الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسيلة الثانية من وسائل الإثبات: البينة
مدخل
…
الوسيلة الثانية من وسائل الإثبات: البينة
البينة حجة شرعية ووسيلة من وسائل الإثبات بإجماع العلماء، لكن العلماء مختلفون في المراد بها، فهي عند جمهور العلماء مرادفة1 للشهود، أما عند ابن تيمية وابن القيم فلا تختص بالشهود، بل هي أعم من هذا، شاملة لكل ما يبين الحق ويوضحه، قال ابن القيم:"فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة، أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الحجة، والدليل، والبرهان، مفردة، ومجموعة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له، والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرهما من أنواع البينة قد يكون أقوى منهما، كدلالة الحال على صدق المدعي فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد2.
لماذا خص الجمهور البينة بالشهود:
ومع أن جمهور العلماء يرون أن البينة مرادفة للشهود فإنني لم أجد -كما لم يجد بعض الباحثين من قبلي ممن كتبوا في هذا الموضوع3- تعليلا لتخصيص البينة بالشهود.
ولعل الذي حدا جمهور العلماء على أن يخصوا البينة بالشهود أن البينة قد وردت في النصوص الشرعية في أكثر من موضع مرادا بها الشهود وحدهم، من
1 الترادف هو اختلاف اللفظ واتحاد المعنى، مثل: أسد، وليث، وقسورة، فهذه الألفاظ تفيد معنى واحدا هو الحيوان المفترس الذي له لبدة ومخالب وأنياب وشجاع.
2 الطرق الحكمية، لابن القيم ص14.
3 أستاذنا الدكتور أحمد عبد المنعم البهي في كتابه: من طرق الإثبات في الشريعة والقانون، ص5، دار الفكر العربي.
ذلك ما أخرجه البخاري وأبو داود، والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك".
ومن المعلوم أن القرآن الكريم نص قبل هذه الحادثة على أن البينة التي تثبت بها جريمة الزنا هي أربعة شهود، وهو قول الله عز وجل:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1.
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه الأشعث بن قيس مع آخر في بئر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"بينتك أو يمينه" وفي رواية أخرى في نفس الواقعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: "شاهداك أو يمينه"، وهذا يعد تفسيرا للفظ البينة الوارد في الرواية الأولى2. ولو لم يكن معنى
1 سورة النور، الآية رقم 4.
2 في كثير من الأحاديث الشريفة تختلف ألفاظ الرواة عن الواقعة الواحدة، لكنها جميعا تتفق في المعنى، كهذا الحديث الذي معناه، فرواية تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"بينتك أو يمينه" ورواية أخرى تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "شاهداك أو يمينه" وهو نفس معنى الرواية الأولى.
وهذا دليل على جواز رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قد نقلوا القضية الواحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة.
لكن يحسن هنا أن ننبه إلى أن علماءنا رضي الله عنهم -احتياطا منهم في جانب السنة الشريفة- لم يجيزوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى إلا لمن كان خبيرا بالألفاظ في لغة العرب، ومقاصدها، عالما بما تختلف به دلالتها، فإن لم يكن الشخص على هذا المستوى العلمي لم يجز له أن يروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى.
كما يحسن هنا أن ننبه أيضًا إلى أن العلماء بينوا أن جواز الرواية بالمعنى بالشرط المذكور إذا كانت الرواية بالمعنى في غير المصنفات المخصصة لرواية الحديث، وأما المصنفات الحديثية فقد بيّن العلماء أنه لا يجوز التغيير فيها وإن كان موافقا للمعنى، حفاظا على الحديث من أي نوع من التغيير.
البينة هو الشاهدين في هذه القصة لما عبر راوي الحديث بلفظ "شاهداك أو يمينه".
ولعل الجمهور أيضا لاحظوا أن القرآن الكريم اعتبر الشهادة أساسا للإثبات في مواضع مختلفة، ففي البيع يقول الله عز وجل:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم} 1 وفي الطلاق والرجعة يقول عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} 2 وفي الديون يقول عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 3 وفي الوصية في السفر يقول عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} 4.
وأما ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما فيرون أن البينة إذا وردت في لسان الشرع فإنما المراد بها الحجة والدليل، ولم تأت مرادا بها الشهود وحدهم، فإذا حملناها على الشهود فقط، فإن هذا يكون تخصيصا بلا دليل يدل على التخصيص، ويلزم من ذلك أن نكون قد حملنا كلام الشارع على غير المراد، وهذا لا يجوز.
قال ابن القيم5: "فإنها "يعني البينة" في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وقال: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وقال: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} وهذا كثير لم يختص لفظ البينة بالشاهدين ولا استعمل في الكتاب فيهما البتة".
1 سورة البقرة، الآية رقم:282.
2 سورة الطلاق الآية رقم: 2.
3 سورة البقرة الآية رقم: 282.
4 سورة المائدة، الآية رقم:106.
5 إعلام الموقعين لابن القيم ج1، ص75.
هذا، ومع أن جمهور العلماء يرون أن البينة مرادفة للشهود، فإنهم لا يقصدون أن وسائل الإثبات منحصرة في الشهادة، بل إن مرادهم أن البينة إذا أطلقت لا تنصرف إلا إلى الشهادة، مع وجود وسائل أخرى للإثبات تكلموا عنها كالإقرار، وعلم القاضي، وغيرهما، إلا أن هذه الوسائل لا تسمى عندهم بينة، وإنما يسمونها بأسمائها1.
والشهادة إحدى وسائل الإثبات في النظام القضائي الإسلامي بالإجماع، وهي في اللغة الإخبار بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان، لا عن تخمين وحسبان بحق على آخر، ولهذا قال بعض العلماء إنها مشتقة من المشاهدة التي تنبئ عن المعاينة، وبعض آخر يرى أنها مشتقة من الشهود بمعنى الحضور، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الغنيمة لمن شهد الوقعة" أي: حضرها، ويقال: فلان شهد الحرب، أو شهد قضية كذا أي: حضرها.
وقد سمى الشهود بينة لحصول البيان بقولهم، وارتفاع الإشكال بشهادتهم، فالشهود يتبين بهم الحق أي: يظهر الحق بشهادتهم، ومن المعلوم أن تبين الحق إنما يكون بعد أداء الشهود لشهادتهم، فهم قبل أداء الشهادة شهود، وبعد أدائها بينة، ولكن أيضًا يسمون شهودا بعد الأداء باعتبار ما كان، ويسمونه بينة قبل الأداء باعتبار ما يئول إليه2.
1 من طرق الإثبات، للدكتور أحمد البهي، ص11، 12.
2 حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، مبحث الإقرار، ص202، وأنيس الفقهاء، للشيخ قاسم القونوي، ص235، الطبعة الأولى وحاشية الشرقاوي، على شرح التحرير لزكريا الأنصاري، ج2، ص509.