المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما يراه ابن تيمية وابن القيم في ضرب المتهم أو حبسه حتى يقر: - النظام القضائي في الفقه الإسلامي

[محمد رأفت عثمان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تقديم البحث

- ‌التعريف بالقضاء:

- ‌مشروعية القضاء:

- ‌حكم قبول القضاء

- ‌مدخل

- ‌حكم طلب القضاء:

- ‌القضاء عند العرب قبل الإسلام:

- ‌حكام اشتهروا في الجاهلية:

- ‌القضاء في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌الدليل على أن الرسول كان يقضي في القضايا بنفسه:

- ‌كان منصب القضاء في عهد الرسول، يضاف إلى منصب الولاية العامة:

- ‌مرجع من يقوم بالقضاء:

- ‌القضاء في عصر الخلفاء الراشدين

- ‌مدخل

- ‌عمر أول من أنشأ بيت مال المسلمين:

- ‌الدائرة القضائية للقضاة أيام الخلفاء الراشدين:

- ‌طريقة اختيار القضاة:

- ‌مرجع القاضي في أحكامه:

- ‌اختيار القضاة، ووظيفة قاضي القضاة

- ‌مدخل

- ‌اختصاصات القاضي:

- ‌التحكيم:

- ‌رجوع أحد الخصمين عن التحكيم:

- ‌ما يجوز التحكيم فيه وما لا يجوز:

- ‌التحكيم في حد القذف والقصاص:

- ‌التحكيم بحل مشكلة المسلمين في البلاد غير الإسلامية

- ‌حكم الهدية للقاضي:

- ‌جعل أجر للقاضي من الخزانة العامة للدولة:

- ‌حق التقاضي مكفول للجميع:

- ‌الفصل الأول: شروط الصلاحية للقضاء وعزل القاضي وانعزاله

- ‌المبحث الأول: شروط الصلاحية للقضاء

- ‌الشرط الأول: الإسلام

- ‌الشرط الثاني: البلوغ

- ‌الشرط الثالث: من شروط القاضي العقل

- ‌الشرط الرابع: الحرية

- ‌الشرط الخامس: الذكورة

- ‌مدخل

- ‌مدى توافق رأي الحنفية في قضاء المرأة مع رأيهم في أثر النهي:

- ‌رأي ابن جرير الطبري:

- ‌تحديد الآراء:

- ‌الشرط السادس من شروط القاضي: العدالة

- ‌توضيح معنى العدالة عند العلماء

- ‌معنى التقوى:

- ‌الشرط السابع من شروط القاضي السمع:

- ‌الشرط الثامن البصر:

- ‌الشرط التاسع النطق:

- ‌الشرط العاشر الكفاية:

- ‌الشرط الحادي عشر الاجتهاد:

- ‌الشرط الثاني عشر: عند بعض العلماء

- ‌الشرط الثالث عشر: عند بعض العلماء

- ‌المبحث الثاني: عزل القاضي وانعزاله

- ‌مدخل

- ‌ما يراه العلماء فيما إذا كانت صفة العدالة تتوافر في القاضي ثم ارتكب ما يخل بالعدالة، وتوجيه كل رأي:

- ‌عزل رئيس الدولة للقضاة:

- ‌الفصل الثاني: الدعوى ونظام الفصل فيها

- ‌بيان معنى الدعوى، والفرق بينها وبين الإقرار والشهادة

- ‌مدخل

- ‌معنى المدعي والمدعى عليه:

- ‌حكم الدعوى:

- ‌شروط صحة الحكم في الدعوى

- ‌الشرط الأول: عند بعض العلماء حضور الخصم المدعي عليه

- ‌آراء العلماء في القضاء على الغائب

- ‌أدلة القائلين بجواز الحكم على الغائب:

- ‌أدلة المانعين للحكم على الغائب:

- ‌اضطراب فقهاء الحنفية في مسائل الحكم على الغائب:

- ‌شروط القضاء على الغائب عند القائلين به:

- ‌الشرط الثاني من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط الثالث من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط الرابع عند بعض الحنفية:

- ‌الشرط الخامس من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط السادس، الشرط السابع، الشرطب الثامن: كونها ملزمة: أن تكون في مجلس القضاء: أن تكون بلسان المدعي أو وكيله

- ‌الشرط التاسع، الشرط العاشر، الشرط الحادي عشر: الشرط الثاني عشر: أن لا تكون بنذر لمخلوق: تعيين المدعي عليه: أن لا يكون المدعي أو المدعي عليه حربيا أن تكون الدعوى محققة

- ‌الشرط الثالث عشر: أن تكون الدعوى محققة

- ‌حكم الوكالة في الدعوى: تجوز بعوض وبغير عوض

- ‌اختلاف العلماء فيما لو اتفقا على أجرة إذا كسب القضية

- ‌هل يسقط الحق بتقادم الزمان

- ‌نظام الفصل في الدعوى

- ‌خطاب عمر لأبي موسى الأشعري

- ‌أدلة الأراء

- ‌مدخل

- ‌يكفي في اليمين الحلف بالله، أو صفة من صفاته:

- ‌تغليظ الحلف بالمكان والزمان:

- ‌أقسام حقوق الآدميين:

- ‌الفصل الثالث: وسائل الإثبات

- ‌مدخل

- ‌الوسيلة الأولى: الإقرار

- ‌معنى الإقرار

- ‌الفر ق بين الإقرار والشهادة والدعوى

- ‌أدلة اعتبار الإقرار:

- ‌أركان الإقرار، وشروط المقر

- ‌ما يراه ابن تيمية وابن القيم في ضرب المتهم أو حبسه حتى يقر:

- ‌شروط المقر له:

- ‌شرط المقر به

- ‌هل يشتطر أن يكون المقر به معلوما

- ‌الرجوع عن الإقرار:

- ‌هروب المقر أثناء تنفيذ الحد:

- ‌الفرق في الرجوع بين حق الله وحق الإنسان:

- ‌الوسيلة الثانية من وسائل الإثبات: البينة

- ‌مدخل

- ‌تعريف الشهادة عند الفقهاء

- ‌مدخل

- ‌حكم الشهادة:

- ‌هل يشترط لفظ الشهادة عند الأداء:

- ‌شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض:

- ‌شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية حال السفر:

- ‌الخلاف في شهادة الصبيان على بعض في الجراحات التي تحدث بينهم

- ‌مدخل

- ‌معنى العدل باطنا وظاهرا:

- ‌هل لا بد من التفسير في الجرح:

- ‌لا يقبل جرح الشهود من الخصم، رأي الحنفية في اشتراط عدالة الشاهد

- ‌هل تقبل شهادة الفاسق إذا تاب

- ‌شهادة الأب لابنه والعكس، شهادة أحد الزوجين للأخر

- ‌شهادة الأخ لأخيه:

- ‌شهادة العدو على عدوه:

- ‌هل يشترط البصر في أداء الشهادة:

- ‌مراتب الشهادة:

- ‌رأي المالكية في شهادة النساء بعضهن على بعض في الأعراس ومساكن الطالبات، ونحو ذلك:

- ‌هل يشترط العدد في انفراد النساء بالشهادة:

- ‌رجوع الشهود عن الشهادة

- ‌مدخل

- ‌إن رجع الشهود في الطلاق البائن وما ماثله:

- ‌تعارض البينتين من شخصين:

- ‌زيادة العدد في إحدى البينتين أو زيادة العدالة:

- ‌لو كان لأحد المدعيين شاهدان وللآخر شاهد ويمين:

- ‌الوسيلة الثالثة من وسائل الإثبات: نكول المدعى عليه عن اليمين:

- ‌الويسيلة الرابعة: يمين المدعي مع الشاهد

- ‌الوسيلة الخامسة من وسائل الإثبات: يمين المدعي إذا نكل المدعى عليه

- ‌الوسيلة السادسة: القسامة

- ‌تعريف القسامة عند العلماء

- ‌مدخل

- ‌ما يجب بالقسامة، من يبدأ بالحلف في القسامة

- ‌متى تجب القسامة

- ‌الوسيلة السابعة من وسائل الإثبات: القافة

- ‌الوسيلة الثامنة من وسائل الإثبات: القرينة القاطعة عند الجمهور

- ‌مدخل

- ‌تعريف القرينة:

- ‌أقسام القرينة من حيث دلالتها:

- ‌أقسام القرينة عند القانونيين:

- ‌آراء الفقهاء في حجية القرائن

- ‌مدخل

- ‌الرأي الراجح:

- ‌ما يشترط للعمل بالقرينة:

- ‌مجال القضاء بالقرائن:

- ‌آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في الحدود:

- ‌آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في القصاص:

- ‌عمل فقهاء المذاهب الأربعة بالحكم بالقرائن:

- ‌الوسيلة التاسعة من وسائل الإثبات: القرعة

- ‌الوسيلة العاشرة: فضاء القاضي بعلمه أو بخلاف علمه

- ‌الفصل الرابع: أصول في القضاء

- ‌الأصل الأول: العدل بين الخصمين

- ‌الأصل الثاني: البينة على المدعي واليمن على من انكر، الأصل الثالث: حكم القاضي لا يجرم حلالا ولا يحل حراما

- ‌الأصل الرابع: لا يقضي القاضي وهو غضبان

- ‌الأصل الخامس: لا يقبل القاضي هدية ممن له خصومة في الحال

- ‌الأصل السادس: لا يقضي القاضي لنفسه ولمن لا تقبل شهادته له

- ‌الأصل السابع: الحكم بالاجتهاد الثاني للقاضي

- ‌الأصل الثامن: جواز الطعن في الأحكام في بعض الأحوال

- ‌باب الفهارس:

الفصل: ‌ما يراه ابن تيمية وابن القيم في ضرب المتهم أو حبسه حتى يقر:

‌ما يراه ابن تيمية وابن القيم في ضرب المتهم أو حبسه حتى يقر:

يفصل ابن تيمية -ويوافقه تلميذه ابن القيم1- فيبين أن الدعاوي قسمان؛ لأنها إما أن تكون دعوى تهمة أو دعوى غير تهمة، ودعوى التهمة هي دعوى الجناية والأفعال المحرمة التي توجب عقوبة فاعلها، مثل دعوى القتل وقطع الطريق، والسرقة، والقذف، والعدوان على الناس بالضرب، وبغير ذلك من العدوان الذي يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأوقات في العادة.

ودعوى غير التهمة هي أن يدعي دعوى عقد، كعقد بيع، أو رهن، أو ضمان، أو يدعي دعوى لا يكون فيها سبب فعل محرم، مثل دين ثابت في الذمة، كثمن بيع، أو قرض، أو مهر، أو دية قتل خطأ، أو غير ذلك، فدعوى غير التهمة

1 مجموع فتاوى أحمد بن تيمية، المجلد الخامس والثلاثون، ص389، وما بعدها، تصوير الطبعة الأولى سنة 1398هـ، والطرق الحكمية لابن القيم، ص108 وما بعدها.

ص: 280

-إذن- تشمل نوعين هما: دعوى العقد، ودعوى فعل غير محرم.

فإذا كانت الدعوى غير تهمة بنوعيها اللذين بيناهما: وهما دعوى العقد، ودعوى فعل غير محرم، فإن الحكم في ذلك هو أنه إذا أقام المدعي الحجة الشرعية ثبتت الدعوى على المدعى عليه، وإلا فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إذا لم يأت المدعي بحجة شرعية وهي البينة.

وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب البينة من المدعي واليمين من المدعى عليه في حكومات معينة ليست من جنس دعاوى التهم، روى البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس أنه قال: كانت بيني وبين رجل حكومة في بئر، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"شاهداك أو يمينه" فقلت: إذن يحلف، ولا يبالي1، فقال:"من حلف على يمين صير يقطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان"، وفي رواية فقال:"بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه".

وروى مسلم والترمذي عن وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي وبيدي أزرعها لس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي:"ألك بينة"؟ ، قال: لا، قال:"فلك يمينه"، فقال يا رسول الله: الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، فليس يتورع من شيء، فقال:"ليس لك منه إلا ذلك".

وأما دعاوي التهم فينقسم المدعى عليه بالنسبة إليها إلى ثلاثة أقسام: لأن المتهم إما أن يكون بريئًا ليس من أهل تلك التهمة، كما لو كان رجلا صالحا مشهورا

1 كان خصم الأشعث يهوديا.

ص: 281

مشهودا له بالاستقامة، أو يكون فاجرا من أهل تلك التهمة، أو يكون مجهول الحال لا يعرف الحاكم حاله.

إن كان بريئًا ليس من أهل تلك التهمة:

فإن كان المتهم بريئا ليس من أهل تلك التهمة فباتفاق العلماء لا يجوز عقوبته لا بضرب ولا بحبس، ولا بغيرهما.

فإذا وجد في يد رجل مشهود له بالعدالة مال مسروق، وقال هذا الرجل العدل: ابتعته من السوق، لا أدري من باعه، فلا عقوبة على هذا العدل باتفاق العلماء، ثم قال فقهاء المالكية وغيرهم: يحلف المستحق أنه ملكه ما خرج عن ملكه ويأخذه، وقرر هؤلاء أنه لا تطلب اليمين من هذا العدل.

ولكن هل يعاقب الذي اتهم هذا الرجل المشهود له بالعدالة والاستقامة أم لا؟

يرى مالك وبعض فقهاء مذهبه أنه لا أدب على المدعي إلا إذا ثبت أنه قصد أذيته، وعيبه، وشتمه فيؤدب، وأما إذا كان ذلك طلبا لحقه فلا يؤدب، وقال بعض آخر من فقهاء مذهبه يؤدب سواء قصد أذيته أو لم يقصد، وقد صرح ابن فرحون أن هذا الرأي هو الصحيح عنده، وعلل ذلك بأنه يؤدي إلى صيانة البرآء من تسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء، والرأي المقابل للصحيح هو أن المتهم لا عقوبة عليه1.

1 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج2، ص153، بهامش فتح العلي المالك لمحمد أحمد عليش.

ص: 282

ويرى الطرابلسي -أحد فقهاء الحنفية- أن المتهم له بذلك يعاقب لنفس العلة، وهي صيانة لسلطة أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء الصلحاء، ونقل عن أبي حنيفة فيمن قال لغيره يا فاسق يا لص:"فإن كان من أهل الصلاح ولا يعرف بذلك فعلى القاذف التعزير؛ لأن الشين يلحقه إن كان بهذه الصفة وإن كان يعرف به لم يعزر"1.

المتهم المجهول الحال:

وأما إذا كان المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور، فهذا يحبس حتى ينكشف حاله، ويتبين للحاكم أمره عند عامة علماء الإسلام، وذلك لما رواه أبو داود في سننه، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، "أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة" قال الترمذي: حسن، وزاد هو والنسائي:"ثم خلى عنه".

وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة استظهارا وطلبا لإظهار الحق بالاعتراف2.

والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن الحاكم يجب عليه أن يحضر المدعى عليه -الذي يجب عليه الحضور- إذا طلب المدعي إحضاره إلى مجلس القضاء حتى يفصل بينهما، ويحضره من مسافة العدوي -وهي ما لا يمكن الذهاب إليه والعود في نفس اليوم- كما يقول بعض فقهاء الشافعية والحنابلة ورواية عن أحمد، وعند بعضهم يحضره من مسافة القصر -وهي مسيرة

1 معين الحكام للطرابلسي، ص178.

2 الطرق الحكمية، لابن القيم، ص108 وما بعدها، ونيل الأوطار للشوكاني، ج9، ص217، دار الفكر، ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج35، ص389 وما بعدها.

ص: 283

يومين بالدواب- كما هو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وهي كالمسافة بين مكة وجدة.

ثم إن الحاكم قد يكون مشغولا عن تعجيل الفصل في القضية، وقد تكون عنده قضايا سابقة عن هذه القضية، فيكون المدعى عليه محبوسا معوقا من حين أن طلبه القاضي إلى أن يفصل بينه وبين خصمه، وهذا نوع من الحبس بدون تهمة، فيجوز الحبس في التهمة من باب أولى؛ لأن الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء أكان في بيت أم في مسجد، أم كان بملازمة الخصم أو وكيل الخصم له1 ولهذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم أسيرا. يروي أبو داود وابن ماجه عن الهرماس ابن حبيب، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بغريم لي، فقال لي:"الزمه" ثم قال: "يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك "؟ وفي رواية ابن ماجه: ثم مر بي آخر النهار، فقال:"ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم".

وهذا هو الحبس الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه، ولم يكن هناك مكان خاص معد لسجن من يحكم عليه بالحبس، ولكن لما انتشرت الرعية أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشترى دارا بمكة وجعلها سجنا،

1 اختلف العلماء في الحبس واتخاذ السجن، فيرى أبو حنيفة، ومالك، والشافعي جواز ذلك، وحكي عن إبراهيم بن أبي يحيى أنه كره ذلك، ومن حجته في هذا الرأي أن الله تبارك وتعالى شرع الأحكام وفرض الحدود، فكل من وجب عليه حد أو غرم أخذ منه، ومن يمنع من ذلك عزر بما يؤلمه، قياسا على الحدود، وفي الحبس ضرر يتعرض له عياله، والضرر فساد، والله لا يحب الفساد، وأما الرأي الأول فمستنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس، وكذلك الخلفاء الراشدون "أدب القاضي" لابن القاص، ج1، ص124.

ص: 284

وحبس فيها من حكم عليه بالحبس.

واختلف العلماء في مقدار الحبس في التهمة هل هو مقدر بمدة معينة؟ أم أن ذلك متروك لاجتهاد الحاكم.

المتهم المعروف بالفجور:

وأما إذا كان المتهم معروفا بالفجور مثل المتهم بالسرقة إذا كان معروفا بها قبل ذلك، والمتهم بقطع الطريق إذا كان معروفا به، والمتهم بالقتل، أو كان أحد هؤلاء معروفا بما يقتضي ذلك، فهذا يجوز حبسه؛ لأنه إذا جاز حبس مجهول الحال فإن حبس هذا يكون أولى: قال ابن تيمية: "وما علمت أحدا من أئمة المسلمين يقول: إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوي يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره، فليس هذا -على إطلاقه- مذهبا لأحد من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم من الأئمة، ومن زعم أن هذا -على إطلاقه وعمومه- هو الشرع فقد غلط غلطا فاحشا مخالفا لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإجماع الأئمة، وبمثل هذا الغلط الفاحش تجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن الشرع لا يقوم بسياسة العالم ومصلحة الأمة".

هذا النوع من المتهمين يسوغ ضربه:

وهذا النوع من المتهمين يسوغ ضربه، يشهد لهذا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الزبير بتعذيب المتهم الذي غيب ماله حتى أقر به، في قصة ابن أبي الحقيق رأس يهود خيبر1، فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: "أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم

1 الطرق الحكمية لابن القيم، ص108 وما بعدها.

ص: 285

على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله -صلى لله عليه وسلم- الصفراء، والبيضاء، والحلقة1، وهي السلاح، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم، ولا عهد، فغيبوا مَسْكا2 فيه مال وحلى لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي واسمه سعية3:"ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير "؟ ، فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال:"العهد قريب والمال أكثر من ذلك" وقد كان حيي قد قتل قبل ذلك، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية إلى الزبير، فمسه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق، وأحدهما زوج صفية بن حيي بن أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا4.

هذا ما يراه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن وافقهما5، ونرى بعض الشافعية6 يبين أن الإكراه في الإقرار الذي لا يصح الإقرار به هو أن يضرب ليقر، أما لو ضرب ليصدق في القضية فأقر في حالة ضربه أو بعد حدوث الضرب فإنه يلزمه ما أقر به، وعلل ذلك بأنه ليس مكرها في إقراره، إذ المكره من أكره على شيء واحد، وهذا الشخص إنما ضرب ليصدق في القضية، والصدق ليس منحصرا

1 الحلقة بفتح الحاء وسكون اللام.

2 المسلك -بفتح الميم وسكون السين: الجلد.

3 سعية بفتح السين وسكون العين.

4 نيل الأوطار، ج8، ص206.

5 معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، لعلي بن خليل الطرابلسي ص178. الطبعة الثانية.

6 مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، ج2، ص240.

ص: 286

في الإقرار، لكن مع هذا فإن صاحب هذا الرأي يرى أن من المكروه إلزامه بهذا الإقرار الذي أقر به حالة الضرب أو بعده، حتى يراجع ويقر مرة ثانية.

ويرى بعض آخر من الشافعية، وهو الإمام الأذرعي أن الإقرار لا يصح بعد الضرب؛ لأنه إكراه، ومن شروط صحة الإقرار عدم الإكراه، قال الأذرعي:"الولاة في هذا الزمان يأتيهم من يتهم بسرقة، أو قتل، أو نحوهما، فيضرهما، فيضربونه ليقر بالحق، ويراد بذلك الإقرار بما ادعاه خصمه، والصواب أن هذا إكراه، سواء أقر في حال ضربه أم بعده، وعلم أنه إن لم يقر بذلك لضرب ثانيا" انتهى كلام الأذرعي1.

وفي فقه المالكية نجد التصريح بحبس المتهم المعروف بالفجور وضربه قال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: "من شهدت عليه بينة أنه سارق معروف بالسرقة متهم بها، وقد سجن فيها غير مرة إلا أنهم حين شهدوا عليه لم يجدوا معه سرقة، فقال: لا قطع عليه بهذه الشهادة ولكن عليه الحبس الطويل"2.

ونقل ابن فرحون أيضًا عن بعض كتب المالكية أنه "يضرب السارق حتى يخرج الأعيان التي سرقها"3.

وفي فقه الحنفية نجد الطرابلسي أيضًا يقسم المدعى عليه بالنسبة إلى دعاوي التهم إلى ثلاثة أقسام كما قسمها ابن تيمية، وابن القيم، وابن فرحون المالكي، مع ملاحظة أن الطرابلسي وابن فرحون من الواضح أنهما متأثران بتقسيم ابن تيمية

1 نقلا عن مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، ج2، ص240.

2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج4، ص157، بهامش فتح العلي المالك.

3 نفس المصدر والصفحة.

ص: 287

وابن القيم، وأيدا هذا التقسيم بنقول من فقههم أي: فقه الحنفية وفقه المالكية، يقول الطرابلسي عند كلامه عن المتهم المعروف بالفجور1:"إذا رفع للقاضي رجل يعرف بالسرقة والدعارة فادعى عليه بذلك رجل فحبسه لاختبار ذلك، فأقر في السجن بما ادعي عليه من ذلك فذلك يلزمه، وهذا الحبس خارج عن الإكراه، قال في شرح التجريد في مثله: وإن خوفه بضرب سوط، أو حبس يوم حتى يقر فليس هذا بإكراه، قال محمد: وليس في هذا وقت، ولكن ما يجيء منه الاغتمام البين؛ لأن الناس متفاوتون في ذلك، فرب إنسان يغتم بحبس يوم، والآخر لا يغتم، لتفاوتهم في الشرف والدناءة، فيفوض ذلك إلى رأي كل قاض وزمانه، فينظر إن رأى أن ذلك الإكراه فوت عليه رضاه أبطله وإلا فلا".

واختلف العلماء فيما إذا أقر المتهم المعروف بالفجور حال الضرب أو الحبس، فبعضهم يرى أنه يؤخذ بهذا الإقرار إذا ظهر صدقه، مثل أن يخرج الشيء المسروق بعينه، ولو رجع عن ذلك الإقرار بعد الضرب لا يقبل منه الرجوع بل يؤخذ به، والبعض من العلماء يرى أنه لا بد من إقرار آخر بعد الضرب وإذا رجع عن الإقرار لم يؤخذ به2.

وبعد، فيحسن أن نوضح هنا أن الطرابلسي الفقيه الحنفي يرى أن حبس المتهم أو ضربه ليقر إنما هو في قضايا الأموال، وأما لو أكرهه القاضي أو غيره على الإقرار بجريمة تستحق حدا، أو قصاصا فلا يجوز إقراره3.

ويرى بعض العلماء أن الضرب حرام سواء ضرب ليقر أو ليصدق4.

1 معين الحكام، للطرابلسي، ص179.

2 مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35، ص404.

3 معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، للطرابلسي، ص179، مطبعة مصطفى الحلبي.

4 حاشية البجيرمي على المنهج ج3، ص73.

ص: 288

الشرط الرابع من شروط المقر: الرشد إن كان الإقرار بحق لآدمي.

إذا كان الإقرار يتعلق بحق لآدمي، كالإقرار بالمال، أو بالزواج اشترط في المقر أيضًا بجانب الشروط الثلاثة السابقة شرط رابع هو الرشد، والمراد بالرشد كون الشخص مطلق التصرف، فلا يصح إقرار السفيه بدين، أو إتلاف مال، أو نحو ذلك كما قال العلماء1، قال بعض العلماء: لا يلزمه الإقرار ظاهرا ولا باطنا، أي: لا فيما بينه وبين الناس ولا فيما بينه وبين الله، وقال البعض الآخر: يلزم السفيه الإقرار بدين أو إتلاف مال أو نحو ذلك باطنا أي: فيما بينه وبين الله فيغرمه للمقر له بعد فك الحجر عنه.

وصرح العلماء بأن السفيه إذا أقر بغير المال، كالطلاق والظهار، ونحوهما، فإن إقراره يكون صحيحا، ويصح إقرار السفيه في الجنايات، والحدود.

الشرط الخامس عند بعض العلماء: أن يكون المقر غير متهم في إقراره:

اشترط المالكية أن يكون المقر غير متهم في إقراره، وعلى هذا لو أقر المريض مرض الموت لمن يتهم بمودته كابنه البار به، أو زوجته التي يميل إليها فلا يصح الإقرار عند المالكية، سواء أكان المتهم بمودته وارثًا أم غير وارث، إلا إذا أجاز الورثة هذا الإقرار فيصح.

وأما إقراره لغير متهم عليه فيصح عندهم حتى لو كان بأزيد من ثلث ما يملك2.

1 الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، لمحمد الشربيني الخطيب، ص114، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم مبحث الإقرار، ص205.

2 بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، لأحمد بن محمد الصاوي، على الشرح الصغير للدردير، ج2، ص190، وقوانين الأحكام لابن جزي، ص324.

ص: 289

ما يراه الحنفية:

ويرى الحنفية أن إقرار المريض لوارثه باطل إلا إذا صدقه بقية الورثة، واستندوا في هذا إلى رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا وصية لوارث ولا إقرار بدين" وأيضًا فإنه تعلق به حق جميع الورثة، فإذا أقر المورث لبعض ورثته فإنه يكون قد أبطل حق الباقين، وفيه إيقاع العداوة بينهم؛ لأن فيه إيثارا لبعض الورثة على البعض الآخر، وذلك ينشئ العداوة والبغضاء، قالوا: وقضية يوسف وإخوته أكبر شاهد1.

ما يراه الشافعية:

وأما الشافعية -على الرأي الراجح عندهم- فيرون أنه يصح إقراره في مرضه لوارثه كإقراره للأجنبي؛ لأن الظاهر أنه محق في إقراره؛ لأنه انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر.

ويوجد قول للشافعي -رضي الله تعالى عنه- بعدم صحة الإقرار للوارث؛ لأنه متهم بحرمان بعض الورثة2.

ما يراه الحنابلة:

يرى الحنابلة عدم صحة إقرار المريض مرض الموت بالمال لأحد الورثة3.

ويحسن هنا أن ننبه إلى أن الخلاف بين العلماء هو في صحة الإقرار وعدمها، وأما التحريم والإثم فلا شك فيه إذا كان المقر قد قصد بإقراره أن يحرم بعض الورثة فلا يوجد خلاف بين العلماء في هذا، وقال العلماء: لا يحل للمقر له أن يأخذ المقر به في هذه الصورة4.

هذا، وفي ختام الكلام عن شروط المقر يحسن أن نبين أن العلماء لم يشترطوا في المقر صفة العدالة كما هو الشرط في الشاهد عند جمهور العلماء -كما سنعرف فيما بعد إن شاء الله تعالى- وذلك لأن طبع الإنسان يزعه عن أن يقر على نفسه بما يقتضي قتلا، أو قطعا، أو تغريم مال، فلهذا قبل الإقرار من البر والفاجر، اكتفاء بالوازع الطبيعي5.

1 الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود، ج2، ص190، مطابع الشعب.

2 حاشية سليمان البجيرمي على شرح منهاج الطلاب لزكريا الأنصاري ج3، ص76، 77، واختلف الشافعية في كونه وارثا هل يعتبر وارثا حال الموت أو بحال الإقرار، ويظهر أثر الخلاف فيما لو أقر لزوجته ثم طلقها طلقة بائنة ومات، أو أقر لأجنبية ثم تزوجها.

3 مختصر المقنع، لشرف الدين أبو النجا، ص115.

4 الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، ج3، ص55.

5 الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص387.

ص: 290