الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وهكذا كان غالب ذريته من بعده في البخل والخسة، عفا الله عنهم.
الساقي
بكتمر بن عبد الله الركني الساقي الناصري.
كان أولاً من مماليك الملك المظفر بيبرس الجاشنكير، ثم انتقل إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون؛ فحظي عنده، وجعله ساقياً.
وكان غريباً في بيت السلطان؛ لأنه لم يكن له بخجداش، فكان هو وحده وسائر الخاصكية حزباً عليه. وعظمت مكانته عند السلطان، وزادت محبته له.
ولما مات طغاي الكبير، كان تنكز نائب الشام منتمياً إليه؛ فقال السلطان لتنكز: خل بكتمر يكون أخاك عوض طغاي.
قال ابن أيبك: كان يقال إن السلطان وبكتمر لا يفترقان، إما أن يكون بكتمر عند السلطان، وإما أن يكون السلطان عند بكتمر، ولا يأكل إلا في بيت بكتمر مما تطبخه له أم أحمد بن بكتمر في قدور فضة، وينام عندهم ويقوم، حتى كان الناس يظنون أن أحمد بن السلطان مما يحبه ويبوسه ويحمله.
وكان بكتمر قد عظم ذكره عند الناس وتسامعوا به، فإذا أهدى الناس إلى السلطان شيئاً كان مثله لبكتمر، والذي يجيء إلى السلطان يكون أيضاً غالبه لبكتمر؛ فعظمت أمواله.
وكان في إصطبله مائة سطل نحاساً لمائة سائس ستة أرؤس، غير ماله في الجشارات، ومع ذلك لم يكن له حماية ولا رعاية، ولا لغلمانه ذكر.
وكان باب إصطبله يغلق من المغرب، وما لأحد به حس.
وعمر تلك العمارة التي على بركة الفيل، وكان قد استخدم فيها نور الدين
الفيومي، وكان صاحبي؛ فقلت له: كم نفقة العمارة كل يوم؟ قال: تبلغ ألف وخمسمائة درهم مع جاه العمل؛ لأن العجل من عند السلطان، والحجارين والفعلة من المحابيس؛ فقلت له: فكم يكون مقدار ذلك لو لم يكن جاء العمل؟ فقال لي: على القليل كل يوم ثلاثة آلاف درهم. وأقاموا يعمرون فيها مدة عشرة أشهر، وخرجت أنا من القاهرة وهم يعملون في الحوش، ولم يكونوا وصلوا إلى الرخام، ولا اللازورد، ولا الذهب، ولا عرق اللؤلؤ. انتهى.
قلت: وهذه الدار بالقرب من الكبش، تعرف بقصر بكتمر، ملكناها في حدود سنين العشرين وثمانمائة، وابتاعها منا غصباً الأمير تمرباي رأس نوبة النوب في سنة ست وأربعين وثمانمائة، بنحو ألف دينار، بحكم القيراط من مصروفها، انتهى.
قال الصفدي: ولما توفى بكتمر بطريق الحجاز عائداً سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة، خلف من الأموال والجواهر والأصناف والأمتعة والقماش ما يزيد عن الحد.
قال لي المهذب كاتبه: أخذ السلطان من خيله أربعين فرساً، قال: هذه لي وهبته إياها. وأبيع الباقي على ما انتهبه الخاصكية، وأخذوه بالثمن
البخس، بما مبلغه ألفا ألف درهم ومائتا ألف درهم وثمانون ألف درهم، خارجاً عما في الجشارات.
وأنعم السلطان بالزرد خاناه والسلاح خاناه التي له على الأمير قوصون بعد ما أخذ منها سرجاً واحداً وسيفاً واحداً؛ فقال المهذب: قيمتها ستمائة ألف دينار. وأخذ السلطان له ثلاثة صناديق جوهر مثمناً ما لا يعلم لها قيمة، وأبيع له من: الآلات، والصيني، والكتب، والمصاحف، والربعات، والبخاري نسخ مختلفة. ومن الأدوية والمطعم وغير ذلك، والفراء الوبر، والأطلس وأنواع القماش السكندري والبغدادي وغير ذلك شيء كثير إلى الغاية المفرطة، دام البيع في ذلك مدة شهور.
وكان مع ذلك كله وافر العقل والسكون والحرمة والحشمة، قريباً من الناس، يتلطف بهم، ويسوسهم أحسن سياسة، ومن دخل في أمره قضى شغله على أكمل الوجوه.
وكان السلطان لا يخالفه في شيء، وإذا أنعم على أحد بوظيفة أو غير ذلك يقول: روح إلى الأمير بوس يده.
وكان يحجر على السلطان ويمنعه كثيراً عن أشياء من المظالم والعسف - ظهرت من السلطان بعد موته -.
ولما توجه السلطان إلى الحجاز توجه معه سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وظهر بتجمل زائد، وحشمة وافرة.
كنت بسرياقوس لما خرجوا، ورأيت ما هالني، وخرج ساقه للناس كلهم، فكان ثقله وبركه نظير ما للسلطان، ولكن يزيد على ذلك بالزركش وآلة الذهب. وتنكر له السلطان في الطريق، واستوحش كل منهما من الآخر. فاتفق أنهم في العود مرض ولده أحمد، ومات قبل والده بثلاثة أيام، ثم إن بكتمر مات بعد ذلك.
وكان السلطان قد عمل أحمد في تابوت وحمله معه. فلما مات أبوه بكتمر دفن الاثنين في الطريق عند نخل، وحث السير بعد ذلك.
وكان السلطان في تلك السفرة لا يبيت إلى في برج خشب وبكتمر عنده، وقوصون على الباب، والأمراء المشايخ كلهم حول البرج ينامون بسيوفهم.
فلما مات بكتمر، ترك المبيت بالبرج؛ فعلم الناس أن ذلك كان خوفاً من بكتمر.
ووجد في خزانة بكتمر في طريق الحجاز خمسمائة خلعة، منها ما هو أطلس بطرز زركش، وحوائص ذهب، وكلوتات وما دون ذلك من خلع المتعممين ومن دونهم من الأمراء الأجناد.
ووجدوا - على ما قيل - فيها قيوداً وزناجير، والله أعلم بحقيقة ذلك في الباطن.
ويقال إنه لما مرض، دخل إليه السلطان يوماً، فقال له بكتمر: بيني وبينك الله تعالى؛ فقال له السلطان: كل من عمل شيئاً يلتقيه.
ولما مات صرخت زوجته أم أحمد، وبكت إلى أن سمعها الناس تتكلم بكلام قبيح في حق السلطان، من جملته: أنت تقتل مملوكك، إيش كان ولدي فقال: بس تفشري، هاتي مفاتيح صناديقه، فأنا كل شيء أعطيته من الجوهر أعرفه واحداً واحداً؛ فرمت إليه المفاتيح؛ فأخذها.
ولما حضر السلطان إلى القلعة أظهر الندم عليه والأسف، وأعطى أخاه إمرة مائة وتقدمة ألف، وقال: ما بقي يجينا مملوك مثل بكتمر.
ثم إنه أمر بحمل رمته ورمة ولده أحمد من طريق الحجاز، وأحضرهما إلى تربيتهما بالقرافة.
وكان للزمان به جمال، ولبيت السلطان به رونق عظيم.
جاء أحمد بن مهنا بعد موته إلى القاهرة؛ فقال: بيت السلطان الآن يعوز شيئاً، وذلك الشيء هو كان بكتمر الساقي.
ويقلا إنه لما مرض في طريق الحجاز كان في محفة سائراً، والسلطان خلفه بقدر رمية نشاب يسير، فإذا أوقفوه وقف، وإذا مشوا به مشى. وتجهز إليه بغا الدوادار يكشف خبره. فلما جاء إليه وقال: يا خوند مات ساقٍ في مماليكه الخاصكية، وقال للأمير سيف الدين الحاج بهادر المعزي: يا أمير، قف غسله، وادفنه هو وولده في هذا المكان. وخلاه، وحث السير؛ فنزل الأمير سيف الدين قوصون عن هجينه بعد ما عرج عن الطريق يظهر أنه يريق الماء، واستند إلى الهجين، وجعل يبكي والمنديل على عينيه، فقال له المملوك الذي معه: يا خوند إيش تبكي، أما كان عدوك فقال والك، أنا ما أبكي إلا على نفسي، هكذا يفعل بكتمر ومن فينا مثل بكتمر؟ ومن بقي بعد بكتمر؟ ما بقي إلا أنا