الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثامن: جواز الطعن في الأحكام في بعض الأحوال
تمهيد:
هنا أمر يحسن التنبيه عليه هو أنه يجب أن يتوفر الاحترام الكامل للأحكام التي تصدر عن القاضي، سواء من طرفي الخصومة: المدعي والمدعى عليه، أو غيرهما، فهذا يؤدي إلى أن يحصل الاستقرار والثبات في المراكز القانونية التي صدرت بشأنها الأحكام.
لكن الأحكام التي يصدرها القضاة هي أحكام صادرة عن بشر، والبشر ليسوا بمعصومين من الخطأ إلا من عصم الله صاحب العزة والجلال من الرسل والأنبياء، ولهذا فاحتمال الخطأ في الأحكام القضائية وارد، ولا بد من أن يكون هناك علاج وتصحيح للأخطاء التي يمكن أن تقع في الأحكام القضائية، ولكي يحدث التوفيق -في القوانين الوضعية- بين إرادة الاستقرار والثبات في المراكز القانونية التي صدرت بشأنها الأحكام، وبين إرادة تصحيح الأخطأ التي يمكن أن تحدث من القضاة، أجاز القانون الوضعي للخصوم أن يطلبوا من القضاء إعادة النظر في القضية محل الحكم، باتباع وسيلة من الوسائل التي نظمها القانون، وهذه
الوسائل تسمى في الاصطلاح القانوني: طرق الطعن في الأحكام1.
وقد قسم القانونيون هذه الطرق إلى قسمين: طرق طعن عادية، وطرق طعن غير عادية أو استثنائية، وأطلق على طرق الطعن العادية هذا الوصف؛ لأنه لا يشترط في جواز ممارستها أسباب معينة، بخلاف طرق الطعن غير العادية فقد اشترط القانون أسبابا محددة لها.
فأما طرق الطعن العادية فهي: المعارضة، والاستئناف، وأما الطرق غير العادية فهي: التماس إعادة النظر، والطعن بالنقض، وإليك توضيح معنى كل طريق من هذه الطرق.
المعارضة: طريق طعن عادي في الأحكام التي صدرت في غيبة المحكوم عليه، يرفع إلى نفس المحكمة التي صدر عنها الحكم المطعون فيه لا إلى محكمة أعلى، ولهذا فإن المعارضة لا تعد درجة ثانية من درجات التقاضي2. وقد أصبحت المعارضة غير جائزة في المسائل المدنية والتجارية.
الاستئناف: طريق طعن عادي به يطرح الخصم الذي صدر الحكم كليا أو جزئيا لغير صالحه القضية كلها، أو جزءا منها أمام محكمة أعلى من المحكمة التي صدر عنها الحكم3،
1 مبادئ المرافعات في قانون المرافعات الجديد، للدكتور عبد الباسط جمعى، ص523، دار الفكر العربي.
2 أصول المرافعات للدكتور أحمد مسلم، ص693، دار الفكر العربي.
3 قانون القضاء المدني الكويتي، د. فتحي والي، ص391، مطبعة جامعة الكويت.
التماس إعادة النظر: طريق طعن غير عادي يرفع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم الملتمس فيه، ويجوز أن ينظر من نفس القضاة الذين أصدروا الحكم موضوع الالتماس، ولهذا لا يعد التماس إعادة النظر درجة من درجات التقاضي.
ولأن هذا الطريق من طرق الطعن طريق غير عادي فإنه لا يجوز إلا لأسباب معينة وردت في القانون على سبيل الحصر. ومن هذه الأسباب ما إذا حدث غش من الخصم "المطعون ضده" من شأنه أن يؤثر في الحكم. ومنها ما إذا حال الخصم دون تقديم أوراق قاطعة في الدعوى بشرط أن يحصل عليها الملتمس بعد صدور الحكم. ومنها حصول الملتمس على إقرار بأن الورقة، أو الأوراق التي بني الحكم عليها مزورة، ومنها ما إذا قضى بعدم صدور الحكم بتزوير هذه الأوراق. ومنها إذا قضى بعد صدور الحكم بأن الشهادة التي بنى عليها مزورة.
الطعن بالنقض: طريق غير عادي من طرق الطعن في الأحكام فلا يجوز إلا بالنسبة إلى أحكام معينة وفي أحوال خاصة في غير نصابها الانتهائي.
وقد نص القانون على أسباب معينة هي التي تجيز الطعن بالنقض، منها في القانون المصري إذا كان الحكم الذي يطعن فيه قد صدر مخالفا للقانون، أو كان نتيجة خطأ في تطبيقه أو في تأويله1.
الحال في الفقه الإسلامي:
ما سبق كان بيانا لطرق الطعن في الأحكام في القانون الوضعي فإذا انتقلنا
1 بحوث في قواعد المرافعات والقضاء في الإسلام للدكتور عبد العزيز خليل بديوي، ص515، وما بعدها والقضاء في الإسلام وحماية الحقوق لنفس المؤلف، ص79، وما بعدها.
إلى الفقه الإسلامي نجد أن العدل المطلق هدف من أهداف القضاء في الإسلام، ويقتضي هذا أن يبحث القاضي عن الحق، فأينما وجده قضى به، وإذا أخطأ القاضي في حكمه فخالف نصا شرعيا من الكتاب الكريم، صريح الدلالة أو السنة الشريفة صريحة الدلالة كذلك أو إجماعا من العلماء على حكم معين فلا بد من نقض هذا الحكم، أي: إبطاله، وقد عبر فقهاؤنا القدامى بنقض الحكم ويريدون به إبطاله واعتباره كأنه لم يكن في صورة معينة، سنتكلم عنها فيما سيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى، فليس المراد بالنقض في الفقه الإسلامي بالنقض عند القانونيين وهو أنه أحد طرق الطعن غير العادية، يقصد به تقويم الاعوجاج القانوني في الحكم المطعون فيه، وتوحيد فهم القضاة للقانون1. ونقض هذا الحكم أو طلب نقضه حق لكل من يعلم به، بل واجب عليه، سواء في هذا القاضي الذي أصدره ثم تبين له مصادمته للنصوص الشرعية، أو أحد أطراف الخصومة، بل لأي إنسان آخر ليس له صلة بالقضية أن يطلب نقض هذا الحكم، استنادا إلى سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي السلطة التي خولها الله تبارك وتعالى لكل فرد من أفراد المسلمين ليتحقق بذلك الرقابة التي تحقق الإصلاح.
هذا، وسنختار التعبير عن هذه العملية باستئناف الأحكام دون التعبير بأي طريق آخر من طرق الطعن المعروف في القانون الوضعي، والتي أعطينا القارئ فكرة سريعة عنها.
الدليل على جواز الاستئناف في الأحكام:
أقوى ما يدل على جواز الاستئناف في الأحكام القضائية حديث رسول الله
1 القضاء في الإسلام وحماية الحقوق، للدكتور عبد العزيز خليل بديوي، ص80.
-صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" فهذا الحديث الشريف يفيد حكما عاما لكل الأحوال، فليس مقصورا على حال معينة، بل ينتظم عامة الأحوال دون فصل بين ما قبل الحكم وما بعده1.
وقد حاول بعض العلماء الاستدلال لجواز الاستئناف لكن أدلتهم كان بعضها غير واضح الدلالة، وبعضها حديثا غير ثابت، وبعضها قولا لصحابي، ومعروف أن قول الصحابي إن كان حجة عند بعض العلماء فليس حجة عند البعض الآخر.
فأما الدليل غير واضح الدلالة على جواز الاستئناف، فهو ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قل"، قال: إن ابني كان عسيفا2 عند هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، "أي: جارية صغيرة" فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس 3 إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت4.
1 نظام القضاء في الإسلام، لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص296.
2 عسيفا أي: أجيرا.
3 تصغير أنس بضم الهمزة وفتح النون.
4 صحيح مسلم، بشرح النووي، ج11، ص250، ونيل الأوطار، ج8، ص281.
فقد استدل البعض بهذا الحديث على جواز الاسئناف1، ولا نرى صحة الاستدلال بهذا الحديث على الاستئناف؛ لأنه لم يصدر حكم من قاض في هذه القضية قبل أن ترفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يبين الحديث أن الرجل أخبره بعض الناس أن على ابنه الرجم، فافتدى منه بمائة شاة وجارية، فسأل أهل العلم فأخبروه أن على ابنه جلد مائة وتغريب عام، فأهل العلم الذين أخبروه إنما أفتوه بهذا الحكم، ولم يكونوا قضاة أصدروا حكما قضائيا حتى يصح الاستدلال بالحديث.
وأما الحديث الذي لم يثبت2 فهو ما رواه الإمام أحمد وغيره، عن حنش بن المعتمر، عن علي بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد3، فبينما هم كذلك يتدافعون، إذ سقط رجل فتعلق بآخر، ثم تعلق الرجل بآخر، حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر، فأخرجوا السلاح ليقتتلوا فأتاهم علي رضي الله عنه على تفيئة ذلك "أي: على أثر ذلك" فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي؟ إني أقضي بينكم قضاء، إن رضيتهم به فهو القضاء، وإلا حجز بعضكم عن بعض، حتى تأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية، وثلث
1 التراتيب الإدارية، لعبد الحي الكتاني، ج1، ص56.
2 استدل بهذا الحديث المستشار جمال صادق المرصفاوي، انظر: نظام القضاء في الإسلام، له، ص152، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض، 1396هـ.
3 الزبية حفرة تحفر لصيد الأسد؛ سميت بذلك لأنهم كانوا يحفرونها في موضع عال.
الدية ونصف الدية، والدية كاملة، فللأول ربع الدية؛ لأنه هلك1 من فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة، فأبوا أن يرضوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم2 فقصوا عليه القصة، فقال:"أنا أقضي بينكم"، واحتبى3، فقال رجل من القوم: إن عليا قضى فينا، فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم4، وزاد في بعض ألفاظه:"وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا".
الحديث ضعيف؛ لأن حنشا راوي الحديث اختلف العلماء في توثيقه5، ويكفي هذا في رد الحديث، لكن بعض الباحثين يرى أنه يضاف إلى عدم ثبوت الحديث أن عليا لم يحكم بينهم بصفته قاضيا؛ لأن القاضي لا يخير الخصوم والحديث يبين أن عليا خيرهم، وأيضا فإن الخصوم لم يترافعوا إلى علي، وإنما هو الذي جاءهم عقب الحادثة ليقوم بالصلح بينهم، أي: إنه عرض نفسه ليكون حكما بينهم فقبلوا تحكيمه على شرط أنهم إذا لم يرضوا بما يحكم به فلا يلزمهم، فلم يكن في هذه الحادثة حكم قاض حتى يمكن أن يقال إنه وجد الاستئناف6.
1 هلك -بتشديد اللام في لغة بني تميم- بمعنى أهلك، فالفعل قد يتعدى بالهمزة فيقال: أهلكته وفي لغة بني تميم يتعدى بنفسه، فيقال هلكته، واستهلكته، المصباح المنير.
2 أي: في موسم الحج.
3 يقال في اللغة: احتبى الرجل، أي: جمع ظهره وساقيه بثوب أو غيره وقد يحتبي بيديه.
4 مسند الإمام أحمد، ج2، ص473، دار المعارف، 1947م.
5 قال الهيثمي بعد أن ذكر هذا الحديث في "المجمع" وفيه حنش، وثقه أبو داود، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح. انظر هامش زاد المعاد لابن القيم، ج5، ص14، تعليق لشعيب الأرنؤط وعبد القادر الأرنؤط.
6 الدكتور إبراهيم عبد الحميد، نظام القضاء في الإسلام، ص297.
ونرى أن حكم علي في هذه الحادثة -لو ثبت الحديث- يمكن أن يكون حكم قاض؛ لأن عليا كان أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا، كما هو معروف، وكونه هو الذي أتاهم عقب الحادثة لا يغير الأمر من قاض إلى محكم؛ لأن البيئة كانت بيئة ساذجة لا تعقيد فيها، والبساطة من علي تجيز له -وهو القاضي- أن يذهب إلى الخصوم، وخاصة إذا كان الأمر خطيرا جدا، فقد كادت القبائل أن يسيل بعضها دم بعض.
وكونه خيرهم أن يرضوا بما يحكم به أو ينتظروا -بعد حكمه- حى يعرضوا الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يرضوا بما حكم، فهذا أيضًا مقبول من قاض في مجتمع بسيط لم يوجد فيه تعقيد الإجراءات. فليست المشكلة في هذه الأمور، وإنما المشكلة أن الحديث لم يثبت، ولو ثبت الحديث لكان من وجهة نظرنا دالا على الاستئناف.
وأما قول الصحابي ففي مصنف عبد الرزاق1 "أتى ابن مسعود برجل وجد مع امرأة في لحاف، ولم تقم البينة على غير ذلك فضربه عبد الله أربعين2، وأقامه للناس، فغضب قومه من هذا وانطلقوا إلى عمر رضي الله عنه، فقالوا: فضح منا رجلا، فقال عمر: بلغني أنك ضربت رجلا من قريش، قال عبد الله: أجل وقص عليه القصة، فقال له عمر: أرأيت ذلك؟ قال: نعم، قال عمر: نعم ما رأيت، فعند ذلك قال الشاكون، جئنا نستعديه عليه، فاستفتاه".
1 كان عمر بن الخطاب قد ولى عبد الله بن مسعود القضاء في الكوفة.
2 نظام القضاء في الإسلام، لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص298، وأصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص205.
وقول الصحابي -حتى لو كان من اثنين- لا يعد حجة كما قال الشافعي في الجديد من مذهبه، واختاره جمع من متأخري الحنفية، والشافعية، والمالكية وأكثر المتكلمين.
هذا، ويمكن القول بأن فقهاءنا القدامى تعرضوا لبحث موضوع استئناف الأحكام، لكن ليس بهذا العنوان، وإنما سموه بالدفع1 وما قالوه في دفع الدعوى بعد الحكم من القاضي ينطبق على الاستئناف؛ لأنه ليس إلا نظر في الدعوى مرة ثانية، غير أن الفقهاء القدامى لا يشترطون تغيير القاضي الذي سينظر في الدعوى مرة أخرى كما هو الحال في الاستئناف بوصفه طريقا من طرق الطعن في الأحكام في القوانين الوضعية2.
ومن يرجع إلى كتب الحنفية يجد فيها ما يفيد هذا، فقد بين بعضهم أنه كما يصح الدفع عند القاضي الأول يصح عند قاض آخر، وكما يصح قبل الإشهاد يصح
1 الدفع هو دعوى يثيرها المدعى عليه مناهضة للدعوى الأصلية، كأن يدعي شخص على آخر أنه اقترض منه ألف جنيه، وطالبه بأدائها، فدفع المدعى عليه هذه الدعوى بأداء هذا الدين إلى المدعي، وحينئذ يصبح المدعى عليه مدعيا، ويصبح المدعي مدعيا عليه.
وقال العلماء: إنه إذا استطاع الدافع أن يثبت دعواه بإقرار المدعي، أو بإقامته البينة اندفعت دعوى المدعي، وإذا لم يستطع إثبات دعواه قام القاضي بتحليف المدعي الأصلي -بطلب من المدعى عليه- فإذا امتنع عن اليمين ثبت دفع المدعى عليه، وبطلت الدعوى، وإن حلف المدعي عادت الدعوى الأصلية. وبين بعض فقهاء الحنفية أنه كما يصح دفع الدعوى قبل الحكم يصح دفعها بعد الحكم في بعض الحالات.
محاضرات في المرافعات الشرعية، ألقاها على طلبة المعهد العالي للقضاء بالسعودية الدكتور عبد العظيم شرف الدين، ص85، 92، مكتوبة بالآلة الكاتبة.
2 تاريخ القضاء في الإسلام، لمحمود بن محمد بن عرنوس، ص214، 215، الطبعة الأولى.
بعده، وقال ابن نجيم في أشباهه1 بعد أن قرر هذا: وهو المختار إلا في ثلاث مسائل.
الأولى: إذا قال لي دفع، ولم يبين وجهه لا يلتفت إليه.
الثانية: لو بين لكن قال: بينتي غائبة عن البلد، لم يقبل.
الثالثة: لو بين دفعا فاسدا.
وفي الفقه المالكي نجد اختلافا بين فقهائه فيما لو أتى المحكوم عليه ببينة لم يعلم بها، وطلب فسخ الحكم عنه، على ثلاثة آراء:
الأول: أنه تسمع البينة، فإن شهدت بما يوجب الفسخ فسخ الحكم عنه، وهذا ما يراه ابن القاسم.
الثاني: لا تسمع البينة، وهذا ما يراه سحنون.
الثالث: إن قام بالبينة عند ذلك القاضي الحاكم نقضه، وإن قام عند غيره لم ينقضه، وهذا ما يراه ابن المواز2.
وإذا انتقلنا إلى فقه الشافعية نجد أنهم تكلموا عمن أخذ منه مال بناء على شهادة الشهود، ثم ادعاه، فقالوا: تسمع دعواه وترجح بينته بملكه على بينة خصمه؛ لأن له يدا سابقة على المال.
1 الأشباه والنظائر، لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، ص225، طبعة 1968، وحاشية قرة عيون الأخيار "تكملة حاشية ابن عابدين" لمحمد علاء الدين، ج7، ص490.
2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج1، ص80.
واختلف فقهاء الشافعية فيما لو حكم القاضي بإزالة يد شخص عن عين من الأعيان التي تحت يده، بناء على بينة أقامها شخص آخر فحكم له القاضي بهذه البينة، مستندا إلى ما قبل إزالة يده مع استدامته إلى وقت الدعوى، واعتذر عن ذلك بغيبة شهوده -مثلا- فيرى النووي أن على القاضي أن يسمع بينته وتقدم على بينة من حكم له القاضي بها؛ لأن صاحب اليد قد أزيلت يده لعدم الحجة، فإذا ظهرت الحجة حكم بها، بخلاف ما إذا لم تستند بينته إلى ذلك، أو لم يعتذر بما ذكر ونحوه فلا تقدم بينته.
ويرى القاضي حسين من فقهاء الشافعية أنه لا تسمع البينة، فلا ينقض القضاء، ونقل الهروي عن القاضي حسين أنه قال: أشكلت علي هذه المسألة نيفا وعشرين سنة لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد وتردد فيها جوابي، ثم استقر على أنه لا ينقض1.
ومع احترامنا الكامل لكلا الرأيين في الفقه الشافعي، مع ميلنا إلى ما يراه الإمام النووي من ترجيحه جانب اليد الذي لم يكن معه بينة وقت نظر الدعوى، ثم تيسر له بعد ذلك أن يثبت حقه بالبينة، نقول مع احترامنا لكلا الرأيين فإننا نستفيد من هذا الخلاف أن مبدأ الاستئناف يقول بعض الفقهاء به من الشافعية؛ لأن الاستئناف ما هو إلا نظر للدعوى مرة ثانية، وهذا ما حدث هنا في المسألة التي حكينا خلاف فقهاء الشافعية فيها.
وخلاصة ما تقدم أن استئناف الأحكام قال به فقهاؤها القدامى، بل عبر بعضهم بكلمة الاستئناف، قال ابن القاص: "اتفق الجميع على أنه ليس للقاضي أن
1 مغني المحتاج، ج4، ص481.
يتعقب حكم من كان قبله، وعلى أنه إن رفع إليه قضية قاض وكان فاسفا، أو مرتشيا، أو ساقط العدالة لا يجوز قضاؤه، كان عليه نقضه، واستئناف الحكم بين الخصمين"1.
وقد قال باستئناف الأحكام بعض فقهاء الحنفية، وبعض فقهاء المالكية، وبعض فقهاء الشافعية، وأقوى ما يمكن الاستدلال به لهذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي" فهو عام يشمل حالة ما قبل الحكم من القاضي، وحالة ما بعد الحكم.
متى ينقض الحكم؟
نريد بالنقض هنا إبطال الحكم، واعتباره كأن لم يكن، هو المعنى الذي يقصده فقهاؤنا القدامى عندما يتكلمون عن نقض الأحكام كما سبق أن بينا، وهو من المعاني اللغوية لكلمة النقض.
ونحب في البداية أن نبين أمرين:
أحدهما: أن العلماء متفقون على أنه ليس للقاضي أن يتعقب حكم من كان قبله من القضاة، واتفقوا أيضًا على أنه إن رفع إليه قضية قاض كان فاسفا، أو مرتشيا، أو ساقط العدالة لا يجوز قضاؤه، فإنه يجب عليه أن ينقضه، وأن يستأنف الحكم بين الخصمين.
وكذلك اتفقوا كذلك على أنه إن رفع إليه قضاء قاض عدل فوجده قد خالف قرآنا أو سنة فإنه يجب عليه أن ينقضه، وأن على القاضي أن يرده على نفسه
1 أدب القاضي، لابن القاص، ج2، ص372.
أيضا إن كان قد أخطأ في مثل ذلك1.
الأمر الثاني: أن العلماء صرحوا بأن حكم القاضي في المسائل المجتهد فيها لا ينقض، أي: إذا حكم قاض في مسألة من المسائل الخلافية التي اجتهد العلماء فيها، وكان لكل فريق رأي فيها، فلا يصح لقاض آخر أن ينقض هذا الحكم.
قال ابن قدامة -الفقيه الحنبلي المشهور- بعد أن بين آراء العلماء وأدلتهم في مسألة تولي المرأة عقد الزواج، ورجح الرأي القائل بأن الزواج لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها، فإن فعلت لم يصح عقد الزواج، قال ابن قدامة بعد أن بين ذلك:"فإن حكم بصحة هذا العقد حاكم، أو كان المتولي لعقده حاكما لم يجز نقضه"2.
وذكر العلماء أمثلة للمسائل الخلافية التي لا يصح للقاضي أن ينقض الحكم فيها، إذا كان مخالفا لما يراه منها الحكم ببطلان خيار المجلس ومنع القصاص من القتل العمد بالمثقل، وصحة الزواج بعبارة المرأة، أو بشهادة ممن لم يتوفر فيه شرط العدالة، وأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف، ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب فالقاعدة المستقرة عند العلماء أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وقالوا إن الدليل على هذه القاعدة إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ورووا أن أبا بكر حكم في مسائل خالفه فيها عمر ولم ينقض حكمه، وحكم عمر في الجد في الميراث أحكاما مختلفة.
وعلل العلماء هذه القاعدة بأن الاجتهاد الثاني ليس أولى من الاجتهاد
1 أدب القاضي، لأبي العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري، المعروف بابن القاص، تحقيق الدكتور حسين خلف الجبوري، ج2، ص372، الطبعة الأولى، 1989.
2 المغني، لابن قدامة، ج7، ص339.
الأول، فلو أجيز نقض الأحكام الاجتهادية أدى هذا إلى عدم الاستقرار في الأحكام، وفي ذلك مشقة شديدة تلحق بالناس، فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلم جرا1.
فالمسائل الاجتهادية -إذن- لا ينقض قاض حكم قاض آخر فيها، والسؤال الآن: ما هو الحكم لو تبين خطأ القاضي؟ هب يبقى الحكم الذي صدر من القاضي -مع تبين خطئه؟ أم بنقض أي يحكم ببطلانه؟
هذه قضية لعلمائنا رضي الله عنهم آراء فيها على الصورة الآتية التي سنذكرها، مع ملاحظة أن نقض الحكم واجب. إذا خالف الشرع -على القاضي إذا رفعت إليه قضية حكم فيها قاض آخر فبان له خطؤه، وهو واجب أيضًا على القاضي الذي أصدر هذا الحكم إذا بان لهذا القاضي خطأ نفسه، كما بينا ذلك سابقا، ولكن ما هو الخطأ الذي يبرر النقض؟ إليك الآن بيانا لما يراه العلماء في هذه المسألة.
الرأي الأول: إن كان الخطأ لمخالفة نص الكتاب، أو السنة أو الإجماع، نقض حكمه.
وهذا ما يراه فقهاء الحنابلة، والشافعي وزاد إذا خالف قياسا جليا نقضه، لا قياسا خفيا.
ونسب ابن قدامة -الفقيه الحنبلي المشهور- إلى أبي حنيفة ومالك القول بأن الحكم لا ينقض إلا إذا خالف الإجماع، قال ابن قدامة: ثم ناقضا "يعني أنا
1 الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص101.
حنيفة ومالكي" ذلك فقال مالك: إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وقال أبو حنيفة: إذا حكم بحل متروك التسمية "أي: في الذبائح" أو حكم بين العبد بالقرعة نقض حكمه.
وبالرجوع إلى ما كتبه الحنفية نجد أنهم يقررون أن حكم القاضي لا ينقض إلا إذا خالف القرآن أو السنة المشهورة أو الإجماع.
ومثل بعض الحنفية للحكم بالمخالف للكتاب الكريم بالقضاء بحل متروك التسمية عمدا؛ لأنه في رأيهم مخالف لقوله تبارك وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ويرى البعض الآخر من الحنفية أن الأحسن أن يمثل بالقضاء بتقديم الوارث على الدين؛ لأن القرآن صريح في وجوب تقديم الدين على توزيع الميراث.
ومثل الحنفية للحكم المخالف للسنة المشهورة بالقضاء بحل المطلقة ثلاثا، بعقد الزوج الثاني بلا دخول حقيقي؛ لأن هذا مخالف للحديث المشهور، وهو حديث العسيلة1.
1 روي عن عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة رفاعة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله، إني كنت تحت رفاعة، فطلقني آخر التطليقات الثلاث، وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، فوالله ما وجدت منه إلا مثل الهدبة "هدبة الثوب: حاشية الثوب" فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
ومثلوا للحكم المخالف للإجماع بحل متعة1 النساء2 ونجد الدردير أحد أشهر فقهاء المالكية يقرر أن حكم القاضي ينقض إذا خالف إجماعا، أو نصا، أو قياسا جليا3.
1 معنى المتعة الزواج المؤقت بأمد معلوم أو أمد مجهول، وسمي زواج المتعة؛ لأن المقصود منه مجرد التمتع لمدة معينة، وقد أجمع العلماء على أن زواج المتعة كان مباحا مدة، ثم نسخ حكم الإباحة فصارت محرمة، وشذت فرقة الإمامية إحدى فرق الشيعة الإمامية عن الإجماع، فقالوا بأن المتعة لا زالت مباحة.
2 الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمد بن مودود، ج2، ص120، ومحمع الأنهر، ج2، ص169.
3 مثال الحكم المخالف للإجماع ما لو مات شخص وترك أخوة، وجدا فحكم القاضي بأن الميراث كله للأخوة دون الجد، فهذا الحكم مخالف للإجماع؛ لأن علماء الأمة الإسلامية على رأيين: رأي يقول بأن الجد يحجب الأخوة في الميراث كما يحجبهم الأب، فيكون الميراث كله للجد، ورأي يقول بأن الجد يقاسم الأخوة، أما حرمان الجد من في الميراث بالكلية فلم يقل به أحد من العلماء فمتى حكم بهذا قاض بناء على أن الأخ يدلي بالبنوة والجد يدلي بالأبوة، والبنوة مقدمة على الأبوة وجب نقض هذا الحكم، ولو كان من قال بهذا مفتيا لم يجز تقليده.
ومعنى القياس الجلي هو ما قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين المقيس والمقيس عليه، أو ببعد تأثيره، فالأول هو قياس كقياس الضرب على التأفيف للوالدين، الذي ورد تحريمه في قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} بجامع الإيذاء والثاني قياس المساوي، كقياس إحراق مال اليتيم على أكله، فإن الفارق بين الضرب والتأفيف وهو أن الضرب إيذاء بالفعل والتأفيف إيذاء بالقول، لا يؤثر في الحكم وهو حرمة الضرب أي: لا ينفيها، والفارق بين الإحراق والأكل وهو أن الأول إتلاف بلا فائدة بخلاف الثاني بعيد، فلا ينفي الحرمة، فلو حكم قاض بعدم تعزير من ضرب أباه لكون الضرب ليس حراما بطل حكمه، وكذلك لو حكم بعدم تعزير من أحرق مال يتيم لكون الإحراق ليس حراما بطل حكمه، وأما القياس الأدون فهو القياس الخفي، كقياس الذرة أو الأرز على القمح في باب الربا بجامع الطعم فإن الفارق موجود وهو كثرة الاقتيات في القمح دون الذرة والأرز فالقياس الجلي يشمل الأولى والمساوي كما صرح بذلك بعض علماء الشافعية في كتب الفقه والأصول.
حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص495. مطبعة دار إحياء الكتب العربية وحاشية الجمل على شرح المنهج، ج5، ص351.
ومثل للحكم المخالف للنص بأن يحكم بالشفعة للجار، وعلل لهذا بأن الحديث الصحيح وارد باختصاصها بالشريك دون الجار، ولم يثبت له معارض صحيح عند المالكية.
وكذلك ينقض الحكم عند المالكية إذا ضعف دليله، ومثلوا لهذا الحكم بغير الشهود العدول، أو بالأقوال الضعيفة المردودة في المذهب الفقهي الذي ينتمي إليه القاضي، ومن ذلك عندهم الحكم بتوريث ذوي الأرحام والشفعة للجار1.
وبين بعض فقهاء الشافعية أن قضاء القاضي ينقض إذا تبين وجود خطأ به، والقاضي منصوب لكي يحكم بين الناس بأحكام الشرع، وأحكام الشرع منوطة بأسباب تتعلق بوجودها، ووجودها يثبت عند القاضي بطريق شرعي، والخطأ محصور في ثلاثة مواطن.
أحدها: أن يكون الخطأ في الحكم الشرعي بأن يكون القاضي حكم بحكم يخالف نصا، أو إجماعا، أو قياسا جليا.
فيجب نقضه لتحقق الخلل في الحكم، وليس معنى النقض هنا الحل بعد العقد، بل المعنى هو الحكم ببطلان الحكم المتقدم، وبيان أنه لم يقع صحيحا؛ لأنه ليس بحكم الشرع، والقاضي أو الحاكم إنما يثبت الشرع فلا يكون حكمه صحيحا إلا إذا حكم بحكم الشرع، وكلمة "نقض الحكم" هنا في هذا الموطن متمكنة؛ لأن المقصود إبطال ذات الحكم الذي صدر من القاضي.
الثاني: أن يكون الحكم مبني على سبب يظن القاضي وجوده، وهو في
1 الشرح الصغير، للدردير ج5، ص21، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص153.
الواقع غير موجود، كما لو حكم القاضي بشهادة زور، وهو لا يعلم أنها شهادة زور، فإذا تبين أنها شهادة زور فإن الحكم المبني عليها ينقض في بعض المواضع بالإجماع، وفي بعضها بخلاف فيه بين العلماء.
والخطأ هنا في السبب ووضع الحكم في غير موضعه، والنقض هنا معناه إبطال تعلق الحكم بذلك المحل، وكلمة "نقض الحكم" في هذا الموطن غير متمكنة؛ وذلك لأنه لم ينقض الحكم في ذاته لوجود خطأ به، وإنما نقض عن ذلك المحل وأخرج المحل عنه، فالخطأ حصل في السبب لا في الحكم، والمخطئ هنا هو الشاهد لا القاضي الذي أصدر الحكم، وإن كان حصل للقاضي نوع من الخطأ وهو أنه ظن وجود السبب الحاصل بالشهادة.
الثالث: أن يكون الخلل في الطريق، كما لو حكم القاضي بشهادة كافرين، فهذا الحكم لا يصح لاشتراط الإسلام في الشاهد، فإذا تبين أن الشاهدين كافران فإنه يجب نقض الحكم، سواء كان المشهود به صحيحا أم لا؛ لأن الحكم المعتبر شرعا هو ما كان ثابتا بطريقه الشرعي، فإذا كان بغير الطريق الشرعي فقد حصل الخطأ في الطريق فيجب نقضه، والخطأ هنا حدث من القاضي في اعتقاده عدالة الشهود، وكلمة "نقض الحكم" هنا كهي في الموطن الثاني، وإن كان الفقهاء أطلقوا كلمة "النقض" على جميع المواطن وهو الصحيح1.
الرأي الثاني: ينقض القاضي جميع ما بان له خطؤه.
1 الأشباه والنظائر لابن السبكي، ج1، ص406، ويظهر لي أن هذا ما نقله عبد الوهاب بن السبكي عن والده علي بن عبد الكافي السبكي.
وهذا الرأي محكى عن أبي ثور، وداود الظاهري.
وقد استدل من قال بنقض حكم القاضي إذا خالف الكتاب الكريم أو السنة أو الإجماع بما يأتي:
أولا: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
ثانيا: حديث معاذ، لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا قال له:"بم تحكم"؟ ، قال: بكتاب الله، قال:"فإن لم تجد"؟ ، قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم تجد"؟ ، قال: أجتهد رأيي لا آلوا، قال:"الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله".
فهذا الحديث الشريف بين أنه لا اجتهاد مع الكتاب والسنة، فشرط الحكم بالاجتهاد عدم النص1.
ثالثا: الإجماع قام على نقض الحكم إذا خالف أمرا مجمعا عليه بين العلماء2.
رابعا: ما روي أن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يفاضل بين الأصابع في الدية، نظرا لتفاوت منافعها، فلما روي له حديث عن رسول الله -صلى الله عليه
1 الشرح الصغير لأحمد الدردير، ج5، ص21، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص153.
2 مغني المحتاج، ج4، 397، والمغني، ج11، ص404.
وسلم- في التسوية نقض حكمه، رواه الخطابي في المعالم.
خامسا: ما روي أن عليا -رضي الله تعالى عنه- نقض قضاء شريح في ابني عمر، أحدهما أخ لأم بأن الميراث كله للأخ، متمسكا بقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فقال له علي: قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} .
الاستدلال لعدم النقض في حال مخالفة القياس الخفي:
استدل لهذا بأن الظنون المتعادلة لو نقض بعضها بعضا لما استمر حكم، ولشق الأمر على الناس.
ومن المشهور عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه حكم بحرمان الأخوة الأشقاء في المسألة المشتركة في الميراث1، ثم شرك بينهم وبين الأخوة لأم بعد ذلك، ولم ينقض قضاءه الأول، وقال ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي2.
هذا وقد صرح العلماء بأنه في حالة النقض يجب على القاضي أن يبين السبب الذي نقض الحكم من أجله، حتى لا ينسب للجور والهوى بنقضه
1 المسألة المشتركة في الميراث: إذا ماتت امرأة وتركت: زوجا، وأما وجدة، واثنين فأكثر من الأخوة لأم، وأخوة أشقاء، واحدا أو أكثر ذاكرا فقط، أو ذكورا وإناثا، وقد سماها العلماء بالمشتركة لاشتراك الأخوة الأشقاء مع الأخوة لأم في الميراث وتسمى الحمارية لقول الأشقاء هب أن أبانا كان حمارا، والحجرية. أو اليمية، لقولهم: هب أن أبانا كان حجرا في اليم.
2 مغني المحتاج، ج4، ص396.
الأحكام التي حكم بها غيره من القضاة1.
وأما الرأي القائل بأن على القاضي أن ينقض جميع ما بان له خطؤه، فيدل له ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام، فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان فأخبرتاه، فقال: ائتوني بسكين أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضي به للصغرى"2.
وفي ختام الكلام عن هذه المسألة نحب أن نبين أن هناك رأيا ضعيفا يذهب إلى أن القاضي لا ينقض حكمه إذا أخطأ، واستند هذا الرأي الغريب إلى ما رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا حكم الحاكم 3 فاجتهد ثم أصاب فله أجران، فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ 4 فله أجر".
والجواب عن هذا الاستدلال أن هذا الحديث الشريف لا يدل على أن القاضي لا ينقض حكمه إذا أخطأ؛ وذلك لأن المراد أن يكون الحاكم اجتهد فأخطأ الحكم الذي عند الله عز وجل في نفس الأمر من الحق، وهذا الخطأ لن نعلمه إلا
1 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص12، والمغني ج11، ص404.
2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص119.
3 أي: إذا أراد الحكم، بدليل قوله بعد ذلك:"فاجتهد" فإن الاجتهاد إنما يكون قبل الحكم.
4 أي: لم يوافق ما هو عند الله تعالى من الحكم.
يوم القيامة أو بوحي من الله تبارك وتعالى، والكلام هنا في خطأ الحاكم الذي يظهر له في الدنيا من عدم استكمال الشروط التي يجب أن تتوفر في الحكم أو نحو ذلك1.
كما نحب أن نبين أن بعض فقهاء المالكية قسم ما أخطأ فيه القاضي إلى أربعة أقسام:
الأول: أن يكون قضاؤه مخالفا للكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة.
الثاني: أن يكون قد قصد أن يحكم بمذهب معين فذهب في حكمه إلى غير هذا المذهب.
الثالث: أن يكون قد اجتهد لنفسه فحكم بالرأي الذي يرى أنه صواب، ثم تبين له بعد ذلك باجتهاد ثان أن الصواب خلاف ما حكم به.
الرابع: أن يكون حكم في القضية التي ينظرها بناء على ظن وتخمين بدون اجتهاد ولا رأي.
فأما حكم الأول فإنه يفسخ حكمه إذا خالف الحق المقطوع به، فإذا لم يفسخ هو هذا الحكم حتى جاء قاض بعده فإنه يجب على من أتى بعده أن يفسخ هذا الحكم؛ لأنه مما يقطع ببطلانه ولا يجوز الإقرار عليه.
وأما القسم الثاني وهو إذا كان يقصد أن يحكم بمذهب معين فذهب في حكمه إلى غير هذا المذهب فهذا يفسخه هو بنفسه، ولا يفسخه من يتولى القضاء بعده، وإنما لم يكن لغيره أن يفسخ هذا الحكم؛ لأن ظاهره الصحة إذا كان جاريا على مذهب بعض العلماء، ولا يعلم خطؤه، إلا من قوله هو فلم يكن للثاني سبيل
1 سبل السلام، ج4، ص119، 120.
إلى نقضه، إلا إذا شهدت بينة حضرته وعلمت قصده في الحكم وذهابه عنه إلى سبيل الخطأ، فإذا شهد شاهدان بذلك عند القاضي الثاني نقضه ولم يمضه.
وأما القسم الثالث فمذهب ابن القاسم وغيره أنه يرجع إلى الرأي الثاني الذي انتهى إليه باجتهاده الثاني ويفسخ الحكم الأول.
ومذهب ابن الماجشون وسحنون وغيرهما أنه لا يجوز له أن يفسخ الحكم الأول.
وأما القسم الرابع وهو أن يكون قد حكم بناء على ظن وتخمين من غير نص أو اجتهاد في الأدلة فذلك باطل؛ لأن الحكم بالظن فسق، وظلم، وخلاف الحق، ويجب على القاضي الذي أصدر هذا الحكم أن يفسخه بنفسه، كما يجب على غيره أن يفسخه إذا ثبت أنه حكم به على هذه الصورة1.
ثم أما بعد، فهذا ما يسر الله تبارك وتعالى كتابته في موضوع النظام القضائي في الفقه الإسلامي، وأدعوه عز وجل أن ينفع بما كتبت، وأن يغفر لي ما قصرت وما أخطأت فيه، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
دكتور محمد رأفت عثمان
أستاذ الفقه المقارن.
عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر.
1 معين الحكام على القضايا والأحكام لأبي إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع، تحقيق الدكتور محمد بن قاسم بن عياد، الجزء الثاني، ص638، دار الغرب الإسلامي، بيروت.