الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عزل رئيس الدولة للقضاة:
يرى فقهاء الشافعية أن لرئيس الدولة الحق في أن يعزل القاضي الذي يوجد غيره صالحا للقضاء، إذا ظهر منه خلل لا يقتضي انعزاله، كما لو كثرت شكاوى الناس منه، أو ظن أنه ضعيف، أو زالت هيبته في القلوب، وعللوا ذلك، بأن فيه احتياطا.
وكذلك قال الشافعية إنه يحق لرئيس الدولة أن يعزل القاضي إذا لم يظهر منه خلل، لكن هناك من هو أفضل منه؛ لأن في هذا رعاية للأصلح للمسلمين.
وصرحوا بأن هذا من حق رئيس الدولة، وليس واجبا عليه، وكذلك إذا كان هناك مثله في الصفات، أو دونه، لكن في عزله مصلحة كتسكين فتنة، فإنه يحق لرئيس الدولة عزله أيضا عندهم، لما فيه من المصلحة للمسلمين.
وفي فقه الشيعة الإمامية أنه لو رأى الإمام أو النائب عزله لوجه من وجوه المصالح أو لوجود من هو أتم منه نظرا، فإنه جائز مراعاة للمصلحة.
وأما إذ لم يكن هناك مصلحة في عزله فيوجد اتجاهان في الفقه الإسلامي:
أحدهما: لا يجوز لرئيس الدولة أن يعزله، وهذا ما يراه الشافعية، وبعض المالكية، وبعض الحنابلة1.
وقد استند هذا الاتجاه إلى ما يأتي:
أولا: إذا عزله من غير مصلحة فإن ذلك يعد عبثا، وتصرفات رئيس الدولة
1 نهاية المحتاج، ج8، ص145، والشرح الصغير، ج4، ص201، والمغني، ج9، ص103، وشرائع الإسلام للحلي، ج4، ص71.
يجب أن تصان عن العبث.
ثانيا: رئيس الدولة إنما ولاه القضاء لمصلحة المسلمين، فلا يملك أن يعزله مع سداد حاله، كولي المرأة إذا عقد عليها عقد الزواج لم يكن من حقه أن يفسخ هذا العقد.
ثالثا: القاضي في الحقيقة وكيل عن الأمة، وإذا تعلق بالوكالة حق الغير -وهو هنا حق المسلمين- فلا يجوز عزل الوكيل.
الاتجاه الثاني: يجوز لرئيس الدولة أن يعزله، وممن قال بهذا الرأي الحنفية، وقد صح عن أبي حنيفة، أنه قال: لا يترك القاضي على القضاء إلا حولا؛ لأنه إذا اشتغل بالقضاء ينسى العلم، فيعزله السلطان، بعد الحول، ويستبدل به غيره، حتى يشتغل بالدرس1.
وكذلك يرى بعض الحنابلة أن لرئيس الدولة عزل القاضي بغير سبب، يبرر ذلك وقد استند هذا الاتجاه إلى ما يأتي:
أولا: القياس على الولاة على البلاد، فلما كان لرئيس الدولة أن يعزل ولاته الذين ولاهم على البلاد فكذلك يكون له أن يعزل قضاته، قياسا عليهم من باب أولى؛ لأن الإمارة أعلى من القضاء.
مناقشة هذا الاستدلال:
يمكن أن يجاب عن استدلالهم بالقياس بأن هذا القياس لا يصح، لوجود
1 الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود، ج2، ص116، مطابع الشعب.
الفارق وهو مانع من صحة القياس؛ لأن الإمارة ليست أعلى من القضاء، بل العكس هو الصحيح، ولذلك قال العلماء:"إن خطة القضاء أعظم الخطط قدرا"، والقاضي ليس وكيلا لرئيس الدولة، وإنما هو يعمل بولاية المسلمين، وفي حقوقهم.
ثانيا: سوابق تاريخية حدثت من بعض الخلفاء الراشدين، في عزل القضاة، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: لأعزلن أبا مريم، وأولين رجلًا إذا رآه الفاجر فرقه "أي: خافه" فعزله عن قضاء البصرة، وولى مكانه كعب بن سوار.
وولى علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، أبا الأسود ثم عزله، فقال له: لم عزلتني، وما خنت ولا جنيت؟ فقال: إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين.
مناقشة هذا الاستدلال:
يجاب عن هذا بأن العزل كان لحاجة تدعو إلى ذلك1، وليس العزل بغير حاجة وإلا كان عبثا.
الرأي الراجح:
أن عزل القاضي لا يكون إلا لمصلحة؛ لأن الحاكم -كما يصرح العلماء- إنما يولي القضاة نيابة عن المسلمين، وهذا يؤكد أن القاضي لا يصح عزله إلا بسبب يبرر هذا العزل.
إذا كان القاضي متعينا:
إذا كان القاضي متعينا بأن لم يكن هناك من يصلح لتولي القضاء غيره، فإنه
1 نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص61.
ليس من حق رئيس الدول أو غيره أن يعزله، ولو قام بعزله لم ينعزل.
لا ينعزل القاضي حتى يبلغه خبر عزله:
بيّن العلماء أن القاضي لو عزله رئيس الدولة في الحالات التي يصح له فيها أن يعزله، لا ينعزل إلا بعد أن يبلغه خبر عزله، فلا ينعزل بمجرد عزل الحاكم له؛ لأنه لو كان ينعزل بمجرد عزل الحاكم له لترتب على ذلك في بعض الحالات أضرار عظيمة؛ لأنه ستكون تصرفاته منقوضة وفاسدة في القضايا التي ينظرها بعد عزل الحاكم له، وقبل أن يبلغه خبر هذا العزل.
متى يحصل بلوغ خبر العزل للقاضي المعزول؟
يحصل بلوغ خبر العزل إلى القاضي بشاهدين يشهدان أن الحاكم عزله، وأيضًا تغني استفاضة الأخبار بذلك.
وكذلك إذا كتب من له سلطة تولية القضاة إلى القاضي قائلا: إذا قرأت كتابي فأنت معزول، فقرأه، فقد انعزل بعد القراءة، لتحقق الصفة التي علق عليها العزل.
ولا يشترط أن يقرأ القاضي الكتاب بالتلفظ، بل ينعزل أيضا إذا طالعه وفهم ما فيه، وإن لم يتلفظ به كما هي العادة في قراءة المكتوبات.
وينعزل كذلك لو قرأه غيره عليه على الرأي الأصح عند الشافعية؛ لأن القصد من الكتاب إعلامه بالعزل، وليس القصد أن يقرأه بنفسه سواء أكان قارئا أم أميا1.
1 نهاية المحتاج، ج8، ص245.
لا ينعزل القاضي بموت رئيس الدولة، أو انعزاله:
لا يؤدي موت رئيس الدولة، أو انعزاله إلى انعزال القاضي، لعدة أمور:
الأمر الأول: أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ولوا قضاة في زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم.
الأمر الثاني: أنه لو انعزل القضاة بموت رئيس الدولة لأدى هذا إلى تعطيل القضاء في الأمور التي تحتاج إلى حكم القاضي فيها، حتى يولي رئيس الدولة الجديد قضاة آخرين، وهذا قد يكون ضررا عظيما، ونحن ممنوعون شرعا من إحداث الضرر.
الأمر الثالث: أن القاضي لا يعمل بولاية رئيس الدولة وفي حقه، بل يعمل بولاية المسلمين وفي حقوقهم، ورئيس الدولة بمنزلة النائب عنهم؛ لأنه يولي القضاة نيابة عن المسلمين.
وإذا كان رئيس الدولة نائبا عن المسلمين فإن فعله يكون بمنزلة فعل عامة المسلمين، ولا شك أن ولايتهم بعد موت الرئيس باقية، فيبقى القاضي في منصبه1.
عزل القاضي نفسه:
إذا عزل القاضي نفسه اختيارا، ولا يوجد عنده عذر يبرر عزله نفسه، وليس به عجز يمنعه من القيام بأعباء هذا المنصب، فإن هذا من حقه، لكن يرى بعض العلماء منعه من ذلك إذا كان قد تعلق لأحد حق بقضائه، وكان انعزله
1 بدائع الصنائع، ج7، ص16، ونهاية المحتاج، ج8، ص247، والمغني، ج9، ص103، والشرح الصغير، ج4، ص196.
بسبب الضرر لمن التزم بينه وبين خصمه1.
لكن ينبغي هنا أن نقول أيضا: إذا كان عزل القاضي نفسه بغير عذر سيؤدي إلى خلو هذا المنصب ممن توفر فيه شروط القاضي؛ لأنه لا يوجد شخص آخر تتوفر فيه هذه الشروط، فإنه في هذه الحال لا يصح عزله لنفسه، حتى يظهر من تتوفر فيه الشروط المطلوبة، بل إنه يحرم عليه عزل نفسه -من غير عذر- إذا كان يعلم أنه لا يوجد غيره واحد تتوافر فيه الشروط، فإنه يجب عليه القبول ولا يجوز له أن يرفضه.
1 تبصرة الحكام، ج1، ص78.