الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تغليظ الحلف بالمكان والزمان:
العلماء مختلفون في تغليظ الحلف بالمكان والزمان هل يجوز للحاكم أم لا؟ على أربعة آراء:
الرأي الأول: ما يراه جمهور العلماء، وهو وجوب التغليظ في الزمان والمكان، وعندهم أن التغليظ على الحالف إذا كان في المدينة أن يكون الحلف على المنبر، وإذا كان الحالف في مكة فالتغليظ عليه أن يحلف بين الركن والمقام، وأما في غير مكة والمدينة فالتغليظ يكون فيها المسجد الجامع.
هذا ما يختص بالتغليظ بالمكان عند الجمهور، وأما التغليظ في الزمان فكأنهم يقولون ينظر إلى الأوقات الفاضلة، مثل: بعد العصر، وليلة الجمعة، ويومها وما ماثل هذا.
الرأي الثاني: لا تغليظ في الزمان ولا في المكان، وهذا ما يراه الحنفية والحنابلة، والهادوية من فقهاء الزيدية، قال أصحاب هذا الرأي: ولا يجب على الحالف أن يجيب الحاكم إلى ذلك.
الرأي الثالث: تغليظ الحلف بالمكان والزمان مستحب وليس واجبا، وهو ما يراه بعض العلماء.
الرأي الرابع: أن هذا متروك للحاكم واجتهاده، فإذا رأى أن التغليظ بالزمان أو المكان حسن ألزم الشخص به، وإلا تركه.
ما استدل به الجمهور:
استدل الجمهور بما يأتي:
أولا: ما رواه جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار" رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وصححه ابن حبان.
ثانيا: ما روي أن عمر، وعثمان، وابن عباس، وغيرهم من السلف فعلوا ذلك.
ثالثا: استدلوا للتغليظ بالزمن بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} قال المفسرون: هي صلاة العصر.
ما استدل به الحنفية ومن معهم:
استدل الحنفية ومن وافقهم بإطلاق أحاديث: "اليمين على المدعى عليه"
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه"1.
هذا، ولم أطلع على دليل للرأيين الثالث والرابع.
الكافر يحلف أيضا:
بيّن العلماء أن الكافر يحلف أيضًا وهذا يدل على عظم اليمين، وعظم الجرم عند الحديث فيها، يقول الصنعاني أحد كبار علماء الحديث والفقه عن اليمين:"يعظم شأنها، فإنها إشهاد لله سبحانه أن الحقيقة كما يقول، ولو كان الأمر على خلاف الدعوى لكان مفتريا على الله أنه يعلم صدقه، فلما كانت بهذه المنزلة العظيمة هابها المؤمن بإيمانه وعظمة شأن الله عنده أن يحلف كاذبا، وهابها الفاجر لما يراه من تعجيل عقوبة الله لمن حلف يمينا فاجرة"2 ا. هـ.
فليحذر المسلمون الذين يتجرءون على الحنث بالأيمان أن يصيبهم غضب الله تعالى، والأصل في هذا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حلّف ابن صوريا، اليهودي على حكم الزنا في التوراة، فقال له صلى الله عليه وسلم:"أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى".
تغليظ اليمين على غير المسلمين:
وتغليظ اليمين على اليهودي -كما قال العلماء- أن يحلفه القاضي بالله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق، وتغليظها على النصراني بأن يحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وتغليظها على المجوسي والوثني بأن يحلفه بالله الذي خلقه وصوره.
1 أدب القضاء لابن أبي الدم، ج1، ص554، تحقيق ودراسة الدكتور محيي هلال السرحان.
2 سبل السلام، للصنعاني ج4، ص131.
هل يحلف القاضي من لا يعتقد بوجود الله تعالى:
بيّن العلماء أن القاضي يحلّف الدهري أيضا، وهو من لا يعتقد خالقا ولا معبودا، كالشيوعيين، فيحلفه بالله الخالق الرازق، وأجابوا على سؤال يمكن أن يثار هنا، وهو أن الدهري لا ينزجر باليمين فلما فائدة تحليفه؟ قالوا: إن في تحليفه فائدتين:
إحداهما: إجراء حكم المسلمين عليهم، فالله تبارك وتعالى يقول:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .
الثانية: أن يزداد بهذا اليمين إثما، ويدركه شؤمها، فربما يتعجل بها انتقام الله عز وجل1، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يمين الغموس تدع الديار بلاقع"2. وهو حديث رواه أبو حنيفة من حديث أبي هريرة، ولفظه "تذر" بدل "تدع"، وأخرجه أبو داود، والبيهقي وقالا عنه: إنه مشهور بالإرسال، ورواه عبد الرزاق مرسلان ومعضلا3.
1 المصدر السابق، ج1، ص548.
2 البلقع والبلقعة: الأرض القفر التي لا شيء عليها.
3 المقدمة السلطانية في السياسة الشرعية، لطوغان شيخ المحمدي الأحمدي من علماء الحنفية في القرن التاسع الهجري، وهي موضوع رسالة ماجستير مقدمة من يوسف صديق إسماعيل، إلى كلية الشريعة والقانون بالقاهرة، مكتوبة بالآلة الكاتبة، ص323، 324. ومعنى الحديث المرسل، ما سقط منه الصحابي بأن يرفعه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن يقول التابعي كالحسن البصري مثلا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور المحدثين يرون أن المرسل من أنواع الأحاديث الضعيفة، وأما الفقهاء فبعضهم يوافق جمهور علماء الحديث كالإمام الشافعي، وكثير من الفقهاء والأصوليين، وبعضهم يحتج بالحديث المرسل كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، وقول عن الإمام أحمد، وبعض أهل العلم.
وأما الحديث المعضل فهو ما سقط من رواته راويان متتاليان أو أكثر سواء كان السقوط حقيقيا أم حكميا، والسقوط الحقيقي كإرسال تابع التابعي، وكأن يقول بعض المؤلفين في الفقه الإسلامي في القرن الثاني الهجري وما بعده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه يوجد راويان فأكثر بين هؤلاء المؤلفين ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما السقوط الحكمي فيتحقق بوجود راويين مبهمين متواليين. انظر المختصر الوجيز في علوم الحديث للدكتور محمد عجاج الخطيب، ص151، 152 مؤسسة الرسالة.
تعتبر في اليمين نية القاضي:
قال العلماء إن نية القاضي المستحلف للخصم هي التي تعتبر، سواء أكان الخصم موافقا للقاضي في مذهبه أم لا، لحديث:"اليمين على نية المستحلف". وفي رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك"، فهذا دليل على أن اليمين على نية الذي يقوم بالتحليف ولا ينفع فيها نية الحالف إذا كان ينوي بها نية أخرى تخالف ما أظهره1. رواه الإمام مسلم2.
والمعنى في هذا أنه لو كانت نية الحلف هي المعتبرة لأدى ذلك إلى بطلان فائدة الأيمان وضاعت الحقوق؛ لأن كل واحد يحلف على ما يقصده هو لا ما يقصده القاضي، فلو ادعى مثلا حنفي على شافعي شفعة الجوار -والقاضي يعتقد أن للجار حق الشفعة كما هو مذهب الحنفية- فليس للمدعى عليه أن يحلف على أنه غير مستحق لها عملا باعتقاده هو؛ لأنه شافعي، والشافعية يرون أن الشفعة للشريك فقط لا للجار، بل يجب عليه اتباع القاضي.
وعلى هذا فلو ورى الحالف في يمينه بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليفه، كقوله والله لا يستحق علي دينارا ولا درهما ولا أقل من ذلك ولا أكثر، وكان يقصد دينارا ودرهما لدولة أخرى غير الدولة التي تعاملا بدنانيرها أو دراهمها، أو تأول بأن اعتقد الحالف خلاف نية القاضي كحنفي حلف شافعيا على شفعة الجوار، فحلف الشافعي أنه لا يستحقها عليه، فإن ذلك لا يدفع إثم اليمين الفاجرة؛ لأن اليمين إنما شرعت لكي يهاب الخصم الإقدام عليها خوفا من الله تبارك وتعالى، فلو صح تأويله لأدى ذلك إلى بطلان هذه الفائدة؛ لأن كل شيء
1 سبل السلام، ج4، ص102.
2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص102
قابل للتأويل في اللغة.
وبيّن العلماء أن إثم الحالف إذا فعل هذا مقيد بأمرين:
الأمر الأول: أن يكون الحلف بالله تعالى، فإن كان القاضي قد حلفه بالطلاق أو العتاق، لحلف وورى نفعته التورية، وإن كانت حراما؛ لأنه يبطل بها حق المستحق، لأن القاضي ليس له حق التحليف بالطلاق والعتاق كما يرى ذلك النووي من فقهاء الشافعية المشهورين والمحدثين.
الأمر الثاني: أن لا يكون خصمه ظالما في نفس الأمر، ومثل العلماء لهذا بما لو كان عنده وديعة لإنسان، فأراد ظالم أخذ هذه الوديعة منه، فأنكر أن عنده وديعة، فإن اكتفى الظالم بيمينه قال العلماء فليحلف ولا إثم عليه1.
لا يستحلف القاضي أحدا بالطلاق:
قال الماوردي أحد كبار فقهاء الشافعية وغيره إنه لا يجوز للقاضي أن يحلف أحدا بطلاق، أو عتق، أو نذر، وقال الشافعي رضي الله عنه: متى بلغ الإمام "رئيس الدولة" أن قاضيا يستحلف الناس بطلاق، أو عتق، أو نذر عزله عن الحكم؛ لأنه جاهل، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من أهل العلم يرى الاستحلاف بذلك2.
فوائد اليمين:
لليمين عدة فوائد، منها:
1 مغني المحتاج، ج4، ص475.
2 حاشية الجمل على شرح المنهج، ج3، ص427.
1-
تخويف المدعى عليه سوء عاقبة الحلف الكاذب، فيحمله ذلك على الإقرار بالحق.
2-
القضاء عليه إذا نكل عنها.
3-
انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، وتخليص كل من الخصمين من ملازمة الآخر.
اليمين لا تسقط الحق:
ولكن اليمين لا تسقط الحق، ولا تبرئ الذمة، لا باطنا ولا ظاهرا، أي: لا بينه وبين الله تبارك وتعالى، ولا أمام القضاء لما رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا بعد ما حلف بالخروج من حق صاحبه" كأنه صلى الله عليه وسلم علم كذبه، فلو أقام المدعي بينة بعد حلف المدعى عليه سمعت وقضى القاضي بها لقوله صلى الله عليه وسلم:"البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة" رواه البخاري.
4-
إثبات الحق بها إذا ردت على المدعي، أو أقام شاهدا واحدا كما يرى ذلك بعض العلماء.
5-
تعجيل عقوبة الكاذب المنكر لما عليه من الحق في الدنيا، فإن اليمين الغموس تدع الديار بلاقع1، فيشتفي المظلوم بذلك عوض ما ظلمه بإضاعة حقه2.
1 في مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: "البلقع، والبلقعة": الأرض القفر التي لا شيء فيها، يقال اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع، قلت: هو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" ا. هـ. مختار الصحاح.
2 الطرق الحكمية لابن القيم، ص133، ومغني المحتاج، ج4، ص477.
ما يصح الاستحلاف فيه وما لا يصح:
تنقسم الحقوق إلى قسمين:
القسم الأول: حقوق الله تعالى.
القسم الثاني: حقوق الآدميين.
وتنقسم حقوق الله تعالى إلى قسمين:
أحدهما: الحدود، أي: العقوبات المقدرة حقا لله تعالى، وهذا القسم تشرع فيه اليمين، قال ابن قدامة، لا نعلم في هذا خلافا؛ لأن المطلوب في الحدود الستر، والتعريض لمن أقر بها لكي يرجع عن إقراره، كما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لماعز عندما جاءه واعترف بالزنا، فيكون عدم الاستحلاف فيها أولى.
أي: إنه إذا كان من الجائز صحة رجوع المقر عن إقراره في الحدود، فيكون أولى عدم استحلاف من لم يقم عله بينة ولم يحصل منه إقرار.
القسم الثاني: الحقوق المالية، كدعوى الزكاة على رب المال، وأن الحول قد تم وكمل النصاب، ففي هذه اختلف العلماء، فيرى أحمد بن حنبل أن القول قول رب المال من غير يمين، ولا يستحلف الناس على صدقاتهم؛ لأنها حق الله فأشبهت الحدود؛ ولأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة.
ويرى الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد استحلاف رب المال؛ لأنها دعوى مسموعة أشبه بحق الآدمي، وبما أن حقوق الآدميين يجري فيها الاستحلاف فكذلك الزكاة.
إذا تضمنت الدعوى في الحدود حقا لآدمي:
وبين العلماء أن الدعوى في الحدود إذا تضمنت حقا للآدمي، كما لو ادعي عليه سرقة ماله ليضمن السارق أن يأخذ منه ما سرقه، أو ادعي عليه الزنا بجاريته ليأخذ منه مهرها، فإن الدعوى تسمع ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى.
فإذا ادعي على شخص سرقة مال ولا توجد بينة، فإن القاضي يوجه اليمين إلى المتهم بالسرقة فإذا لم يحلف ثبت عليه المال المسروق صيانة لحق الإنسان، ولم يثبت حد السرقة؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهي أيضًا مبنية على الستر.
وكذلك لو ادعي على شخص أنه زنا بجارية ولا توجد بينة، فإن القاضي يطالبه باليمين، فإذا امتنع من اليمين ألزمه القاضي بمهر الجارية، ولم يثبت حد الزنا لدرء الحدود بالشبهات؛ ولأنها مبنية على الستر كما بينا.