الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الويسيلة الرابعة: يمين المدعي مع الشاهد
…
الوسيلة الرابعة: يمين المدعي
مع الشاهد، قد لا يتيسر للمدعي شاهدان يشهدان له بالحق المدعى، فيكون معه شاهد واحد، وقد يحدث أن يتحقق وجود شاهدين فيموت أحدهما، أو يتعذر حضوره والاتصال به، فهل يصح في مثل هذا أن يحلف المدعي، فيحكم له القاضي بالحق الذي يدعيه بناء على يمينه مع الشاهد الواحد، أم أنه لا يصح الحكم بالشاهد ويمين المدعي؟.
العلماء في هذه المسألة على رأيين:
أحدهما: ما يراه جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم أن القاضي يصح له أن يقضي بشاهد ويمين المدعي.
ومن هؤلاء أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن حزم الظاهري، والإمامية، والزيدية.
الرأي الثاني: ما يراه أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف، ومحمد، وزفر، وزيد بن علي، والشعبي، والحكم، والأوزاعي، والليث بن سعد، وبعض أصحاب مالك، أنه لا يحكم بشاهد ويمين في شيء من الأحكام1.
1 صحيح مسلم، بشرح النووي، ج12، ص4، وبداءة المجتهد، ج2، ص501، والمدونة الكبرى، رواية سحنون عن ابن القاسم، عن الإمام مالك بن أنس، ج12، ص183، والأم للإمام الشافعي ج6، ص254، ونهاية المحتاج للرملي، ج8، ص296، والمغني لابن قدامة، ج12، ص10، والمحلى لابن حزم، ج10، ص481، والروض النضير، ج4، ص103، والبحر الزخار، لأحمد بن يحيى المرتضى، ج5، ص403، وبدائع الصنائع، للكاساني، ج8، ص3924، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، ج4، ص294، وحاشية ابن عابدين، ج2، ص401، وسبل السلام للصنعاني، ج4، ص131.
دليل الرأي الأول:
استدل للرأي القائل بصحة القضاء بالشاهد ويمين المدعي بحديث عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد، رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه1، والنسائي، وقال: إسناده جيد2، وفي رواية: قال عمرو، في الأموال.
وعن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد. رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه3.
وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد، ويمين صاحب الحق، وقضى به أمير المؤمنين علي بالعراق، رواه أحمد، والدراقطني4.
أدلة الرأي الثاني:
المصادر التي اطلعت عليها تبين الأدلة التي اعتمد عليها الحنفية فيما يرونه في مسألة القضاء بالشاهد ويمين المدعي، لكننا لم نجد أدلة مستقلة للمشاركين لأبي حنيفة في الرأي، كالشعبي، والحكم، والأوزاعي، والليث بن سعد، وغير هؤلاء ممن ذكرناهم مع أبي حنيفة عند حكاية الآراء، كما لم يجد من سبقني في الكتابة
1 سنن ابن ماجه، ج2، ص793.
2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص131.
3 سنن الترمذي، ج6، ص618.
4 سنن الدراقطني، ج4، ص212.
في هذه المسألة من الباحثين المحدثين -فيما أعلم-1 أدلة لغير أبي حنيفة.
وعلى هذا سنذكر أدلة الحنفية باعتبارها مستندا لهم ولغيرهم من الذين يشاركونهم الرأي في هذه المسألة، استدل الحنفية لرأيهم القائل بعدم صحة القضاء الشاهد واليمين بالقرآن الكريم، والسنة الشريفة.
الدليل الأول من القرآن:
قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2 وجه الاستدلال بهذه الآية، أن هذه الآية الكريمة جاءت في مقام بيان كيفية الشهادة، واقتصرت على ذكل صورتين فقط للشهادة، فالحاصل أن الله تبارك وتعالى اقتصر في مقام البيان على شهادة الرجلين، والرجل والمرأتين، والاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، فكأن الحق تبارك وتعالى قال: لا تستشهدوا بغيرهم فإذا قيل بصحة القضاء بالشاهد واليمين فإن هذا يكون منافيا للحصر، ويكون زيادة على القرآن بحديث مروي بطريق الآحاد، والزيادة على القرآن نسخ له، ولا يصح نسخ القرآن بالسنة الآحادية؛ لأن القرآن متواتر فهو قطعي الثبوت، وخبر الآحاد ظني الثبوت، فلا ينسخ المتواتر الذي هو قطعي الثبوت، ولا تقبل الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان
1 ممن سبقني في الكتابة من المحدثين أستاذنا الدكتور أحمد عبد المنعم البهي في كتابه: من طرق الإثبات في الشريعة الإسلامية وفي القانون. ص23.
2 سورة البقرة، الآية رقم 282.
الخبر بها متواترا، أو مشهورا على الأقل1.
مناقشة الاستدلال:
أجيب على هذا الاستدلال بما يأتي:
أولا: إننا نسلم بأن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، ولكنه يفيده بطريق المفهوم، والمفهوم عند الحنفية من قبيل المسكوت عنه، فلا دلالة فيه على النفي.
ولو سلمنا أن المفهوم هنا معمول به كالمنطوق، فإن القاعدة أن المفهوم إذا عارضه منطوق فإنه يقدم المنطوق على المفهوم، وهنا في مسألتنا هذه قد عارض المفهوم منطوق حديث: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد2.
ثانيا: إن أبا حنيفة وأصحابه يرون أن نكول المدعى عليه -أي: امتناعه من اليمين- يوجب أن يقضي القاضي عليه بنفس النكول، وهذا قسم ثالث ليس له ذكر في الآية الكريمة، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
1 يقسم الحنفية الحديث إلى متواتر وآحاد، ومشهور، ويقسم غيرهم الحديث إلى نوعين فقط هما: المتواتر والآحاد.
ويعرف المتواتر بأنه ما روي من طريق تحيل العادة توافق رواته على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث الآحادي هو ما روي من طريق لا تحيل العادة توافق رواته على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحنفية يجعلون المشهور قسما وسطا بين المتواتر والآحاد، ويعرف بأنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الآحاد، واشتهر في عصر التابعين أو تابعي التابعين، فالحديث المشهور كان أولا مرويا بطريق الآحاد، ثم اشتهر في العصر الثاني أو الثالث وتلقته الأمة بالقبول، وصار كالمتواتر، وذلك مثل حديث المسح على الخف، وحديث الرجم في عقوبة الزاني المحصن، أي: المتزوج.
2 منهاج الطالب في المقارة بين المذاهب، لأستاذنا الدكتور عبد السميع إمام، ص227.
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، بل وليس له ذكر في القرآن الكريم ليدل عليه1.
ثالثا: الحديث لم ينسخ الآية، بل خصص عمومها، وتخصيص القرآن بالسنة جائز، وكذلك الزيادة عليه، كما في قوله تبارك وتعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بعد أن ذكر سبحانه وتعالى المحرمات من النساء في الزواج، مع أن الزواج بالعمة مع بنت أخيها محرم بالإجماع، وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعا: أن الحنفية ردوا الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على ما في القرآن، مع أنهم أخذوا بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة، كلها زئدة على ما في القرآن كالوضوء بالنبيذ، ونقض الوضوء بالقيء، ونقضه بالقهقهة في الصلاة، وشهادة المرأة الواحدة في الولادة، ولا قود إلا بالسيف، ولا تقطع الأيدي في الغزو، ولا يرث الكافر المسلم، ولا يؤكل الطافي من السمك، ويحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، ولا يقتل الوالد بالولد، ولا يرث القاتل، وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب.
الرد على المناقشة:
أجاب الحنفية بأن الأحاديث الواردة في هذه المواضع المذكورة أحاديث مشهورة، فوجب العمل بها لشهرتها.
1 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الأول ص253.
رد المخالفين عليهم:
رد المخالفون بأن أحاديث القضاء بالشاهد واليمين رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرين صحابيا، وفيها ما هو صحيح، فأي شهرة تزيد على هذه الشهرة؟ 1.
الدليل الثاني: السنة
وأما ما استند إليه القائلون بعدم صحة القضاء بالشاهد واليمين من السنة، فما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر" رواه البيهقي، وروى ابن حبان نحوه عن ابن عمر.
وروى الترمذي نحوه أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده2.
واستدلوا أيضًا من السنة بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل جاء يدعي على آخر دعوى: "شاهداك أو يمينه"3.
وجه الدلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول حصر اليمين في المنكر، أي: المدعى عليه، فلو كان للمدعي يمين أيضًا لما كان الحصر صحيحا.
1 نيل الأوطار، للشوكاني، ج9، ص190، وما بعدها.
2 نيل الأوطار، ج9، ص220.
3 روى البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "شاهداك أو يمينه"، صحيح البخاري، ج10، ص231، ونيل الأوطار، ج9، ص216.
وأما في الحديث الثاني فقد خير رسول الله صلى الله عليه وسلم المدعي بين أمرين لا ثالث لهما، وهما شاهدان للمدعي، أو يمين المدعى عليه، فإذا قيل بأن للمدعي الحق في اليمين مع شاهد فإن هذا ينافي التخيير؛ لأن هذا أمر ثالث لم يذكره الحديث مع أنه ورد في مقام البيان، والاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، لو كان هناك طريق آخر لإثبات الحق، لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن يقول: شاهداك، أو يمينه، أو شاهدك ويمينك، وغير ذلك، ولكن الحديث حصر إثبات الحق بشاهدي المدعي، أو يمين المدعى عليه.
فالتخيير كان بين أمرين فقط، فما زاد على ذلك كان منافيا للتخيير فلا يصح.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجيب عن هذا الاستدلال بأن معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" معنى عام، ويتناول كل أنواع البينة، وهي تصدق بشاهدين، وشاهد ويمين؛ لأن اليمن يسمى في عرف الشرع شهادة، يؤيد هذا قول الله تبارك وتعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ، أي: أربعة أيمان يقسمها الذي يتهم زوجته بجريمة الزنا، وليس معه شهود يشهدون على هذه الجريمة.
وأيضًا فإن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر" يحمل على ما إذا لم يكن مع المدعي أصل الشهادة، ولا خلاف في هذا.
وأما تخيير الرسول صلى الله عليه وسلم للمدعي بين الشاهدين، ويمين المدعى عليه، فمحمول كذلك على أن المدعي لم يكن معه أصل الشهادة، فكان التخيير بين أن يأتي بالشهادة التي تصدق بشاهد ويمين، وبين يمين المدعى عليه.
وبهذا يتبين أنه لا تعارض بين حديث القضاء بشاهد ويمين وبين الأحاديث التي يوهم ظاهرها أنها تعارضه.
الرأي الراجح:
الرأي القائل بصحة القضاء بالشاهد ويمين المدعي في الأموال هو الأولى بالقبول، لثبوت الحديث الذي يفيد هذا، ولضعف استدلال الحنفية ومن معهم؛ ولأن القول بصحة القضاء بالشاهد مع يمين المدعي يتفق مع روح التشريع الإسلامي، إذ إنه في بعض الأحايين يكون للمدعي شاهدان، فيموت أحدهما، أو يكون غائبا لا يتوصل إلى شهادته بسهولة، أو يكون قد طرأ له ما يمنعه من أداء الشهادة كالجنون، فإذا لم يقض القاضي له بالحق المدعى بالشاهد الواحد الباقي مع يمينه فإن هذا يؤدي إلى ضياع الكثير من حقوق الناس، مع وجود الظن بثبوت هذه الحقوق، والشريعة تعتبر الظنون في كثير من الأحايين وشهادة الشاهد الواحد تفيد ظنا ما بثبوت الحق؛ لأن الشاهد متصف بالعدالة، والعدالة مانعة له من الكذب، فإذا تأكدت شهادته بيمين المدعي حصل الظن الغالب بثبوت الحق1.
فالأخذ برأي الحنفية -إذن- يؤدي إلى التضييق على الناس في الحصول على الحقوق، وهذا يعد في ذاته ضررا، والشريعة الإسلامية حرمت الإضرار بالنفس أو بالغير، فضلا عما في الأخذ برأي الجمهور من تبسيط إجراءات التقاضي، وإيصال الحقوق إلى أصحابها بأبسط الطرق وأسهلها ما دام ذلك لا يتعارض مع
1 منهاج الطالب في المقارنة بين المذاهب، للدكتور عبد السميع إمام، ص228-232.
نص شرعي أو قاعدة عامة أتت بها شريعة الإسلام، ومن الملاحظ أن القوانين الوضعية قد أخذت بهذا الحكم وهو جواز سماع الشاهد وتحليف المدعي اليمين إذا عجز عن تقديم البينة الكاملة.
هذا، ومع أن جمهور العلماء -كما بينا- يرون أن الشاهد واليمين وسيلة من وسائل الإثبات، فإنهم مختلفون في مجال القضاء بالشاهد واليمين، ففقهاء المدينة، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأحمد يرون أن الشاهد واليمين لا يكون وسيلة من وسائل الإثبات إلا في الأموال، وما يئول إلى الأموال1. ويرى ابن حزم أنهما وسيلة من وسائل الإثبات في كل الحقوق ما عدا الحدود2.
ومن أدلة أصحاب الرأي الأول ما أخرجه الشافعي عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد، قال عمرو: في الأموال"، وما أخرجه البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه "أن رسول
1 العلماء يختلفون في ما يئول إلى المال باختلاف نظرتهم إليه، فمع أنهم اتفقوا على أيلولة بعض المسائل إلى المال، كالهبة، والإجارة، والشفعة، والحوالة، فإنهم اختلفوا في جراح العمد، فيرى مالك أنها مما يئول إلى المال؛ لأنها تئول إليه إذا تصالح الطرفان، يجوز أن يحكم فيها بالشاهد واليمين، وأما الشافعي، وأحمد فيخالفانه في هذا ويريان ترجيح جانب القصاص على جانب المال، ولهذا لم يجوزا القضاء فيها بالشاهد واليمين، ويرى بعض الباحثين أن العلماء أن العلماء ليس عندهم ضابط معين تندرج تحته المسائل التي تئول إلى المال عندهم، ولكل منهم نظر خاص في اندراج الجزئيات تحت القاعدة العامة، ولهذا يتفقون في بعض الحالات، ويختلفون في البعض الآخر عند كلامهم عما يئول إلى المال. انظر: من طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص39.
2 المحلى، لابن حزم، ج9، ص396.
الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد، يعني في الأموال"، وفي سنن أبي داود1 أنه قال سلمة في حديثه: قال عمرو في "الحقوق" يريد أن عمرو بن دينار الذي روى هذا الحديث عن ابن عباس، خص الحكم بالشاهد واليمين بالحقوق، قال الخطابي: "وهذا خاص بالأموال دون غيرها، فإن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يتعدى به محله، ولا يقاس عليه غيره، واقتضاء العموم منه غير جائز؛ لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له. ا. هـ.
قالوا: ولأنه ثبت من القرآن الكريم أنه لا يقبل في الرجعة أقل من شاهدين، قال تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على خلاف العلماء في الشهادة على الرجعة، هل هي واجبة أو مستحبة، لكن لو حدثت الشهادة فلا بد فيها من شاهدين، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تفيد أن الزواج لا يصح إلا بحضور شاهدين. وهذه الأحاديث وإن كان قد قيل إن بعضها ضعيف، أو إن رفعه ضعيف، فإن العلماء قالوا إنها مع ذلك تصلح دليلا على وجوب شاهدين على عقد الزواج؛ لأن بعضها -في رأيهم- يقوي بعضا قالوا: فيقاس على الرجعة والزواج جميع الأمور التي اشترطنا فيها الشاهدين، بجامع أنها ليست مالا ولا يقصد منها المال.
وقالوا إن الزواج والطلاق والعتق كل منها حق يتعلق بجميع البدن كالقصاص في القتل، فلا يثبت باليمين مع الشاهد.
وأما ابن حزم فيرى أن الأخبار التي جاءت في هذه المسألة -أي: مسألة القضاء بشاهد ويمين- جاءت عامة، ولم يأت شيء من الأخبار يخصص العموم، وأما الحدود فليس لها مطالب إلا الله عز وجل، ولذلك فليس من المتصور أن يقضي فيها بالشاهد مع يمين المستحق2.
وفي ختام هذه المسألة نحب أن نبين أن مالكا والشافعي رضي الله عنهما اختلفا في جواز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي، فيرى مالك جواز ذلك، فكما جاز عنده الحكم بالشاهد ويمين المدعي، يجوز بدل الشاهد امرأتان مع يمين المدعي، وأما الشافعي فلا يرى جواز ذلك3.
1 نقلا عن سبل السلام للصنعاني، ج4، ص132.
2 المحلى لابن حزم، ص9، ومن طرق الإثبات للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص40، 41.
3 أدب القاضي، لابن القاص، ج1، ص302.