الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى العدل باطنا وظاهرا:
إذا ثبتت عدالة شخص عند الحاكم سمي عدلا باطنا، وأما من لم تثبت عدالته عند الحاكم لكن ظاهره أنه يتصف بها فيسمى عدلا ظاهرا، فالعدالة الظاهرة تعرف بالمخالطة، والعدالة الباطنة تثبت بالتزكية عند الحاكم1. والعلماء يسمون
1 مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، ج3، ص145.
الذي يشهد أمام القاضي بعدالة الشهود أو ضدها مزكيا، وعندما يتكلم العلماء عن التزكية يبينون أن التزكية تفتقر إلى أن يكون المزكي عارفا من حال الشاهد ما يثبت عدالته، في ظاهر حاله وباطنه، فنرى بعضهم يصرح بأن المزكي يزكي الشاهد عند القاضي، إذا كان للمزكي معرفة بباطن الشاهد كمعرفته لظاهره، وصرح البعض بأن هذا يكون صحبه الصحبة الطويلة، وعامله بالأخذ والعطاء في الحضر والسفر.
كما بيّن العلماء أن الهفوات الصغيرة من الشخص لا تؤثر في تزكيته، قال بعض علماء المالكية: إنه لا يؤثر في ذلك أن يقارف بعض الذنوب كالأمر الخفيف من الزلة والفلتة، فمثل هذا لا يمنع كونه عدلا.
ونقل البعض عن الإمام مالك قوله: من الناس من لا تذكر عيوبهم يكون عيبه خفيفا، والأمر كله حسن، ولا يعصم أحد من أهل الصلاح1.
ويجب على القاضي عند الشافعي وغيره كأحمد، وأبي يوسف ومحمد، أن لا يقبل الشهادة إلا من الشخص الذي ثبتت عدالته، فإذا عرف عدالته قبل شهادته، وإذا عرف فسق الشاهد رد شهادته، ولا يحتاج إلى بحث عنه، كالشخص الذي انتشر خبر فسقه بين الناس.
وإذا لم يعرف القاضي عدالة الشاهد ولا فسقه سأل عنه، أي: سأل الناس الذين يعرفونه عن أحواله؛ لأن معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق، وهذا ما يراه الشافعي، ويراه أحمد في رواية عنه.
1 المنتقى، للباجي، شرح موطأ مالك، ج5، ص195.
وعن أحمد رواية أخرى تقول بصحة الحكم بشهادة من عرف إسلامه عملا بظاهر الحال، إلا أن يقول الخصم: هو فاسق، وكذلك يرى أبو حنيفة أنه يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم، إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل عن حال الشهود؛ لأنه يحتاط فيها ويحتال لإسقاطها، فيشترط الاستقصاء فيها؛ ولأنها تدرأ بالشبهات، ويرى مالك أن من كان مشهورا بالعدالة لا يسأل القاضي عنه، ومن عرف أنه غير عدل لا تقبل شهادته، وإنما يسأل القاضي عن الشاهد إذا شك في عدالته، وقد بين الحنفية أن الفتوى في مذهبهم على رأي أبي يوسف ومحمد في هذه المسألة.
وقد استدل لمن يكتفي بالعدالة الظاهرة بما يأتي:
أولا: الظاهر من المسلمين العدالة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه:"المسلمون عدول بعضهم على بعض" في كتابه الذي كتبه لأبي موسى الأشعري.
ثانيا: روي أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله" فقال: نعم، فقال:"أتشهد أني رسول الله"؟ قال: نعم، فصام، وأمر الناس بالصيام.
ووجه الدلالة واضح وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بشهادة الأعرابي بمجرد ثبوت أنه مسلم ولم يسأل عن عدالته.
ثالثا: العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله عز وجل، ودليل ذلك الإسلام، فإذا وجد فليكتف به إلا إذا قام الدليل على خلافه.
الاستدلال للرأي القائل بوجوب السؤال عن الشاهد:
استدل لهذا الرأي بأن العدالة شرط في الشاهد فوجب العلم بها كشرط الإسلام، فإن شرط الإسلام لا يكتفى فيه بظاهر الحال، وإنما لا بد أن نسأل عنه، ويؤيد هذا الحديث الذي ذكرناه قريبا، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الرجل عن إسلامه عندما جاء يشهد برؤية الهلال، فقال له عليه الصلاة والسلام:"أتشهد أن لا إله إلا الله"، فقال الرجل: نعم. فقال: "أتشهد أني رسول الله"؟ قال: نعم. فصام، وأمر الناس بالصيام.
وأجاب أصحاب هذا الرأي عن الاستدلال للرأي الآخر بحديث الأعرابي، بأن هذا الأعرابي المسلم كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه سلم، ثبتت عدالتهم بثناء الله تبارك وتعالى عليهم، قال الله تبارك وتعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. وقال تبارك وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ
1 سورة التوبة، الآية رقم:100.
بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 1.
وأيضًا فإن من ترك دينه الذي كان عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثارا لدين الإسلام وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته.
وأما قول عمر فيمكن أن يجاب عنه بأن المراد به أن الظاهر هو عدالة المسلمين، ولا يمنع ذلك وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه أتى بشاهدين، فقال لهما: لست أعرفكما، ولا يضركما إن لم أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما، فأتيأ برجل، فقال له عمر: تعرفهما؟ فقال: نعم، فقال عمر: صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا، قال عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم؟ قال: لا، قال: كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا، قال: يابن أخي لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما.
وهذا من عمر بحيث يدل على أنه لا يكتفي بدونه2.
معنى المزكي:
والعلماء -كما بينا سابقا- يسمون الذي يشهد بعدلة الشهود، أو ضدها مزكيا، ويرى بعض العلماء أن من المستحسن أن يتخذ القاضي مزكيا، أي: معدلا
1 سورة الحشر، الآيات، 8، 9، 10.
2 المغني، ج11، ص415، طبع دار الكتاب العربي ببيروت.
يشهد بعدالة الشاهد لشدة الحاجة إليه، ليعرف القاضي عن طريقه حال من يجهل حاله من الشهود؛ لأن القاضي لا يتيسر له البحث عنهم1.
شروط المزكي أو المعدل:
يشترط في المزكي الشروط التي تشترط في الشاهد؛ لأن التزكية شهادة بالعدالة، ويشترط فيه أيضًا زيادة على شروط الشاهد أن يكون عارفا بأسباب الجرح والتعديل، ويرى بعض العلماء أنه يجب عليه أن يذكر سبب الجرح، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأما سبب التعديل فلا يجب ذكره؛ لأن الأصل العدالة، فلا يقبل الجرح إلا مفسرا، كأن يقول مثلا: أشهد أنه فاسق؛ لأنه زنى، أو سرق، أو نحو ذلك، ولا يصير قاذفا بذكر الزنا حتى لو انفرد بهذا؛ لأنه مسئول فهو في حقه فرض كفاية أو فرض عين، بخلاف شهود الزنا إذا نقصوا عن الأربعة، فإنهم يعدون مرتكبين لجريمة القذف؛ لأن المطلوب منهم الستر.
ويرى بعض آخر أنه لا يجب ذكر سبب الجرح، وسنعود لهذه المسألة قريبا.
تعارض البينة في التجريح والتعديل:
إذا حدث خلاف على شاهد معين، فشهد اثنان بعدالته، وشهد اثنان آخران بعدم عدالته، فإنه يقدم شهود الجرح على شهود التعديل؛ لأن مع شهود الجرح زيادة علم، إلا إذا قال شهود التعديل إنه تاب من سبب الجرح، فيقدم حينئذ شهود التعديل؛ لأن معهم حينئذ زيادة علم على شهود الجرح2.
1 مغني المحتاج، ج4، 388.
2 الشرح الصغير للدردير ج5، ص37، مطبعة المدني، وحاشية قرة العيون "تكملة ابن عابدين" ج7، ص80، وفتح القدير لابن الهمام، ج7، ص377، 378.
وفي هذا المعنى يقول ابن السبكي أحد كبار فقهاء الشافعية: "من الكلمات الدائرة -في الفقه والأصول- أن الجرح مقدم على التعديل، لم يستثن أكثر الأصحاب من هذا إلا إذا قال المعدل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح لكنه تاب منه، وحسنت حالته، قالوا: فتقدم بينة التعديل؛ لأن معها زيادة علم. لكنهم وإن لم يصرحوا باستثناء عين هذه الصورة، فقد صرحوا بمأخذ المسألة الذي يدور معه حكم تقديم الجرح على التعديل والتعديل على الجرح، فإنهم قالوا -على اختلاف طبقاتهم- إن الجارح إنما قدم لما عنده من الزيادة على ما خفي على المعدل؛ وذلك لأن المعدل يبني على ما هو الأصل الظاهر من حال المسلم، والجارح اطلع على ما نسخ ذلك الأصل ونقل عنه"1.
هل يقبل الجرح والتعديل من واحد:
العلماء في هذا على رأيين:
الأول: يرى أنه يقبل الجرح والتعديل من واحد، وهو ما يراه أبو حنيفة، ورواية عن أحمد، واختاره بعض فقهاء الحنابلة.
الثاني: يرى أنه لا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين على الأقل، وهو ما يراه مالك والشافعي، وجمهور فقهاء الحنابلة، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وابن المنذر.
وقد استدل للرأي القائل بقبول الجرح والتعديل من واحد بأن الجرح أو التعديل خبر لا يعتبر فيه لفظ الشهادة، فيكون مقبولا من واحد، كما هو الحال في رواية الحديث، فإنها تقبل من الواحد.
وأما الرأي القائل بعدم قبول الجرح والتعديل إلا من اثنين فقد استدل له بأن الجرح أو التعديل إثبات صفة ممن يبني القاضي حكمه على صفته، فاعتبر فيه العدد كالشهادة.
وقد رد أصحاب هذا الرأي على الاستدلال للرأي المقابل بقياس الجرح والتعديل على رواية الحديث، بأن الجرح والتعديل يخالف الرواية، فإنها مبنية على المساهلة، ولذلك قبلت من الواحد، ولم يسلموا بأن الجرح والتعديل لا يحتاج إلى لفظ الشهادة، وقالوا: بل يجب لفظ الشهادة فيهما2.
1 الأشباه والنظائر، لابن السبكي، ج1، ص444.
2 المغني، ج11، ص421، ومغني المحتاج، ج4، ص388، والاختيار لتعليل المختار، ج2، ص198.