الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صوابا أقره الله على هذا الحكم، وإلا نزل الوحي عليه ينبهه إلى حكم الله فيها.
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المرجع للتشريع، كان له سلطة القضاء وتطبيق النصوص التشريعية على كل ما يحدث من وقائع وتصرفات، وهي السلطة التي استمدها من الله عز وجل، فقد كان عليه الصلاة والسلام مأمورا من ربه بالحكم والفصل في الخصومات، قال عز وجل:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 1، وقال سبحانه وتعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2.
فتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاء بنفسه، وولاه غيره أيضًا، لكن القضاء كان موقوفًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يولي أحدًا في القضايا التي يحضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتقدم أحد بين يديه، وأما فيما غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهات والأقاليم، فقد بعث عليا ومعاذ بن جبل إلى اليمن، والأحاديث تحكي بعض وقائع رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليقضي فيها بنفسه، كما تحكي أيضًا توليته بعض الصحابة منصب القضاء، بجانب تفويضه إليهم الولاية العامة لأمور الناس في النواحي التي وجههم إليها، وقيامهم بتوضيح أمور الدين لهم، وتعليمهم إياها.
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أيضًا على قمة السلطة التنفيذية، فهو -بجانب كونه رسولًا- رئيس الدولة، والقائد الأعلى للقوات المسلحة بخلاف بعض الرسل السابقين، فكان بعضهم رسولًا فقط، لا حاكما كموسى وعيسى عليهما السلام، وبعضهم كان حاكما ورسولًا كداود وسليمان عليهما السلام. وقد درجت الأنظمة الحديثة على فصل السلطات الثلاث حتى لا تطغى سلطة في سلطة، فقد يشرع أصحاب السلطة التنفيذية القوانين على هواهم، كما هو حادث الآن في الدولة المتخلفة، أو يخترع القضاة قوانين تتفق وأغراضهم، لكن هذا المعنى لا يوجد بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو معصوم من أن يحكم بالهوى، فلا خوف من أن يجمع صلى الله عليه وسلم بين السلطات الثلاث، لعصمة الله عز وجل لرسوله.
1 سورة المائدة، الآية:48.
2 سورة النساء، آية:65.
الدليل على أن الرسول كان يقضي في القضايا بنفسه:
مما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقضي في القضايا بنفسه ما رواه الإمام البخاري بسنده1 عن عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة، أخبرته أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال:"إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها"2.
ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن أم سلمة، زوج النبي -صلى الله عليه
1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص186.
2 قوله: "فليأخذها، أو ليتركها" الأمر فيه للتهديد، وليس لحقيقة التخيير، فهو كقوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، قال بعض العلماء: هو خطاب للمقضي له، ومعناه: إنه أعلم من نفسه، هل هو محق أو مبطل، فإن كان محقا فليأخذ، وإن كان مبطلًا فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه. فتح الباري.
وسلم، أنها قالت: جاء رجلان يختصمان في مواريث بينهما قد درست1، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض 2، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطامًا 3 في عنقه يوم القيامة" فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما إذن فقوما فاذهبا فلتقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه".
وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد إلى مكة4، وبعث معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب إلى اليمن، وفوض إليهما ولاية القضاء بين الناس. كل واحد منهما في جهة، روى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل، قال: لما بعثه الرسول إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بكتاب
1 درست أي: خفيت آثارها.
2 قال الباجي -أحد كبار علماء المالكية- عند توضيحه لجملة "ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض": يريد -والله أعلم- أن يكون أحدهما أعلم بمواقع الحجج، وأهدى إلى إيراد ما يحتاج من ذلك، وأشد تبيينا لما يحتج به. المنتقى للباجي، شرح موطأ مالك، ج5، ص185.
3 يقول ابن منظور: "الإسطام: القطعة من الشيء، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له سطاما من النار" أي: قطعة منها، ويروي إسطاما، وهما الحديدة التي تحرك بها النار وتسعر، أي: أقطع له ما يسعر به النار على نفسه ويشعلها، أو أقطع له نارا مسعرة.
انظر لسان العرب، المجلد الثالث، ص387.
4 أسيد، بفتح الهمزة وكسر السين، ابن أبي العيص بن عبد شمس القرشي، الأموي، أسلم يوم فتح مكة، وولاه النبي صلى الله عليه وسلم عليها بعد الفتح عندما سار إلى حنين، وكان عمره يومئذ نيفا وعشرين سنة، وبقي عليها إلى أن مات بها يوم أن بلغ نعي أبي بكر إلى مكة. تاريخ القضاء في الإسلام لمحمود بن محمد بن عرنوس، ص11.
الله، قال:"فإن لم تجد في كتاب الله "؟ ، قال: فبسنة رسول الله، قال:"فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله "؟، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله".
وروى الإمام أحمد، عن علي بن أبي طالب، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن، قال: قلت: تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث، ولا علم لي بالقضاء؟ قال:"إن الله سيهدي لسانك، ويثبت قلبك"، قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد1.
وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال عبد الله بن مسعود: لها مثل صداق نسائها. لا وكس2، ولا شطط3، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع4 بنت واشق، امرأة منا مثل ما قضيت، ففرح بها ابن مسعود، رواه أحمد والأربعة وهم أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الترمذي وحسنه5.
وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، أن الجدة جاءت إلى أبي بكر
1 مسند الإمام أحمد، ج2، ص26، 32، طبع دار المعارف، 1942.
2 بفتح وسكون الكاف، معناه: النقص، أي: لا ينقص مهرها عن مهر مثلها.
3 الشطط الجور، أي: لا يجار على الزوج بزيادة مهرها على نسائها.
4 بفتح الباء، وسكون الراء وفتح الواو.
5 سبل السلام، للصنعاني. ج2، ص150، الطبعة الرابعة.