الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسيلة التاسعة من وسائل الإثبات: القرعة
يبين العلماء أن القرعة من طرق الأحكام، قال بذلك الأئمة الأربعة، ويؤيد هذا الرأي أن الله تبارك وتعالى أخبر بها عن أنبيائه، مقررا لحكمها، غير ذام لها، وفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده، قال عز وجل:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 1، قال قتادة: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم، فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا عليها بسهامهم، أيهم يكفلها، فقرع زكريا وكان زوج أختها، فضمها إليه.
وقال تبارك وتعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} 2، أي: فقارع فكان من المغلوبين، أي: وقعت القرعة عليه.
فهذا هو شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يوجد في شريعتنا ما يلغيه3.
وإذا انتقلنا إلى السنة وجدنا فيها ما يؤكد ذلك أيضًا، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم
1 سورة آل عمران، الآية رقم:44.
2 سورة الصافات، الآية رقم:131.
3 المراد بشرع من قبلنا الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمم السابقة بواسطة رسله عليهم الصلاة والسلام الذين أرسلهم إلى هذه الأمم، كسيدنا إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام.
الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا".
وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه".
وفي الصحيحين عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما، لم تكن لهما إلا دعواهما، فقال:"إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن 1 بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار" ورواه أبو داود في السنن، وفيه: فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:"أما 2 إذ فعلتما ما فعلتما، فاقتسما وتوخيا الحق 3، ثم استهما 4، ثم تحالا".
فالسنة إذن قد جاءت بالقرعة، كما جاء بها القرآن الكريم، وفعلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال البخاري في صحيحه: "ويذكر أن قوما
1 ألحن: أي: أفطن وأعرف، ويجوز أن يكون معناه: أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا فربما جاء بعبارة تخيل إلى السامع أنه محق، وهو في الحقيقة مبطل، والأظهر أن يكون معناه أبلغ، كما في رواية في الصحيحين أي: أحسن إيرادا للكلام. نيل الأوطار، ج5، ص377.
2 أما بتخفيف الميم، قال بعض العلماء: يحتمل أن تكون بمعنى حقا وكلمة إذ تفيد التعليل. نيل الأوطار، ج5، ص377.
3 توخيا الحق، أي: اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة.
4 استهما: أي: ليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من القسمة ليتميز سهم كل واحد منكما عن الآخر.
اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد"1.
حجة المبطلين للقرعة:
خالف البعض فلم يعدوا القرعة طريقا من طرق الأحكام، وقلوا إن القرعة قمار وميسر، وقد حرمه الله في سورة المائدة وهي من أواخر القرآن نزولا، وإنما كانت مشروعة قبل ذلك.
مناقشة هذا الدليل:
نجيب عن هذا بأن الله ورسوله شرعا القرعة، فأخبر الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه مقررا لحكمها غير ذام لها، وفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن بعده، وقد صانهم الله سبحانه وتعالى عن القمار بكل طريق، فلم يبح الله عز وجل لعباده القمار قط، ولا جاء به نبي أصلا2.
موضع القرعة:
قال العلماء: متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره؛ لأن القرعة حينئذ ضياع ذلك الحق المعين والمصلحة المتعينة، ومتى تساوت الحقوق والمصالح فهذا هو موضع القرعة عند التنازع دفعا للضغائن والأحقاد، والرضا بما جرت به الأقدار3.
1 روي أنه تشاح الناس يوم القادسية في الأذان، فأقرع بينهم سعد بن أبي وقاص.
2 الطرق الحكمية، ص335 وما بعدها.
3 تبصرة الحكام، ج2، ص106.