الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل يسقط الحق بتقادم الزمان
؟
قرر السرخسي أحد كبار فقهاء الحنفية في كتابه "المبسوط" أن الرجل إذا ترك الدعوى ثلاثا وثلاثين سنة، ولم يكن هناك مانع يمنعه من الدعوى كالغيبة ونحوها، ثم ادعى بعد ذلك لا تسمع دعواه.
التعليل لذلك:
وعلل لذلك بأن ترك الدعوى كل هذه المدة من غير عذر مع التمكن من إقامتها يدل على عدم الحق في الظاهر، لكن في بعض كتب الحنفية الأخرى، كالأشباه لابن نجيم، أن الحق لا يسقط بتقادم الزمان، ويوضح بعض علمائهم أن عدم سماع الدعوى بعد المدة المذكورة، إنما هو للنهي عنه من السلطان، فيكون القاضي معزولا عن سماعها إلا بأمر، فإذا أمر بسماعها بعد هذه المدة تسمع، وقال إن سبب النهي إرادة قطع الحيل والتزوير.
رأي بعض الحنفية ومحاولة التوفيق بين ما قاله السرخسي وبين مبدأ عدم سقوط الحق بالتقادم:
لكن بعض الحنفية لم يشترط في حصة الدعوى عدم مضي هذه المدة، وصرح هذا البعض من الحنفية بأن من القضاء الباطل القضاء بسقوط الحق بمضي سنين، وحاولوا أن يوفقوا بين ما قاله السرخسي وبين مبدأ عدم سقوط الحق بالتقادم، فقالوا إن ما في المبسوط لا يخالف هذا المبدأ، فإنه ليس فيه قضاء بالسقوط، وإنما فيه عدم سماع الدعوى1.
لكنني أرى أنه سواء أقلنا مع السرخسي بعدم سماع الدعوى إذا تركها صاحبها ثلاثا وثلاثين سنة، أم قلنا بسقوط الحق بمضي هذه السنين أو أقل أو أزيد، فالنتيجة واحدة على كلا القولين وهي سقو الحق؛ لأنه إذا قلنا بعدم سماع الدعوى؛ لأن الحاكم قد أمر بذلك، فإن القضاة يكونون ممنوعين بأمر الحاكم من
1 تكملة حاشية ابن عابدين، ج7، ص485، والمجاني الزهرية، ص108.
سماع الدعوى التي تركها صاحبها سنين معينة، وهذا يؤدي إلى أن المدعي صاحب الحق لن يجد قاضيا يدعي أمامه، فتكون النتيجة لهذا سقوط الحق بالتقادم.
ولهذا فإننا نرى أن المالكية كانوا أكثر وضوحا -كما سنعلم قريبا- عندما قرر بعضهم سقوط الحق بمضي سنين معينة، وليس عدم سماع الدعوى فقط.
وكذلك وجدنا عند الشافعية أن بعضهم -كالإمام الرملي- أفتى أن الحق إذا مضى عليه خمس عشرة سنة، لا تسمع به الدعوى لمنع ولي الأمر القضاة من ذلك، فلم يجد صاحبه قاضيا يدعيه عنده1.
ما يراه المالكية:
ونجد المالكية مختلفين، فبعضهم يرى أن الديون الثابتة في الذمة يسقطها مضي عشرين عاما مع حضور رب الدين، وتمكنه من الطلب به، ولا يوجد مانع يمنعه منه، وبعضهم يرى أن الديون تسقط بمضي ثلاثين عاما، إذا كان صاحب الدين أيضا حاضرا، ومتمكنا من الطلب بها، وهذا ما يراه مالك رضي الله عنه، ويرى بعضهم عدم سقوطها أصلا، وهذا هو الذي اختاره ابن رشد في البيان، فقد قال:"إذا تقرر الدين في الذمة، وثبت فيها لا يبطل وإن طالب الزمان، وكان ربه حاضرا ساكتا قادرا على الطلب به، لعموم خبر "لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم"2.
1 حاشية الجمل على شرح المنهج، ص339، مطبعة مصطفى محمد.
2 الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص236، والشرح الصغير، ج5، ص67، مطبعة صبيح.
ما نراه:
وأقول: هذا هو الحق الذي يجب أن يصار إليه، وما على القاضي إلا أن يطلب الحجة.
من صاحب الحق، فإذا تمكن المدعي من إثبات حقه بوسائل الإثبات المشروعة، كان على القاضي أن يقضي له بحقه، سواء مضت مدة طويلة أم لا، وليس من حق رئيس الدولة أو ولي الأمر أن يمنع القضاة من سماع الدعوى؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يأكل الناس أموال غيرهم بالباطل. وأكل أموال الناس بالباطل لا يجوز حتى ولو حكم به الحاكم، يؤيد ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: $"إنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه1.
لا يصح الأخذ بقرينة وترك الأخذ بالبينة:
ومما يدل على عدم سقوط الحق بتقادم الزمان ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه سلم- قال: $"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" والمدعي قد يكون صاحب حق في الواقع فإذا لم تسمع دعواه، ولو طال الزمان، لكان المدعى عليه آكلا لمال امرئ مسلم بغير طيب من نفسه.
لا يجوز إغفال مصلحة المدعي:
ومن الضعف أن نأخذ بقرينة ترجح جانب المدعى عليه وتترك الأخذ بالبينة، التي قد تكون في جانب المدعي، فإن القائلين بعدم سماع الدعوى بعد مضي سنين حدودها، قد عللوا لرأيهم هذا بأن ترك الدعوى كل هذه المدة من غير عذر مع التمكن من إقامتها، يدل على أن المدعي ليس له الحق في الظاهر، أي: إن سكوته هذه المدة قرينة على عدم ثبوت حقه ظاهرا، ونقول إن القرينة هنا أضعف من البينة، وإذا كان أصحاب الرأي القائل بعدم سماع الدعوى بمضي سنين معينة، قد راعوا مصلحة المدعى عليه، فقد أغفلوا في الوقت نفسه مصلحة المدعي، الذي قد يكون معه من وسائل الإثبات ما يستطيع بها أن يبين بجلاء حقه المدعى به.
أقصى ما يمكن نسبته إلى المدعي هو الإهمال:
إن أقصى ما يمكن نسبته إلى المدعي هو الإهمال والتفريط في طلب حقه طوال السنين الماضية، وهل الإهمال والتفريط جريمة كبيرة تستوجب أن يحرم الإنسان من حق يستطيع أن يقيم عليه البينة؟ هل الإهمال والتفريط يستوجب أن يمنع الإنسان حتى من المطالبة بحقه؟
1 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص121.