الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعريف بالقضاء:
جرت عادة العلماء عندما يتعرضون لبيان معنى كلمة من الكلمات التي استعملت في مجال بيان الأحكام الشرعية، مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والزواج، والطلاق، والبيع، والإجارة، وغير ذلك من كلمات كانت موضوعًا للبحوث الفقهية، جرت عادتهم كمدخل للكلام عنها أن يوضحوا معناها في اللغة العربية أولا، ثم يبينوا بعد ذلك معناها عند علماء الشريعة، وهو ما
يعبرون عنه بمعناها في الاصطلاح؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية جاءت في بيئة عربية، فاقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن يكون كتابه الكريم بلغة العرب، وهو المصدر الأول للتشريع، والمصدر الثاني بعد الكتاب الكريم هو السنة النبوية الشريفة، والسنة هي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، والرسول صلى الله عليه وسلم عربي يتكلم العربية، وكان من الطبيعي أن تستعمل الشريعة الإسلامية ألفاظًا كان العرب يستعملونها قبل ورود الشريعة، وفي كثير من الأحوال كان استعمال الشريعة للفظ العربي في معنى مختلف عن المعنى الذي كان العرب يستعملونه فيه قبل ورود الشريعة، وذلك واضح في ألفاظ مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك، فلفظ الصلاة قبل مجيء الإسلام كان يستعمل عند العرب في معنى الدعاء. ولكن عندما جاء الإسلام استعمل في أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم بشروط مخصوصة، ولفظ الزكاة استعمل في لغة العرب بمعنى النماء، وبمعنى التطهير، فيقال مثلا: زكا الزرع، ويكون المعنى نما الزرع، ويقال: زكت نفس فلان، ويكون المعنى طهرت نفس فلان، ولكن
الشريعة استعملت لفظ الزكاة في مال مخصوص يخرج من مال مخصوص ليدفع إلى طائفة خاصة، وهكذا في لفظ الصيام، ولفظ الحج،
وغيرها.
فمن الطبيعي -إذن- أن يتكلم العلماء عن معنى كلمة من الكلمات التي استعملتها الشريعة في لغة العرب، قبل أن يتكلموا عن معناها في الشريعة، أو عند علماء الشرع، أو ما يعبر عنه بمعناها في الاصطلاح، ومعنى الاصطلاح: إخراج اللفظ عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد1.
وجريا على هذه العادة عند العلماء سنبين أولا معنى كلمة "القضاء"، في لغة العرب ثم نبين معناها في اصطلاح علماء الشرع.
القضاء في لغة العرب:
يوجد في لغة العرب بعض الألفاظ التي لها أكثر من معنى، كلفظ العين، ولفظ القرء، فمن معاني لفظ العين، الجاسوس، والباصرة، وعين الماء، والذهب، وغير ذلك، ولفظ "القرء" أيضا وضع في اللغة العربية لمعنى الحيض، ولمعنى الطهر الذي يفصل بين كل حيضتين.
ولفظ "القضاء" من هذا القبيل، أي: من الألفاظ التي وضعتها العرب لأكثر من معنى، وترجع كل المعاني التي وضعتها العرب لهذا اللفظ. كما قال العلماء إلى معنى: انقضاء الشيء وتمامه2.
1 وهناك تعريفات أخرى لكلمة الاصطلاح، فقيل معناها: إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، وقيل الاصطلاح: اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى، وقيل الاصطلاح: لفظ معين بين قوم معينين. التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، ص15.
2 كتاب النيل وشفاء العليل، لعبد العزيز الثميني، مع شرحه لمحمد بن يوسف أطقيش، ج13، ص10، الطبعة الثالثة.
فيطلق لفظ "القضاء" في اللغة العربية على الأمر، ومنه قول الله تبارك وتعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} 1 والمعنى: أمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه، ويطلق على الفراغ ومنه قول الله عز وجل:{قُضِيَ الْأَمْرُ} 2، أي: فرغ، ويطلق على الفعل، مثل قوله سبحانه وتعالى:{فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 3، ويطلق على الإرادة مثل قوله عز وجل:{فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4، ويطلق على الموت، مثل قوله تبارك وتعالى:{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ، ويطلق على الحكم والإلزام، مثل قضيت عليك بكذا، وقضيت بين الخصمين وعليهما5، ويطلق على الأداء، قال الله تعالى:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أي: أديتموها. ويطلق على الصنع والتقدير، ومنه قوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 6 ومنه القضاء والقدر، وغير ذلك من المعاني7.
ويسمي العلماء هذا النوع من الألفاظ التي لها أكثر من معنى بالمشترك
1 سورة الإسراء، آية رقم 23، وقد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} . فالأكثرون على أنه بمعنى أمر، لا بمعنى حكم، ويرى البعض أنه يصلح أن يكون بمعنى حكم.
2 سورة يوسف، الآية رقم 41.
3 سورة طه، الآية رقم 72.
4 سورة غافر، الآية رقم 68.
5 كما أن القضاء في اللغة يطلق على الحكم، ويطلق الحكم ويراد به القضاء، كما في قول الله تبارك وتعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، سورة المائدة، الآية رقم42.
6 سورة فصلت، الآية رقم12.
7 المصباح المنير، محمد بن علي المقري الفيومي، مادة قضى، ومواهب الجليل لشرح مختصر الخليل، للخطاب. ج6 ص86.
اللفظي1.
القضاء في اصطلاح فقهاء الشريعة:
يحسن بنا قبل أن نذكر تعريف القضاء في اصطلاح فقهاء الشريعة أن نذكر
1 المشترك إما أن يكون مشتركًا لفظيا، أو مشتركًا معنويا:
فأما المشترك اللفظي، فهو اللفظ الذي يتعدد وضعه ويتعدد معناه، مثل كلمة "عين"، فإنها موضوعة للباصرة، أي: العين التي نبصر بها، وموضوعة للجاسوس، وغيرها، ومثل كلمة "قرء" فإنها موضوعة للحيض والطهر.
وأما المشترك المعنوي، فهو اللفظ الذي وضعته العرب وضعا واحدا لمعنى كلي يشترك فيه أفراد كثيرة، وذلك مثل كلمة "موجود"، فإن العرب قد وضعتها لمفهوم عام، وهو المتصف بالوجود مطلقا، سواء أكان واجب الوجود، كذات الله تبارك وتعالى، فإن ذاته سبحانه واجبة الوجود، أم كان ممكن الوجود، كغير الله عز وجل من سائر مخلوقاته.
ويسمي العلماء هذا النوع من الألفاظ: مشتركا معنويا؛ لأن أفراده العديدة تشترك في معناه، بخلاف المشترك اللفظي.
وإذا وجدت كلمة "مشترك" في تعبير العلماء مطلقة غير مقيدة بأنها مشترك لفظي، أو معنوي، فإنها في هذه الحال تنصرف إلى المشترك اللفظي، فإذا قال العلماء عن لفظ ما، إنه مشترك، ولم يبينوا هل هو مشترك لفظي أو مشترك معنوي، فإننا نفهم من الإطلاق أنهم يريدون به المشترك اللفظي.
وأما إذا أريد به المشترك المعنوي، فلا بد من التقييد، فيقال: هذا اللفظ مشترك معنوي.
هذا، ويرى بعض العلماء أنه لا يوجد مشترك في اللغة، واحتجوا على رأيهم هذا بأن الغرض من وضع اللغة هو أن تتميز المعاني بالأسماء ليحصل بها الإفهام، فلو كان هناك لفظ واحد وضع لمعنى، ووضع لمعنى آخر خلاف هذا المعنى على طريق البدل، لما فهم أحد بهذا اللفظ أحد هذين المعنيين، وهذا يؤدي إلى انتقاض الغرض من المواضعة.
ولكن جماهير العلماء يرون وجود المشترك في اللغة، والحجة في هذا أنه لا يوجد ما يمنع عند بداية الوضع اللغوي أن تضع قبيلة من القبائل مثلا اسم "القرء" للحيض، وتضعه قبيلة أخرى للطهر، ويشيع استعمال ذلك بين الناس، ويخفى أن هذا الاسم قد وضع لهذين المعنيين من جهة قبيلتين، فيفهم من هذا اللفظ عند إطلاقه الحيض والطهر، على طريق البدل.
انظر: المعتمد لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، الجزء الأول، ص22، طبع المطبعة الكاثوليكية في بيروت، 1964، وانظر: أصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص347.
أن العلماء بينوا أن الحكم أعم من القضاء؛ وذلك لأن كلمة الحكم تصدق على أمرين:
أحدهما: حكم من حكمه خصمان.
والثاني: حكم من نصبه رئيس الدولة أو نائبه ليحكم بين الناس.
فبين اللفظين عموم وخصوص مطلق؛ لأن كل قضاء حكم، وليس كل حكم قضاء، وكذلك كل قاض حاكم، وليس كل حاكم قاضيًا1.
وهذا مثل العلاقة بين كلمة إنسان وكلمة حيوان، فكل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنسانًا؛ لأن الإنسان نوع من الحيوان هو الحيوان الناطق.
كما يحسن أيضًا أن نبين أن العلماء تكلموا عن القضاء في مجالين:
أحدهما: مجال العبادة كالصلاة، والصيام، والقضاء فيها عندهم هو أن تفعل خارج وقتها المحدود شرعا، والأداء فعلها في الوقت المحدود، وهو استعمال مخالف للوضع اللغوي لكنه اصطلاح بين العلماء لكي يميزوا بين الوقتين2.
والمجال الثاني: وهو المجال الذي نتكلم فيه الآن، هو مجال الحكم بين الناس.
ولفقهاء الشريعة تعريفات متعددة للقضاء الذي هو الحكم بين الناس، نذكر أمثلة منها:
1 كتاب النيل وشفاء العليل، لعبد العزيز الثميني، مع شرحه لمحمد بن يوسف أطقيش، ج13، ص10، مكتبة الإرشاد بجدة، الطبعة الثالثة.
2 المصباح المنير، للفيومي، مادة قضى.
عند الحنفية:
عرفه علماء الحنفية بأنه: "الفصل بين الناس في الخصومات، حسما للتداعي، وقطعا للنزاع بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة"1.
وعند المالكية:
وعرفه ابن عرفة من علماء المالكية بأنه: "صفة حكمية، توجب لموصوفها2 نفوذ3 حكمه الشرعي، ولو بتعديل أو تجريح، لا في عموم مصالح المسلمين"، والمراد بنفوذ حكمه نفوذ جميع أحكامه، وبهذا يخرج التحكيم، وكذلك تخرج ولاية الشرطة وأخواتها؛ لأنها خاصة ببعض الأحكام، والحسبة فإنها خاصة بأحكام السوق.
ويخرج بجملة "لا في عموم مصالح المسلمين" الولاية العظمى أي: رياسة الدولة، فإن رياسة الدولة نفوذ حكمها عام في مصالح المسلمين4. بخلاف القضاء، فليس للقاضي حق تقسيم الغنائم، وتفريق الزكاة، ولا ترتيب الجيوش، ولا قتال البغاة، ولا الإقطاعات5.
1 رد المحتار حاشية ابن عابدين ج4 ص459.
2 موصوفها هو القاضي.
3 النفوذ -بالذال المعجمة- الإيصال والإمضاء، وهو المراد هنا، وأما النفود -بالإهمال- فهو الفراغ والتمام. شرح النيل وشفاء العليل، ج13، ص12.
4 شرح الإمام محمد التاودي، المسمى بحلى المعاصم لبنت فكر ابن عاصم، وهو شرح لأرجوزة: تحفة الحكام لمحمد بن محمد بن عاصم، ج1، ص14.
5 البهجة في شرح التحفة، لعلي بن عبد السلام التسولي على تحفة الحكام لابن عاصم، ج1، ص15.
وعرفه الدردير من علماء المالكة أيضًا، بأنه: حكم حاكم أو محكم بأمر ثبت عنده، كدين وحبس، وقتل، وجرح، وضرب، وسب، وترك صلاة، ونحوها، وقذف، وشرب، وزنا، وسرقة، وغصب، وعدالة، وضدها، وذكورة، وأنوثة، وموت، وحياة، وجنون، وعقل، وسفه، ورشد، وصغر، وكبر، ونكاح، وطلاق، ونحو ذلك، ليرتب على ما ثبت عنده مقتضاه، أو حكمه بذلك المقتضى1.
وبعد أن ذكر الدردير هذا التعريف، أراد أن يبين معنى عبارة، "ليرتب على ما ثبت عنده مقتضاه، أو حكمه بذلك المقتضى"، فقال:"مثاله: لو ثبت عنده دين أو طلاق، فالحكم تارة بالدين أو الطلاق، ليرتب على ذلك: الغرم: أو فراقها، وعدتها، أو يحكم بالغرم أو الفراق، لما ثبت عنده على حسب ما يقتضيه الحال من الرفع له".
ويلاحظ على هذا التعريف التطويل الذي لا داعي له؛ لأن التطويل يعاب في التعاريف، إذ التعاريف مبناها على الاختصار.
عند الشافعية:
وعرفه بعض فقهاء الشافعية بأنه: "فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى"2. وعرفه بعض فقهائهم أيضًا أنه: "إلزام من له الإلزام بحكم الشرع"، وإن كان يرد على التعريفين أنهما غير مانعين؛ لأنهما شاملان لرياسة الدولة والتعريف الأول يشمل حكم المحكم أيضًا.
1 الشرح الصغير، لأحمد الدردير، ج4، ص185، 186.
2 مغني المحتاج، ج4، ص371، وحاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص491.
هذا وسلطة الإلزام ملاحظة في تعريف القاضي بخلاف المفتي؛ لأن المفتي وإن كان يتفق مع القاضي في أن كلا منهما مظهر لحكم الشرع، إلا أن القاضي له سلطة الإلزام والإمضاء، أي: تنفيذ الحكم بجانب إظهاره لحكم الشرع، وأما المفتي فليس له سلطة الإلزام والإمضاء، وإنما هو مظهر فقط لحكم الشرع في المسألة التي يستفتى فيها، ولذلك قال بعض العلماء: إن القيام بحق القضاء أفضل من الإفتاء1، وإن كان المفتي أقرب إلى السلامة وأبعد من القاضي عن الإثم2.
وقد لاحظ أيضًا ابن رشد -أحد فقهاء المالكية- سلطة الإلزام الثابتة للقاضي، عند تعريفه للقضاء، فعرفه بأنه. "الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام"3 ومن هذا التعريف أيضًا يتبين الفرق بين المفتي والقاضي.
عند الحنابلة:
وعرفه بعض فقهاء الحنابلة بأنه: "الإلزام بالحكم الشرعي وفصل الخصومات"4. وهناك تعريف آخر في كتب الحنابلة هو "تبيين الحكم الشرعي والإلزام به، وفصل الخصومات"5.
1 نهاية المحتاج. للرملي، ج4، ص235، وحاشية الشرقاوي على التحرير ج2. ص491.
2 إعلام الموقعين لابن قيم الجورية، ج1، ص36.
3 تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبراهيم بن علي بن فرحون، مطبوع بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد أحمد عليش. ج1، ص12.
4 كشاف القناع، للبهوني، ج6، ص285.
5 شرح منتهى الإرادات المجلد الثالث. ص459.
وعرفه الصنعاني بأنه: "إلزام ذي الولاية بعد الترافع". وذكر الصنعاني تعريفا آخر لغيره من العلماء هو أنه: "الإكراه بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة"، ثم بيّن الصنعاني أن المراد بالجهة كما لو حكم القاضي لبيت المال "الخزانة العامة للدولة"، أو عليه1.
رأي القرافي:
ويرى القرافي -أحد كبار علماء المالكية- التعبير بإنشاء الإلزام بدلا من الإلزام، فقد عرف الحكم أي: القضاء بقوله: "إنشاء إلزام أو إطلاق"، فإنشاء الإلزام كما إذا حكم القاضي بلزوم المهر للزوجة، أو النفقة لها، أو حكم بلزوم الشفعة، وما ماثل هذا.
فالحكم بالإلزام هو الحكم، وأما الإلزام الحسي من حبس أو غيره فليس بحكم؛ لأن القاضي قد يعجز عن ذلك. وأما الحكم بالإطلاق فكما لو نظر القاضي في قضية أرض زال الإحياء عنها2، فحكم بزوال الملك، فإنها تبقى مباحة
1 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص115.
2 إصلاح الأراضي البور يسمى في الاصطلاح الفقهي: إحياء الموات، شبه العلماء عمارة الأرض بالحياة، وتعطيلها بعدم الحياة، فإحياء الأرض عمارتها، وبيّن العلماء أن الموات هو ما ليس يملكه أحد من الأرض، ولا ينتفع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع، ويكون موقعها خارج البلد، وعلى هذا لا يعد مواتا أرضًا مملوكة لأحد، أو أرضًا ينتفع بها على أي صورة كان الانتفاع كما لو كانت مرعى للحيوانات، أو كانت أرضًا داخل البلد.
وجمهور العلماء على أنه يجوز إحياء الموات وتملكه ولو لم يستأذن الحاكم في ذلك، وأبو حنيفة يشترط استئذانه.
وقد استند الجمهور إلى ظاهر الحديث الوارد في هذا، وهو ما رواه البخاري عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من عمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها"، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته.
واستندوا أيضًا إلى القياس على تملك الماء المأخوذ من البحر والنهر، وما صيد من الطيور والحيوانات، فإن العلماء متفقون على أنه لا يشترط في ذلك إذن الحاكم. سبل السلام، للصنعاني، ج3، ص82. والفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ج4، ص70.
لكل أحد، أو زوال ملك الصائد عن صيد ند، فيجوز لكل أحد بعد ذلك أن يصيده1.
الرأي غير صحيح:
وهذا الرأي غير صحيح؛ لأن ولاية إنشاء الأحكام أو الإلزام بها ليست ثابتة للقاضي بل هي لصاحب الشرع خاصة، ولذلك يقول الفقهاء، إن حكم القاضي مظهر للحق وليس مثبتا له، أي: ليس منشئًا له.
فالإلزام الذي يصدر من القاضي إلزام في ظاهر الأمر فقط، أي: ليس إلزامًا حسيا، وأما التنفيذ الحسي فهو للسلطة التنفيذية، وهو تنفيذ للإلزام الذي ثبت بخطاب الشارع.
ولهذا فالصحيح أن القضاء إخبار وليس إنشاء، والإلزام الذي هو في ظاهر الأمر هو الذي يميز القضاء عن الفتوى، وتشترك الفتوى مع القضاء في أن كلا منهما إخبار عن الحكم الشرعي، ولكن الذي يميز القضاء عن الفتوى أن الفتوى إخبار عن الحكم ولا إلزام فيها، أما القضاء فهو إخبار عن الحكم على سبيل الإلزام2.
هذا، ويمكن أن نختار من بين هذه التعريفات تعريف ابن رشد للقضاء، وهو "الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام".
1 تبصرة الحكام لابن فرحون، مطبوع بهامش فتح العلي المالك، ج1، ص12، والبهجة في شرح التحفة لعلي بن عبد السلام التسولي، ج1، ص15، دار المعرفة، بيروت.
2 أستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، "محاضرات في علم القضاء"، مكتوبة بالآلة الكاتبة، ص12.
ضرورة القضاء وسموه وخطره:
ضرورة القضاء:
الإنسان كائن اجتماعي بطبعه الذي فطره الله عليه، لا يستطيع العيش -في يسر- منفردا، فلا تستقيم حياته إلا إذا عاش في جماعة، وإذا كان الناس لا يستطيعون الحياة الكاملة إلا مجتمعين، فلا بد أن تحدث نزاعات وخلافات حول الكثير من الأمور، لتعارض المصالح والرغبات، ولحب السيطرة، والاستيلاء على ما هو من حقوق الغير، وضن النفوس بحقوق الآخرين، فإذا لم يوجد رئيس لهذه الجماعة يكون حاسما للتنازع والتواثب، وظلم الناس بعضهم لبعض، ومؤديا الحقوق إلى أصحابها، أدى ذلك إلى حدوث ضرر جسيم، قَلّ أن يسلم منه أحد من أفراد الجماعة، ولذلك كان من الواجبات التي أوجبها الشرع -بإجماع العلماء- إقامة رئيس للدولة، لكي يحقق العدل ويمنع ظلم
البعض للبعض، ويؤكد شرع الله؛ لأن طبائع البشر قد جبلت على التظالم، وقَلّ من الناس من ينصف من نفسه، فلا بد من وجود سلطة قادرة قاهرة لها السيادة على الجميع تمنع المظالم وتقطع المنازعات التي هي مادة الفساد، وهذه السلطة تتمثل في رئيس الدولة.
رئيس الدولة مشتغل بما هو أهم من القضاء:
ومن المعلوم أن الرئيس الأعلى للدولة، مشتغل بما هو أهم من القضاء، ولا يستطيع أن يقوم بنفسه بكل الأمور التي نصب من أجلها، فهو يحتاج إلى من ينوب عنه ويقوم مقامه، فكان لا بد من وجود القاضي لينوب عن رئيس الدولة في رفع الظلم وإيصال الحقوق إلى أربابها، وكل ما هو من مصالح الناس، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث القضاة إلى الآفاق، فبعث معاذ بن جبل
-رضي الله عنه إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة1.
سمو القضاء:
دلت النصوص الشرعية على أن في القضاء فضلا عظيمًا لمن قوي على القيام به وأداء الحق، من ذلك ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله عز وجل جعل فيه أجرا مع الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ فله أجر". رواه البخاري ومسلم2.
وفي رواية صحح الحاكم إسنادها "فله عشرة أجور" لكن الإمام الشوكاني بين أن هذه الرواية التي رواها الحاكم والدارقطني في إسنادها فرج بن فضالة، وهو أحد الضعفاء في الحديث، فلا تقبل هذه الرواية، وكذلك توجد رواية أخرى عند أحمد بن حنبل بلفظ "إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت، فأخطأت فلك حسنة"، وهذه أيضًا رواية ضعيفة3، فالثابت هو الرواية التي بينت أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران.
وقد أجمع علماء المسلمين على أن هذا الأجر في الحاكم إذا كان عالما مجتهدا، أما الجاهل فهو آثم بجميع أحكامه، حتى إن وافق حكمه الصواب، وأحكامه كلها مردودة عند بعض العلماء؛ لأن الإصابة في أحكامه اتفاقية4.
1 بدائع الصنائع. للكاساني، ج7، ص2، ونهاية المحتاج للرملي، ج8، ص236.
2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص117، 118.
3 نيل الأوطار، للشوكاني، ج9، ص164، 165.
4 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص491.
القضاء من أعمال الطاعات:
والقضاء يعد من أعمال الطاعات والتقرب إلى الله عز وجل إذا أخلص فيه القاضي وقصد به وجه الله؛ لأن في القضاء أمرًا بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداء للحقوق إلى أصحابها، وإصلاحا بين الناس، وتخليصا لبعضهم من بعض، وذلك كله من أبواب الطاعات والتقرب إلى الله عز وجل ولذلك تولى النبي صلى الله عليه وسلم القضاء، وتولاه الأنبياء قبله، عليهم الصلاة والسلام جميعًا، فكانوا يحكمون لأممهم، وبعث صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاضيًا إلى اليمن، وكذلك بعث معاذ بن جبل قاضيا.
خطر القضاء:
لكن يجب أن يلاحظ أنه إذا لم يقم صاحب هذا المنصب الخطير بما أوجبه الشرع، ولم يؤد الحق فيه، فإنه يعرض نفسه لخطر عظيم ووزر كبير، ولذلك نقل عن علمائنا السابقين رضي الله عنهم أنهم كانوا يتخوفون منه، ويمتنعون عن توليه أشد الامتناع، فقد حكى العلماء أن أبا حنيفة اجتنب القضاء، وصبر على الضرب، والسجن حتى مات في السجن، وقال: البحر عميق فكيف أعبر بالسباحة؟ 1. وامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون للقضاء.
ويقال أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة2.
ولشدة خطره نجد رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه أبو هريرة عنه: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين"، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود
1 شرح فتح القدير، للكمال بن الهمام، وحاشية سعدي جلبي، ج7، ص260.
2 المغني لابن قدامة، ج9، ص34، 35، وسبل السلام، ج4، ص117.
والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وابن حبان.
فهذا الحديث الشريف يفيد عظم خطر منصب القضاء، يقول الصنعاني عند شرحه لهذا الحديث الشريف:"كأنه يقول من تولى القضاء فقد تعرض لذبح نفسه، فليحذره، وليتوقه، فإنه إن حكم بغير الحق مع علمه به، أو جهله له، فهو في النار".... وقال الصنعاني: "وقيل ذبح ذبحًا معنويا؛ لأنه إن أصاب الحق فقد أتعب نفسه في الدنيا، لإرادته الوقوف على الحق وطلبه، واستقصاء ما تجب عليه رعايته في النظر في الحكم، والموقف مع الخصمين، والتسوية بينهما في العدل والقسط، وإن أخطأ في ذلك لزمه عذاب الآخرة، فلا بد له من التعب والنصب"1.
وجه تشبيه القضاء بذبح بغير سكين:
ويذكر بعض العلماء وجه تشبيه القضاء بالذبح بغير سكين، فيقول: لأن السكين تؤثر في الظاهر والباطن جميعًا، والذبح بغير سكين يؤثر في الباطن بإزهاق الروح، ولا يؤثر في الظاهر، ووبال القضاء لا يؤثر في الظاهر، فإن ظاهره جاه وعظمة، لكن باطنه هلاك2.
وبين الشيخ عبد الله الشرقاوي من علماء الشافعية، أن هذا الحديث محمول على عظم الخطر فيه، أو على من يكره له أن يتولى القضاء، أو يحرم عليه ذلك3.
وروى الإمام مسلم عن أبي ذر قال: يا رسول الله ألا تستعملني؟ "أي: توليني عملا من الولايات العامة"، قال:"إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"، قال الإمام النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي الخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلا وعدل فيها، فأجره عظيم، كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها والله أعلم4.
وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي5 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار".
1 سبل السلام، ج4، ص116.
2 شرح فتح القدير، وحاشية سعدي جلبي، ج7، ص262.
3 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص491.
4 فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج3، ص126.
5 سبل السلام، ج4، ص115.