
وأثبت ذلك القضاة، واشتراه السلطان من ورثة جرجي بمائة ألف درهم، وأعتقه في الحال، وأنعم عليه بأربعمائة ألف درهم، وبناحية سفط رشيد، زيادة
على ما بيده، ثم خلع على القضاة والموقعين الذين سجلوا البيع والعتق، وانصرفوا، فلم يكن بعد أيام إلا وخلع الملك الظاهر على أيتمش المذكور واستقر به أتابك العساكر بالديار المصرية. وزادت حرمته في الدولة الظاهرية، واستمر على ذلك، إلى أن عصى الأمير يلبغا الناصري نائب حلب على الملك الظاهر برقوق في سنة إحدى وتسعين، ووافقه منطاش نائب ملطية، وشاع الخبر بذلك وفشا، جهز لهما الملك الظاهر برقوق عسكراً - خمس مائة مملوك من المماليك السلطانية الظاهرية وغيرهم - ومقدمهم الأمير أيتمش صاحب الترجمة، وصحبه عدة من أمراء الألوف بديار مصر، وهم: الأمير أحمد بن يلبغا أمير مجلس، والأمير جاركس الخليلي أمير آخور، والأمير أيدكار حاجب الحجاب، والأمير يونس النوروزي الدوادار، وتوجهوا الجميع لقتال الناصري ومنطاش.
وهذه الوقعة تعرف بوقعة الخمسمائة. فلما بلغ الناصري ذلك خرج من دمشق بمن معه نحو الديار المصرية، والتقوا مع العسكر السلطاني خارج دمشق، وكانت بين الفريقين وقعة عظيمة انتصر فيها الناصري على الأمير أيتمش هذا، وقبض عليه، وقتل الأمير جاركسي الخليلي في المعركة، وفر أحمد بن يلبغا وأيدكار
الحاجب إلى الناصري وصارا من حزبه، ثم قتل يونس في عوده إلى القاهرة في خربة اللصوص، قتله عنقاء بن شطي، لما في نفسه منه، وحبس أيتمش ببرج قلعة دمشق مدة، إلى أن خلع الملك الظاهر من السلطنة، وحبس بالكرك، ثم خرج وملك الديار المصرية ثانياً. كل ذلك وأيتمش في حبس قلعة دمشق؛ لأن دمشق دامت مع أعوان منطاش مدة أيام، بعد سلطنة برقوق الثانية، إلى أن أفرج عنه وعاد إلى الديار المصرية في سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، وخلع الملك الظاهر عليه باستقراره رأس نوبة الأمراء - وهذه الوظيفة مفقودة في عصرنا هذا - وعاد إلى حرمته وخصوصيته عند الملك الظاهر برقوق، ثم زادت عظمته في أواخر دولته، وأعيد بعد الأتابك كمشبغا الحموي إلى أتابكية العساكر بالديار المصرية على عادته أولاً في سنة ثمانمائة؛ بحكم القبض على الأتابك كمشبغا الحموي وحبسه بالإسكندرية.
ولم يزل أيتمش على ذلك، إلى أن توفى الملك الظاهر برقوق بعد أن أوصاه: بأن يكون هو مدبر مملكة ولده الملك الناصر فرج. فلما وقع ذلك بعد موت برقوق، وسكن الأتابك أيتمش بالحدرة من باب السلسلة بالإسطبل السلطاني،
وصار هو المتحدث في المملكة، والمشار إليه في الدولة، عظم ذلك على الأمراء الأصاغر من مماليك برقوق وافترقت الأمراء، فصارت فرقة مع الأتابك أيتمش هذا، وهم أعيان أمراء الظاهر برقوق وخواص مماليكه، وفرقة بالقلعة عند السلطان، وهم أصاغر أمراء برقوق من مماليكه. فالذين كانوا مع الأتابك أيتمش: والدي أمير سلاح، والأمير أرغون شاه أمير مجلس، والأمير أحمد بن يلبغا الخاصكي أحد أكابر مقدمي الألوف بالقاهرة، والأمير فارس حاجب الحجاب، والأمير يعقوب شاه أحد مقدمي الألوف، وعدة أخر من مقدمي الألوف والطبلخاناه والعشرات، والذين كانوا بقلعة الجبل عند السلطان كالأمير بيبرس الدوادار - وليس له من الأمر شيء - والأمير يشبك الشعباني الخازندار - وهو يومئذ صاحب الحل والعقد - والأمير سودون قريب الملك الظاهر برقوق، وغيرهم من العشرات والطبلخاناه. وكثر الكلام بين الطائفتين إلى أن علموا الأمراء الذين بقلعة الجبل الملك الناصر فرج أن يقول لأيتمش: أنا قد بلغت، وأريد أترشد.
فلما سمع أيتمش هذا الكلام من السلطان، أجاب بالسمع والطاعة؛ فألزموه الأمراء في الحال بأن ينزل من باب السلسة ويسكن في داره على عادته في أيام
الملك الظاهر برقوق، ونزل من باب الدرج إلى داره بباب الوزير بعد أن نهاه والدي عن النزول من باب السلسلة في ذلك اليوم، وقال له: تربص إلى غد حتى ننظر في أمر نفعله مع هؤلاء الأجلاب. فلم يسمع أيتمش من والدي الكلام، ونزل إلى داره، ونقل قماشه من باب السلسلة، ثم بدا له أن يركب بمن معه من الأمراء على الأمراء الذين بقلعة الجبل عند السلطان، فركب من ليلته - وهي ليلة الاثنين عاشر صفر سنة اثنتين وثمانمائة - واشتد القتال بين الفريقين من عشاء ليلة الاثنين إلى الضحى من يوم الاثنين المذكور، وانهزم أيتمش بمن معه إلى قبة النصر، خارج القاهرة.
ولما أن ركب أيتمش، صف عسكره ثلاثة أطلاب: طلب معه - تجاه الطبلخاناه السلطانية من جهة داره بالقرب من باب الوزير - وطلب مع والدي
- ووقف برأس سويقة منعم تجاه القلعة - وطلب مع فارس الحاجب - تحت مدرسة السلطان حسن تجاه باب السلسلة - ثم انهزم أيتمش بعد قتال شديد، ثم انهزم والدي بعده بوقت، ودام فارس الحاجب في موقفه - بعد أن أباد القلعيين شراً إلى قريب العصر - وانهزم أيضاً، واجتمعوا كلهم بقبة النصر، وأاقموا يومهم بتمامه.
واتفق رأيهم على التوجه إلى دمشق والانضمام على نائبها الأمير تنم الحسني، وساروا وهم زيادة على ألف فارس، ولحقوا بالأمير تنم؛ فخرج تنم المذكور إلى ظاهر دمشق وتلقاهم بالرحب والإكرام، وقام بنصرتهم، وأخذ في تجهيز عساكره، واستمال جماعة من النواب بالبلاد الشامية، فأذعنوا له إلا الأمير دمرداش المحمدي نائب حماة، فكتب إليه والدي بالحضور؛ فأذعن وحضر، وبقي الجميع عسكراً واحداً، وخرجوا من دمشق إلى جهة الديار المصرية.
وخرج السلطان الملك الناصر فرج بمن معه من الأمراء، والتقى الفريقان بظاهر غزة، فكانت الكسرة على الأمير تنم وحواشية، وقبض عليهم الجميع، وعلى الأمير أيتمش - صاحب الترجمة - وحبس بقلعة دمشق، ثم قتل بعد أيام مع من قتل من الأمراء بقلعة دمشق ذبحا ف ليلة رابع عشر شعبان سنة اثنتين وثمانمائة، وسنه نيف على الستين. وكان أميراً كبيراً، مهاباً، حشماً ووقوراً، ذا خبرة، وسياسة، وعقل، وتدبير، ومعرفة، وعظمة. بلغ في دولة
الظاهر برقوق من وفور الحرمة ونفوذ الكلمة ما لم ينله غيره من أبناء جنسه. وطالت أيامه في السعادة وكثرت مماليكه، حتى بلغت عدة من في خدمته من المماليك قريباً من الألف، وكان رأس نوبته أمير عشرة، وسلك في أتابكيته طريق السلف من أكابر الأمراء في نوع الأسمطة الهائلة، والحشم، والخدم، والإنعام على الناس، والعيشة الطيبة، هذا مع قلة الظلم والطمع ومع الميل إلى فضل الخير، والكرم.
وكان ذا شيبة نيرة، كمث اللحية، مدور الوجه، أقنى الأنف، أحمر اللون، جميلاً، للقصر أقرب. وكان في الغالب لا يلبس على رأسه إلا قبعاً سلطانياً أبيض صيفاً وشتاءً، ولا يلف على رأسه تخفيفة إلا نادراً جداً. وكان حسن الخلق، حلو المحاضرة سليم الباطن، قليل الشر، وهو آخر عظماء الأمراء بالديار المصرية إلى يومنا هذا.
ولما صار والدي أتابك العساكر بالديار المصرية في الدولة الناصرية فرج، كلمه بعض الناس في أن يسير على طريقة أيتمش المذكور، فقال والدي: هيهات ما نحن من خيل هذا الميدان. وكان سماط والدي ورواتبه في اليوم من اللحم ألف رطل، وبخدمته أربعمائة مملوك. انتهى.