الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لو كان لأحد المدعيين شاهدان وللآخر شاهد ويمين:
ذكر ابن قدامة رأيين في الفقه الحنبلي على الإطلاق من غير تفصيل بين ما إذا كان لصاحب الشاهد واليمين يد على العين المدعاة، أو لم يكن له يد عليها.
أحد الرأيين: لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الشاهد مع يمين الخصم الآخر؛ لأن كل واحدة منهما حجة بمفردها في الأموال، فإذا اجتمعتا تعارضتا.
والرأي الثاني: أن الجانب الذي معه الشاهدان يرجح لأمرين:
الأول: أن الشاهدين حجة باتفاق العلماء، وأما الشاهد واليمين فمختلف
فيهما هل يصلحان حجة أم لا؟.
الثاني: أن اليمين قول لنفس المدعي وأما البينة الكاملة فشهادة أجنبيين فيجب تقديم شهادة الأجنبيين، كوجوب تقديمها على يمين المنكر1. وكذلك إذا انتقلنا إلى فقه المالكية نجد أحمد الدردير لم يفصل أيضًا، بل يقرر على الإطلاق ترجيح جانب الشاهدين على جانب الشاهد واليمين2.
أما في فقه الشافعية، فنجد التفرقة في الحكم بين ما إذا كان لصاحب الشاهد واليمين يد على العين المدعاة، وما إذا لم يكن له يد عليها.
فإن لم يكن لصاحب الشاهد واليمين يد على العين المدعاة فإن جانب الشاهدين يرجح على جانب الشاهد واليمين، كما هو القول الأقوى من قولين للشافعي رضي الله عنه؛ لأن الشاهدين حجة بإجماع العلماء، وأما القضاء بالشاهد ويمين المدعي فمحل خلاف بينهم.
والقول الثاني المنقول عن الشافعي أنهما يتعادلان، فإن كل واحد منهما حجة في قضايا الأموال عند الانفراد.
وهذا الحكم -كما بين فقهاء الشافعية- إذا لم يكن لصاحب الشاهد واليمين يد على العين المدعاة، وأما إذا كان له يد عليها فيقدم على المدعي الآخر، كما هو الرأي الأقوى من رأيين لفقهاء الشافعية؛ لأن وضع اليد يقوي جانبه3.
1 المغني، ج9، ص283.
2 الشرح الصغير مع حاشية الصاوي، ج4، ص306.
3 مغني المحتاج، ج4، ص309.
هذا، وفي ختام كلامنا عن تعارض البينتين نحب أن نذكر ما يراه ابن فرحون أحد فقهاء المالكية المشهورين، فقد بين ثلاثة أمور للترجيح بين البينتين إذا تعارضتا ولم يمكن الجمع بينهما، وإليك بيان هذه الأمور.
الأمر الأول: الزيادة في العدالة، وهذا هو المشهور في الفقه المالكي، مع ملاحظة أن الترجيح بالعدالة لا يكون إلا في الأموال خاصة. ويوجد رواية عن مالك رضي الله عنه أنه لا يرجح بها.
الأمر الثاني: اشتمال إحدى البينتين على زيادة تاريخ المتقدم، أو سبب ملك، مثل أن تشهد بينة أنه ملك العين المتنازع عليها منذ سنة وتشهد الأخرى للمدعي الآخر أنه ملكها منذ سنتين فترجح السابقة.
وأما سبب الملك فمثل أن نذكر إحدى البينتين سبب الملك من نتاج أو زراعة، وتكون شهادة البينة الأخرى مطلقة لا تذكر سوى مجرد الملك، فإنه يرجح التي ذكرت السبب.
الأمر الثالث: قوة الحجة فيقدم الشاهدان على الشاهد واليمين، وعلى الشاهد والمرأتين إذا استووا في العدالة1.
1 تبصرة الحكام، ج1، ص309.
الشهادة على الشهادة:
بيّن العلماء أنه يجوز الشهادة على الشهادة بإجماع العلماء1، كأن يقول الشاهد الأصلي لشخص آخر: أنا شاهد بأن فلانا أقر عندي أن لفلان كذا من المال. وأشهدك على شهادتي، فيشهد الآخر بهذه الشهادة، فيقول أمام القاضي: أشهد على شهادة فلان بكذا، ويرى الحنفية أنه لا تجوز الشهادة على الشهادة إلا إذا قال الأصل اشهدوا على شهادتي بذلك، أو اشهدوا أن فلانا أقر عندي أن لفلان عليه كذا فاشهدوا على شهادتي، بذلك إذا احتيج إليها، قالوا: لأنها في الحقيقة توكيل وتحميل؛ لأنه لا بد من نقل الشهادة إلى مجلس القاضي، ولما كانت لا بد من نقلها كان لا بد من تحملها والتحميل لا يصح إلا بالأمر2.
الأدلة على قبلوها:
أولا: عموم قول الله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
ثانيا: الحاجة قد تدعو إليها؛ لأن الشاهد الأصلي قد يتعذر عليه أداء الشهادة لبعض العوارض كالسفر الطويل أو المرض، أو الفقد.
ثالثا: الشهادة وسيلة من وسائل إظهار الحق، كالإقرار، فيصح الشهادة عليها.
مجال قبولها:
يرى الحنفية قبول الشهادة على الشهادة في كل الحقوق التي لا تسقط بالشبهة، وأما الحق الذي يسقط بالشبهة فلا تصح فيه، ولهذا فهم يرون عدم قبولها فيما يوجب الحد أو القصاص3.
1 مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بدامادا أفندي، ج2، ص211.
2 معين الحكام، للطرابلسي ص111.
3 فتح القدير، ج7، ص462.
وهذا أيضا ما يراه أحمد، أما مالك فيرى أنها تقبل في الحدود والقصاص أيضا. ويرى الشافعية قبولها في كل ما ليس عقوبة لله تبارك وتعالى، كالإقرار والعقود، والفسوخ، والرضاع، والولادة، وعيوب النساء التي تجيز التفريق بين الزوجين بأمر القاضي.
وتقبل أيضا عند الشافعية في إثبات عقوبة لآدمي، كالقصاص وحد القذف1، أما العقوبة إذا كانت حقا لله تبارك وتعالى، كالزنا، وشرب الخمر، فلا تقبل فيها الشهادة على الشهادة، كما هو القول الأقوى من قولين للشافعي رضي الله عنه؛ لأن حق الله مبني على التخفيف بخلاف حق الآدمي.
أسباب تحمل الشهادة على الشهادة:
بين العلماء أن تحمل الشهادة على الشهادة له أسباب ثلاثة:
الأول: أن يلتمس الشاهد الأصيل من الشاهد الفرع رعاية الشهادة وحفظها فيقول الأصيل للفرع مثلا: أنا شاهد بأن لفلان على فلان كذا، وأشهدك على شهادتي.
السبب الثاني: أن يسمع رجل رجلا آخر يشهد أمام القاضي أو المحكم أن لفلان على فلان كذا من المال، فله أن يشهد على شهادته، وإن لم يلتمس منه الأصل هذه الشهادة.
السبب الثالث: أن يسمعه يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفا -مثلا- عن ثمن مبيع، أو قرض، أو غيرهما، فيجوز لمن سمعه أن يشهد على هذه الشهادة
1 حد القذف فيه حقان: حق لله وحق للإنسان، ويرى الشافعية أن الغالب فيه حق الإنسان، ويرى الحنفية أن الغالب فيه حق الله.
إذا كان قد بيّن سبب الشهادة حتى لو لم يطلب منه الأصل ذلك؛ لأن بيان السبب رافع لاحتمال الوعد والتساهل.
هذا ما يراه الشافعية، ويرى الحنفية أنه لو قال: اشهدوا على شهادتي، فسمعها رجل آخر لم يشهد على شهادته، وعللوا ذلك بأن التحمل شرط، ولم يوجد هذا التحمل1 ونرى ضعف هذا الرأي، لأن الشهادة وسيلة من وسائل إثبات الحقوق، وأي وسيلة تثبت الحق تكون جائزة، والشهادة على الشهادة يثبت بها الحق، وسماع الرجل لقوله: اشهدوا على شهادتي نعده تحملا.
لو كان الشاهد الأصيل مردود الشهادة:
بيّن فقهاء الشافعية أنه لا يصح تحمل الشهادة على شخص مردود الشهادة بفسق أو غير؛ لأنه غير مقبول الشهادة.
هل تقبل شهادة المرأة على شهادة غيرها:
يرى الحنفية صحة شهادة النساء على شهادة غيرهن، وأما الشافعية فيرون أنه لا تقبل شهادة النساء في هذا النوع من الشهادة، حتى لو كانت الشهادة في ولادة، أو رضاع أو مال.
شروط قبول الشهادة على الشهادة:
اشترط العلماء لقبول الشهادة على الشهاد عدة شروط:
الأول: تعذر أو تعسر الشاهد الأصيل، كأن مرض بمرض يؤدي إلى أن
1 معين الحكام للطرابلسي ص111.
يلحقه مشقة ظاهرة لو أدى الشهادة، أو كان غائبًا1، أو كانت المرأة مخدرة، كما قال الحنفية، أي: لا تخالط الرجال.
الشرط الثاني: أن يسمى الشهود الأصول، حتى يعرف القاضي عدالتهم، ويتمكن الخصم من تجريحهم إن عرف ما يجرحهم2.
هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة:
بيّن فقهاء الشافعية أنه لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت عليه الشهاد3، وأما من لم تتعين عليه فيحتمل رأيين عندهم.
وأما الحنابلة فيرون أن من عنده ما يكفيه ليس له أن يأخذ أجرا على أداء الشهادة، معللين لهذا الرأي بأن أداء الشهادة، أداء فرض، فإن الشهادة مع أنها
1 يقدر الحنفية الغيبة المعتبرة هنا بمسيرة ثلاثة أيام ولياليها فصاعدا، بالدواب وقد عللوا لهذا بأن المعجز عن أداء الشهادة من الأصيل بعد المسافة، فقدروها بمسافة اعتبرها الشرع بعيدة فأثبت رخصا عندها، كالفظر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، وامتداد مسح الخف، وعدم وجوب الجمعة، وحرمة خروج المرأة بلا محرم أو زوج، وغير ذلك، وروي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أنه إن كان الشاهد الأصيل في مكان لا يستطيع أن يبيت في أهله لو غدا لأداء الشهادة فإن شهادة الفرع تصح، إحياء لحقوق الناس، وقد علق الحنفية على الرأي الأول بأنه الأحسن؛ لأن العجز شرعا يتحقق به، وعلقوا على رأي أبي يوسف بأنه أرفق، لإحياء حقوق الناس، وتوجد رواية أيضًا عن أبي يوسف ومحمد أن شهادة الفرع تقبل وإن كانوا في المصر؛ لأنه ينقل قول الأصل فكان كنقل إقراره.
فتح القدير، وشرح العناية على الهداية، ج7، ص468، 469. ومعين الحكام للطرابلسي ص111.
2 مغني المحتاج، ج4، ص452 وما بعدها.
3 تتعين الشهادة كما لو كان شخصان قد شهدا عقدا، أو على دين مثلا، واحتاج القضاء إلى شهادتيهما، وأما لو كان الشهود أكثر من المطلوب فلا تتعين الشهادة، بل تصير فرض كفاية.