الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الباء الموحدة والياء المثناة من تحت
الملك الظاهر بيبرس البندقداري
بيبرس بن عبد الله، السلطان الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بيبرس الصالحي النجمي البندقداري التركي، سلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والأقطار الحجازية والثغور الإسلامية.
ولد في حدود العشرين وستمائة تخميناً بصحراء اجبقلاق، وأخذ من بلاده صغيراً وأبيع بدمشق؛ فنشأ بها عند العماد الصائغ - على ما قيل - ثم اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري الصالحي، وبقي في ملكه إلى أن قبض
الملك الصالح على أيدكين المذكور وصادره، وأخذ بيبرس هذا فيما أخذه منه، وذلك في شهر شوال سنة أربع وأربعين وستمائة. وأعتقه الملك الصالح نجم الدين، وقدمه على طائفة من الجمدارية؛ لما رأى من فطنته وذكائه واستمر بيبرس على ذلك إلى أن مات الملك الصالح نجم الدين أيوب، وملك بعده ابنه الملك المعظم توران شاه في سنة سبع وأربعين وستمائة. ثم قتل توران شاه في سنة ثمان وأربعين وستمائة، وأجمعوا الأمراء على إقامة الأمير عز الدين أيبك التركماني الصالحي، وولوه السلطنة بعد شجر الدر - أم خليل الصالحية - حسبما ذكرناه في ترجمة الملك المعز في أول هذا الكتاب -.
وكانت ولاية المعز في آخر ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين وستمائة.
ولما قتل المعز الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار، ركب بيبرس هذا بالبحرية، وقصدوا قلعة الجبل. فلما لم ينالوا مقصودهم، خرجوا من القاهرة مجاهرين بالعداوة للملك المعز أيبك التركماني، قاصدين الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب دمشق، وهم: بيبرس هذا، وبلبان الرشيدي، وعز الدين أزدمر السيفي، وسنقر الرومي، وسنقر الأشقر، وبدر الدين بيسرى،
وسيف الدين قلاوون الألفي وبلبان السنقري وغيرهم.
فلما شارفوا دمشق سير إليهم الملك الناصر صاحب دمشق يطيب قلوبهم ويستدعيهم إليه؛ فأرسلوا إليه الأمير فخر الدين المقرئ يستحلفه لهم؛ فحلف؛ فاطمأنوا ودخلوا دمشق؛ فأكرمهم الملك الناصر، وأطلق لبيبرس هذا بثلاثين ألف درهم، وثلاثة قطر بغال، وثلاثة قطر جمال، وخيل، وملبوساً. وفرق أيضاً في بقية الجماعة الأموال والخلع - على قدر مراتبهم -.
فلما بلغ الملك المعز ذلك كتب إلى الملك الناصر يحذره منهم، ويغريه بهم؛ فلم يصغ الملك الناصر لذلك، إلى أن استشعر بيبرس من الملك الناصر بالغدر، توجه بمن معه إلى الكرك؛ فجهز صاحبها الملك المغيث عسكره معه؛ فقدم إلى مصر، وعدة من معه ستمائة فارس. وخرج عسكر الديار المصرية؛ فتلقاه، وأراد الملك الظاهر كبسهم؛ فوجدهم على أهبة؛ فالتفت العسكر المصري عليهم وقاتلهم فانكسر عسكر بيبرس، ولم ينج إلا هو بنفسه وقلاوون وبيسرى وبيليك الخازندار.
وعاد بيبرس إلى جهة الكرك؛ فجاءه جماعة من أمراء مصر، واجتمعوا بيبرس والملك المغيث صاحب الكرك بظاهر غزة؛ فقويت شوكتهما، وعادوا إلى الصالحية، ولقوا عسكر مصر ثانياً؛ فاستظهر عسكرهما أولاً، ثم عادت الكرة عليهما، وهرب الملك المغيث، ولحقه بيبرس، وأسر أولئك الأمراء الذين كانوا حضروا إليه؛ فقتلوا جميعاً صبراً - ما خلا الأمير بيليك الخازندار -؛ فإن جمال الدين الجوكندر شفع فيه؛ فخير بين المقام والذهاب؛ فاختار الذهاب إلى أستاذه.
ثم إلى الملك المغيث حصلت بينه وبين بيبرس وحشه أوجبت مفارقته إياه، وعوده إلى الملك الناصر صاحب دمشق بعد أن أستحلفه على أن يقطعه خبز مائة فارس؛ فأجاب الملك الناصر لذلك.
وكان قدوم بيبرس في هذه المرة على الملك الناصر، في شهر رجب سنة سبع وخمسين وستمائة، ومعهم الجماعة الذين حلف لهم الناصر وهم: أيتمش السعدي، بيسرى الشمسي، وطيبرس الوزيري، وبلبان الرومي، وآقوش الرومي، وكشتغدي الشمسي، وأيدغميش الحلبي، ولاجين الدرفيل، وكشتغدي الشرقي، وأيبك الشيخي، وبيبرس خاس ترك الصغير، وبلبان المهراني، وسنجر الهمامي، وسنجر الباشقردي، وأيبك العلائي، ولاجين الشقيري، وبلبان الأقسيسي،
وعلم الدين سلطان الألد كزى؛ فأكرمهم الملك الناصر، ووفى لهم بما حلف.
فلما ورد الخبر بأن الملك الظفر قطز وثب على ابن أستاذه، حرض الملك الناصر بيبرس على قصد الديار المصرية، فلم يجبه الناصر، فقال بيبرس: فقد منى على أربعة آلاف فارس أقوم بها إلى شط الفرات أمنع التتار من العبور إلى الشام، فلم يمكنه الملك الصالح صاحب حمص؛ لباطن كان له مع التتار.
ثم إن بيبرس أرسل استحلف الملك المظفر قطز، وفارق الملك الناصر صاحب دمشق، ودخل إلى القاهرة في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وستمائة؛ فركب الملك المظفر قطز للقائه، وأنزله في دار الوزارة، وأقطعة قليوب لخاصته، وصار عنده خصيصاً إلى أن خرج الملك المظفر قطز لملتقى التتار، سير بيبرس هذا في عسكر؛ ليتجسس أخبارهم؛ فأول من وقعت عينه عليهم ناوشهم القتال؛ فلما كسر التتر تبعهم يقتص آثارهم، ويقتل من وجد منهم إلى حمص. ثم عاد بيبرس؛ فوافى المظفر قطز بدمشق؛ فلما توجه المظفر إلى نحو الديار المصرية، عاد بيبرس هذا صحبته بعد أن اتفق مع جماعة من ممن وافقه على قتل الملك المظفر قطز؛ فقتلوه في سادس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة.
وكان المتولى قتله الملك الظاهر بيبرس هذا، بين منزلة الغرابي والصالحية، ودفن بالقصير. وهو أن الملك المظفر قطز ساق خلف أرنب؛ فلما انفرد عن عسكره، تقدم بعض الأمراء - ممن اتفق مع بيبرس وشفع عنده شفاعة - وتقدم ليقبل يده؛ فقبض عليها، وأخذته السيوف حتى تلف، ثم ساقوا إلى الدهليز، فتقدم فارس الدين الأتابك؛ فحلف له، ثم الرشيدي، ثم الأمراء على طبقاتهم، ثم ركب ومعه الأتابك فارس الدين المذكور، وبيسرى وجماعة من خواصه؛ فدخل القاهرة؛ وملك قلعة الجبل، وتلقب بالملك القاهر أولاً؛ فأشار الوزير زين الدين على السلطان بتغيير لقبه - وكان فاضلاً - وقال: ما لقب أحد بالقاهرة فأفلح، لقب به: القاهر بن المعتضد، فلم تطل أيامه وخمل وهمل، ولقب به القاهر ابن صاحب الموصل؛ فسم؛ فأبطل السلطان اللقب الأول ولقب بالملك الظاهر، وكتب بذلك إلى جميع الأعمال، ثم كتب إلى الملك
الأشرف صاحب حمص، وإلى الملك المنصور صاحب حماة، وإلى علاء الدين ابن صاحب الموصل يعرفهم بما جرى، ثم أفرج عمن بالحبوس، وأقر الصاحب زين الدين على الوزارة، وأفرج عن الأجناد، وأرسل الأمير جمال الدين آقوش المحمدي بتقاليد إلى دمشق باستقرار الأمير علم الدين سنجر الحلبي في نيابة دمشق عوضاً عن الأمير حسام الدين لاجين؛ فوجده قد تسلطن بدمشق.
وكانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس في سنة ثمان وخمسين وستمائة، واستقر في الملك وعظمت ممالكه، وسافر إلى دمشق غير مرة، وفتح الفتوحات الهائلة، وكسر التتار؛ فأول ركوبه كان في سنة تسع وخمسين وستمائة، ركب من قلعة الجبل في سابع شهر صفر متوجهاً إلى دمشق وبخدمته أعيان الأمراء، ومن جملتهم أستاذه الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري - يعني أستاذ الملك الظاهر قبل السلطان صلاح الدين، كما ذكرناه في أول هذه الترجمة - ومهد أحوال دمشق، وعاد إلى الديار المصرية، وأقام بها إلى أن سافر ثانياً إلى صفد في سنة أربع وستين؛ ففتحها عنوة من يد الفرنج، ثم جهز صاحب حماة
والفارقاني إلى غزو سيس وصحبتهم عسكراً هائلاً؛ فتوجهوا إلى بلاد سيس، وقتلوا، وأسروا، وغنموا، وأسر ابن صاحب سيس وابن أخته. ثم فتح يافا سنة ست وستين وستمائة، ثم سار إلى أنطاكية؛ فوصلها في أول شهر رمضان، وفتحها بالسيف في رابع شهر رمضان المذكور، واستمر السيف فيهم، ولا نجا منهم إلا اليسير.
قال ابن كثير: وما رفع السيف عن أحد حتى لو حلف الحالف أنه ما سلم منها أحد صدق. انتهى.
وفيها فتح الشقيف بعد أن حاصرها عشرة أيام وتسلمها، وكان بها نحو خمسمائة رجل، وفيها أيضاً فتح صور، ثم أغار على طرابلس، وخرب قراها، وقطع أشجارها، ثم رحل ونزل على حصن الأكراد؛ فنزل إليه رسول صاحبها بإقامة وضيافة؛ فردها، وطلب منهم دية: مائة رجل، مائة ألف دينار، ثم حصرها يوماً واحداً؛ فملكها في يوم السبت، ووضع فيها السيف، ونهب، وسبا، وقتل، وأسر، ثم تسلم دركوش، وصالح أهل القصير على مناصفته ومناصفة
القلاع المجاورة له. ثم وصل إليه صاحب بغراص يطلبون منه تسليمها إليه، فسير إليها الأمير شمس الدين الفارقاني بالعساكر؛ فتسلمها في ثالث عشر شهر رمضان، ثم عاد الملك الظاهر بيبرس إلى دمشق فعيد بها، ثم توجه نحو القاهرة؛ فدخلها، واستمر بها إلى سنة سبع وستين وستمائة أجلس ولده الملك السعيد على تخت الملك، ثم خرج من القاهرة؛ فتوجها إلى الشام؛ فدخلها في جمادى الآخرة، ثم ركب منها ونزل على الخربة، ثم سار منها في أواخر شهر رجب إلى ديار مصر على البريد، ثم عاد؛ فكانت غيبته أحد عشر يوماً.
وكان غرضه برجوعه إلى القاهرة كشف خبر ولده، بعد أن ترك عسكره بالقرب من دمشق إلى أن عاد إليهم، ثم توجه إلى صفد؛ فأقام بها يومين وشن، الغارة على بلد صور ثانياً، ثم سار إلى الكرك، وأخذ معه بيليك الخازندار، والقاضي فخر الدين سليمان، وغيرهما من الأمراء وثلاثمائة مملوك. وسار إلى الحج، وعاد إلى دمشق، ثم إلى حلب؛ فوصلها في سادس المحرم سنة ثمان وستين، ثم خرج منها في عاشر المحرم، وسار إلى دمشق، ثم توجه من دمشق إلى نحو البلاد
المصرية؛ فدخلها في يوم الثلاثاء من صفر، فصادف في هذا اليوم دخول الحج المصري إلى القاهرة.
ثم في سنة تسع وستين قبض الظاهر على الملك العزيز ابن الملك المغيث صاحب الكرك واعتقله. ثم في سنة إحدى وسبعين وستمائة توجه إلى دمشق على البريد، وعاد في سابع عشرين المحرم - وقيل في يوم السبت ثالث عشرينه من السنة - فكانت غيبته في هذه السفرة نحواً من عشرين يوماً، فأقام بالقاهرة إلى ليلة الجمعة السابع والعشرين من المحرم، ثم عاد إلى دمشق على البريد؛ فدخل قلعة دمشق ليلة الثلاثاء رابع صفر في خمسة نفر.
وفي أوائل هذه السنة قصد الكافر صاحب النوبة عيذاب؛ فنهبها، وقتل منها خلقاً، منهم واليها وقاضيها؛ فسار متولي قوص وقصد بلاد النوبة؛ فدخل بلاد الجون وقتل من فيه وأحرقه، وكذا فعل بجميع بلاده.
وفي خامس جمادى الأولى ورد الخبر على الملك الظاهر بدمشق أن فرقة
من التتار قصدت الرحبة، فبرز إلى القصير بالعساكر، فبلغه عودهم من الرحبة ونزولهم على البيرة، فسار الظاهر إلى حمص، وأخذ مراكب الصيادين بالبحرية على الجسور، ثم سار حتى بلغ الباب من أعمال حلب، وبعث بجماعة من المماليك لكشف أخبارهم، وسار إلى منبج؛ فعادوا، وأخبروا بأن طائفة من التتار نحو من ثلاثة آلاف فارس على شط الفرات؛ فرحل الملك الظاهر من منبج يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، ووصل إلى شط الفرات - مما يلي الجزيرة -؛ فتقدم العسكر يخوضون الفرات؛ فخاض الأمير سيف الدين قلاوون الألفي، والأمير بدر الدين بيسرى في أول الناس، ثم تبعها الملك الظاهر بنفسه، وتتابع الناس إلى أن وقعوا على التتار، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا تقدير مائتي نفس، ولم ينج من التتار إلا القليل، وتبعهم بيسرى إلى قريب سروج، ثم عاد إلى السلطان، فرجع السلطان إلى البيرة في الثاني والعشرين من جمادى الأولى؛ فدخلها، وخلع على نائبها، وعلى جماعة أخر.
وقال في هذه الواقعة العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان قصيدة يمدح الملك الظاهر بها، ويذكر خوضه الفرات، وأول القصيدة:
سر حيث شئت لك المهيمن جاره
…
وأحكم فطوع مرادك الأقدار
ومنها:
خضت الفرات بسابح أقصى منىً
…
هوج الصبا من فعله الآثار
وفي هذا المعنى يقول أيضاً الأديب ناصر الدين بن النقيب:
ولما ترامينا الفرات بخيلنا
…
سكرناه منا بالقوى والقوائم
فأوقفت التيار عن جريانه
…
إلى حيث عدنا بالغناء والغنائم
وقال الفاضل موفق الدين عمر بن المتطيب في المعنى:
الملك الظاهر سلطاننا
…
نفديه بالمال وبالأهل
اقتحم الماء ليطفي به
…
حرارة القلب من المغل
وفي سنة اثنتين وسبعين وستمائة قدم ملك الكرج؛ ليزور بيت المقدس والقمامة منكراً في زي الرهبان ومعه طائفة؛ فسلك أرض الروم إلى
سيس، ثم ركب البحر وطلع من عكا، وأتى القدس، فاطلع الأمير بيليك الخازندار على أمره، وهو على يافا؛ فأرسل من قبض عليه، ثم أرسله مع الأمير منكورس إلى الملك الظاهر، والظاهر بدمشق؛ فسأله السلطان، وقرره بلطف حتى اعترف، وحبسه وأمره أن يكتب إلى بلاده بأسره. وعاد السلطان إلى ديار مصر في شهر رجب.
وفي سنة ثلاث وسبعين وستمائة - في صفر منها - توجه السلطان إلى الكرك على الهجن، وكان قد وقع بها برج أحب السلطان أن يصلح بحضوره، ثم دخل دمشق في آخر شهر شعبان. ثم سار إلى سيس، وعبر إليها من الدربند، فافتتحها، وأخذ إياس، وأذنة، والمصيصة في العشر الأخير من رمضان، وبقي الجيش بها شهراً، وقتلوا وأسروا وسبوا منها خلائق.
وفي هذا المعنى يقول العلامة محيي الدين بن عبد الظاهر:
يا ملك الأرض الذي جيشه
…
يملأ من سيس إلى قوص
مصيصة التكفور قالت لما
…
بالله إفرادي وتخصيصي
كم بدن فصله سيفك الغراء
…
والأكثر مصيصي
وفي يوم الخميس العشرين من شهر رمضان سنة خمس وسبعين وستمائة خرج الملك الظاهر من الديار المصرية متوجهاً إلى بلاد الروم، بعد أن قرر في السلطنة
بالديار المصرية ولده الملك السعيد، وجعل الفارقاني كالمدبر له، وترك عند الملك السعيد من العسكر خمسة آلاف فارس، ورحل الظاهر يوم السبت ثاني عشرين شهر رمضان، وسار حتى دخل دمشق في سابع عشر شوال، ثم خرج منها متوجهاً إلى حلب؛ فدخلها في أول ذي القعدة، ثم خرج منها متوجهاً إلى الروم، وجد في السير إلى أن وصل إلى أقجا دربند، فقطعه في نصف نهار.
فلما خرجت عساكره وتكاملت، قدم الأمير سنقر الأشقر على جماعة من العسكر وأمره بالمسير؛ فسار حتى وقع على كتيبة للتتار، عدتهم ثلاثة آلاف فارس، ومقدمهم الأمير كراي التتري؛ فهزمهم الأمير سنقر الأشقر وأسر منهم طائفة، ثم وردت الأخبار على الملك الظاهر بأن برواناه على نهر جيحان، ثم سار السلطان.
فلما صعد العسكر على الجبال وأشرف على صحراء إبلستين؛ فشاهد التتار قد رتبوا عساكرهم أحد عشر طلباً، في كل طلب ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم إلى جانب؛ خوفاً من باطن لهم مع المسلمين، وجعلوا عسكر الكرج طلباً واحداً.
فلما تراءى الجمعان، حملت ميسرة التتار حملة واحدة على ميمنة الظاهر، فأردفهم الظاهر بنفسه، ثم كانت منه التفاتة؛ فرأى ميسرته قد لحت عليها ميمنة التتار؛ فأردفها أيضاً بنفسه، ثم حمل وحملت العساكر برمتها حملة رجل واحد؛ فترجل التتار عن خيولهم، وقاتلوا أشد القتال، فلم يغن عنهم ذلك شيئاً،
وأنزل الله بأسه بهم، وانتصر المسلمون؛ فقتل أكثر التتار، وفر من نجا منهم واعتصموا بالجبال، وأحاط بهم الجيش الإسلامي، وترجلوا عن خيولهم، وقاتلوا؛ فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا منهم جماعة كثيرة من أعيان الروم والتتار.
وفي هذا المعنى يقول العلامة شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان الحلبي الكاتب قصيدة طنانة منها:
كذا فلتكن في الله عز العزائم
…
وإلا فلا تجفوا الجفون الصوارم
عزائم جازتها الرياح فأصبحت
…
مخلفة تبكي عليها الغمائم
ومنها:
بجيش تظل الأرض منه كأنها
…
على سعة الأرجاء في الضيق خاتم
كتائب كالبحر الخضم جيادها
…
إذا ما تهادت موجه المتلاطم
تحيط بمنصور اللواء مظفر
…
له النصر والتأييد عبد وخادم
مليك يلوذ الدين من عزماته
…
بركن له الفتح المبين دعائم
وفي السنة المذكورة دخل الملك الظاهر بلاد الروم، ونزل بمدينة قيصرية، وجلس بها في دار الملك، وصلى بها الجمعة، وخطبوا له، وضربت السكة باسمه في القعدة من السنة. ثم رجع، وقطع الدربند، وعبر النهر، ثم عاد إلى دمشق في سابع المحرم مؤيداً منصوراً، ونزل بالقلعة، ثم انتقل إلى قصره الأبلق بدمشق؛ فمرض في نصف المحرم من سنة ست وسبعين وستمائة؛ فمات من مرضه يوم الخميس بعد الظهر الثامن والعشرين من المحرم من السنة المذكورة، وحمل إلى القلعة ليلاً مع أكابر أمرائه، وغسله، وصبره المهتار شجاع الدين عنبر، والكامل علي بن المنبجي الإسكندراني المؤذن، والأمير عز الدين الأفرم.
ووضع في تابوت، وعلق في بيت بالقلعة، وهو في عشر الستين إلى أن يحصل الاتفاق على موضع دفنه.
وكان قد أوصى أن يدفن على الطريق السالكة، قريباً من داريا، وأن يبنى عليه هناك قبة؛ فرأى ولده الملك السعيد أن يدفنه داخل السور، فابتاع دار العقيقي، وبنيت له قبة. فلما تكمل بناؤها نقل إليها، ووقف عليها وعلى المدرسة الأوقاف الكثيرة، ثم في يوم السبت رابع عشر صفر شرع في عمل أغربة الملك الظاهر بيبرس المذكور بالديار المصرية.
قال الأمير بيبرس الدوادار في تاريخه: وكان القمر قد كسف كسوفاً كاملاً، أظلم له الجو، وتأول ذلك المتأولون بموت رجل جليل القدر؛ فقيل إن السلطان لما بلغه ذلك حذر على نفسه، وخاف، وقصد أن يصرف التأويل إلى غيره؛ لعله يسلم من شره.
وكان بدمشق شخص من أولاد الملوك الأيوبية - وهو الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك ابن السلطان الملك المعظم عيسى ابن السلطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب -؛ فأراد الظاهر - على ما قيل - اغتياله بالسم؛ فأحضره في مجلس شرابه؛ فأمر الساقي أن يسقيه قمزاً، كان ممزوجاً فيما يقال بسم؛ فسقاه الساقي ذلك الكأس؛ فأحس به، وخرج من وقته، ثم غلط الساقي، وملأ الكأس المذكور، وفيه أثر السم، ووقع الكاس في يد الملك الظاهر فشربه. انتهى كلام بيبرس الدوادار باختصار.
قلت: هذا القول مشهور بأفواه الناس، والله أعلم. وخلف الملك الظاهر بيبرس - صاحب الترجمة - عشرة، أولاد وهم: الملك السعيد محمد، وسلامش، وخضر. وسبع بنات.
وقال الشيخ قطب الدين: كان له عشرة آلاف مملوك.
وقال الحافظ الذهبي في تاريخه: حكى الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري الحموي، قال: كان الأمير علاء الدين البندقداري الصالحي لما قبض عليه، وأحضر إلى حماة، واعتقل بجامع قلعتها اتفق حضور ركن الدين بيبرس هذا من بلاده مع تاجره، وكان الملك المنصور صاحب حماة إذ ذاك صبياً. وكان إذا أراد شراء رقيق تبصره الصاحبة والدته؛ فأحضر بيبرس هذا مع جخداشه؛ فرأتهما من وراء الستر، فأمرت بشراء جخداشه، وقالت: هذا الأسمر - يعني الملك الظاهر بيبرس - لا يكون بينك وبينه معاملة؛ فإن في عينيه شراً لائحاً؛ فردهما الملك المنصور جميعاً، فطلب البندقداري الغلامين، فاشتراهما، وهو معتقل، ثم أفرج عنه وسار بهما إلى مصره وآل أمر ركن الدين بيبرس هذا إلى ما آل.
ثم قال: واشتهر - يعني الملك الظاهر - بالشجاعة والإقدام.
ولما سارت الجيوش المنصورة من مصر لحرب التتار كان هو طليعة الإسلام.
ثم قال: وكان غازياً، مجاهداً، مرابطاً، خليقاً للمملكة لولا ما كان فيه من الظلم، والله يرحمه ويغفر له؛ فإن له أياماً بيضاء في الإسلام، ومواقف مشهودة، وفتوحات معدودة. انتهى كلام الذهبي، رحمه الله.
قلت: وكان الملك الظاهر رحمه الله ملكاً شجاعاً، مقداماً، خبيراً بالحروب، ذا رأي وتدبير وسياسة، ومعرفة تامة. وكان سريع الحركات، كثير الأسفار، نالته السعادة والظفر في غالب حروبه، وفتح عدة فتوحات من أيدي الفرنج وهي: قيسارية، وأرسوف، وصفد، وطبرية، ويافا، والشقيف، وأنطاكية، وبغراس، والقصير، وحصن الأكراد، وحصن عكار، وصافيثا، ومرقية، وطرابلس، وبلاد أنطرطوس، وناصفهم على المرقب وبانياس. وله مآثر بالقاهرة ودمشق وغيرها. وبنى عدة جوامع، ومدارس، وقناطر، وجسور مشهورة به بسائر الأقاليم منها: المدرسة الظاهري بين القصرين
من القاهرة. ولما فرغ من عملها جعل بها مدرس الحنفية الصاحب مجد الدين بن العديم، ومدرس الشافعية الشيخ تقي الدين بن رزين. وولى مشيخة الحديث للحافظ شرف الدين عبد المؤمن الدمياطي. وولى مشيخة القراء للشيخ كمال الدين الحلي.
وفي أيامه في سنة ثلاث وستين وستمائة جعل بالديار المصرية قضاة أربع، من كل مذهب قاض. وسبب ذلك: توقف القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز عن تنفيذ كثير من الأحكام، وكثرة توقفه؛ فكثرت الشكاوى منه، وتعطلت الأمور؛ فوقع الكلام في ذي الحجة بين يدي الملك الظاهر. وكان الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي يكره القاضي تاج الدين؛ فقال له نترك لك مذهب الشافعي، ونولي معك من كل مذهب قاضياً؛ فمال السلطان الملك الظاهر إلى كلامه. وكان لأيدغدي العزيزي محل عظيم عند الظاهر؛ فولى قاضي قضاة