الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: شروط الصلاحية للقضاء وعزل القاضي وانعزاله
المبحث الأول: شروط الصلاحية للقضاء
الشرط الأول: الإسلام
…
الفصل الأول: شروط الصلاحية للقضاء، وعزل القاضي وانعزاله
المبحث الأول: شروط الصلاحية للقضاء
بين علماء المسلمين أنه لا بد من توافر شروط في الشخص حتى يصح توليته القضاء، وبينوا أنه لا يجوز لرئيس الدولة، أو من له حق تولية القضاة أن يولي شخصا هذا المنصب الخطير إلا إذا تحققت فيه هذه الشروط، ويجب عليه أن يجتهد في ذلك لنفسه وللمسلمين، ولا يحابي أحدا، ولا يقصد بالتولية إلا وجه الله تبارك وتعالى.
وكان الحادي للعلماء إلى اشتراط هذه الشروط هو الاحتياط بقدر الإمكان أن تكون الأحكام الصادرة في القضايا أحكاما شرعية صادرة عن ذي أهلية صالحة لإصدار هذه الأحكام.
وسنبين هذه الشروط بمشيئة الله تعالى، موضحين الخلاف إن وجدناه في شيء منها، وإليك بيانها.
الشرط الأول: الإسلام
يشترط في القاضي أن يكون مسلما، فلا يجوز أن يتولى القضاء غير المسلم، وهذا في القضاء بين المسلمين؛ لأن الكافر ليس له أهلية الولاية على المسلم، لقول الله سبحانه وتعالى:{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 1، والقضاء ولاية عامة، والولاية من أعظم السبل، فهذه الآية مع أنها خبر لفظا،
1 سورة النساء، الآية 141.
فإنها نهي في المعنى، فهي خبرية لفظا إنشائية معنى، كقوله تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، أي: تنهانا عن أن يكون للكفار علينا سبيل، أي: هيمنة، والقاضي له الهيمنة والولاية؛ لأن الولاية هي إنفاذ القول على الغير شاء أم أبى، وأحكام القاضي تنفذ سواء شاء المتخاصمون أم أبوا، فإذا ولينا الكافر القضاء على المسلمين كان له الهيمنة والولاية، وهذا يتنافى مع ما تفيده الآية من النهي عن أن يكون لغير المسلمين سيطرة أو ولاية على المسلمين.
واشتراط الإسلام في القاضي إذا تولى القضاء بين المسلمين أمر أجمع عليه العلماء، وأما إذا تولى القضاء بين الكفار بأن ولينا أحد الذميين "مواطنا غير مسلم" هذا المنصب ليقضي بين غير المسلمين من المواطنين، فقد اختلف فيه على رأيين:
أحدهما: ما يراه جمهور العلماء وهو أنه يشترط فيه الإسلام كما هو الشرط في القاضي بين المسلمين، وعلى هذا لا يصح تولية القضاء غير المسلم، ولو كان سيقضي بين غير المسلمين.
الثاني: لا يشترط الإسلام في القاضي بين غير المسلمين، وهو ما يراه الحنفية.
أدلة الجمهور:
أولا: استندوا إلى أن المجتمع الإسلامي لا بد أن يكون العلو فيه للمسلمين، قال الله تبارك وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1. قالوا فلو قلد الكفار القضاء لجاز تنفيذ أحكامهم التي قضوا بها، وهذا يتنافى مع الصغار، فلا يجوز تقليدهم القضاء.
ثانيا: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" رواه الدارقطني في سننه، والطبراني في الأوسط، وعلقه البخاري2.
فلو ولي الكافر القضاء في دولة الإسلام -ولو على كفار مثله- لكان له ولاية في دولة الإسلام، مع أن الحديث يفيد أن لا يكون فيها ولاية لغير المسلم.
ثالثا: القصد من القضاء فصل الأحكام، وغير المسلم جاهل بالأحكام الشرعية3.
رابعًا: العدالة من شروط القاضي، لذلك فالفاسق ممنوع من تولي القضاء مع أنه أحسن حالا من الكافر، فيكون الكافر ممنوعا من توليه من باب أولى؛ لأن الكافر أفسق الفساق، فالقياس الأولوي يؤدي إلى تحريم تولي الكافر القضاء، ولم يمنع الفاسق من تولي سلطة القضاء إلا لغياب صفة العدالة عن شخصه، ولا شك في أنه أحسن حالا من الكافر، فيكون حرمانه من هذه السلطة أولى لتمكن علة المنع عنده أكثر من الفاسق.
أدلة الحنفية:
1 سورة التوبة، الآية:29.
2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص67، والمغني، لابن قدامة، ج6، هامش ص356، مطابع سجل العرب.
3 منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، ج9، ص25، 26.
سنجد فيما يأتي بعض أدلة الحنفية ضعيفًا والبعض قويا، ولكن الرأي يسلم ويكون مقبولا ولو بدليل واحد.
استدل الحنفية بما يأتي:
أولا: قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 1. فقد أفادت الآية أن للكفار ولاية بعضهم على بعض، فيتناول هذا أن لهم ولاية القضاء بعضهم على بعض.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجيب عن هذا الاستدلال بأن الآية محمولة على الموالاة لا الولاية.
ثانيا: قياس القضاء على الشهادة، فلما كان يصح للذمي أن يشهد على ذمي مثله، فإنه يصح للذمي أن يقضي على ذمي كذلك.
ثالثًا: أن العرف جرى في البلاد الإسلامية منذ فجر التاريخ الإسلامي على تعيين قضاة من أهل الذمة ليحكموا بينهم.
المناقشة:
نوقش هذا بأن العرف الجاري بتقليدهم على أهل دينهم، إنما هو مجرد تقليد زعامة ورياسة، وليس تقليد حكم وقضاء، ويدل على ذلك:
1-
أنهم لو امتنعوا من التحاكم إلى غير المسلم لا يجبرون على ذلك، وعليهم -إذا شاءوا- أن يتحاكموا إلى قاض من قضاة المسلمين.
2-
أن رئيس الدولة الإسلامية لا يلزم بالحكم الذي قضى به القاضي غير
1 سورة المائدة الآية: 51.
المسلم، وله إذا شاء أن يعيد النظر في القضية بنفسه أو بواسطة قاض مسلم. أما لزوم حكمه لأهل دينه فما ذلك إلا لأنهم التزموه بتحاكمهم إليه، لا إلزامهم به من جهة تقليد القاضي عليهم أي: إن الإلزام بحكمه ليس ناشئًا عن كونه سلطة قضائية ملزمة1.
وقد رجح بعض الباحثين الفضلاء2 مذهب الحنفية لعدة أمور:
الأول: أن العرف الذي استند إليه الحنفية له أصل شرعي، وهو أن عمرو بن العاص، بعدما فتح مصر ولى القضاء قضاة من بين النصارى ليحكموا بين أهل ديانتهم، ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب أقره، ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة، وهذا هو أصل القضاء الملي في البلاد المصرية.
الثاني: أنه يفهم من كلام فقهاء الحنفية أن القول بجواز تولية غير المسلم القضاء بين أهل ديانته إنما هو نوع من التسامح مع أهل الذمة، فلا ينبغي أن يفهم من هذه التولية أكثر من هذا، فلا يفهم منها أنه يجب على رئيس الدولة الإسلامية أو من له حق تولية القضاة أن يولي غير المسلم؛ لأن من الأصول المقررة أن كل ولاية عامة في بلاد الإسلام، إنما تستند إلى المسلمين لا إلى غيرهم، كما لا يفهم منها أن غير المسلمين مجبرون على أن يتحاكموا إلى القاضي غير المسلم؛ لأن لهم الحق في التحاكم إلى القاضي المسلم.
الثالث: أن هذه التولية لا تنفي الصغار عنهم؛ لأن هذه التولية ليست على المسلمين، وإنما عليهم أنفسهم، فالصغار لازم لهم لكفرهم ولأدائهم الجزية، كما أنه ليس في هذه التولية علو على المسلمين؛ لأن العلو لا يتحقق إلا إذا شملت التولية الحكم بين المسلمين، وهذا غير حاصل3.
1 أدب القاضي للماوردي، ج1، ص229، ونهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص238، ومحاضرات في علم القضاء، لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص42، وما بعدها مكتوبة بالآلة الكاتبة.
2 أستاذنا الدكتور عبد العال عطوة في محاضرات في علم القضاء، ص44.
3 محاضرات في علم القضاء للدكتور عبد العال عطوة، ص44، 45.