الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض:
يحسن هنا قبل حكاية آراء العلماء في هذه المسألة أن نبين أن كل من لا يدين بدين الإسلام يعد كافرا، سواء أكان يدين بدين سماوي سابق للإسلام كاليهودية أو النصرانية، أو لا يدين بدين سماوي بل بدين من الأديان التي اخترعها البشر كالهندوسية، والبوذية وغيرهما أو لا يدين بأي دين، لا سماوي ولا غيره كالشيوعيين ومن لا يعتقدون في أي دين. قال الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقد سمى الله تبارك وتعالى الكتابيين والمشركين كفارا في قوله عز وجل:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} . وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} .
وإذا ما وضح هذا نقول: للعلماء في هذه المسألة ثلاثة آراء:
الرأي الأول: لا تجوز شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض ولو كانوا أتباع ملة واحدة، كشهادة النصراني على النصراني، واليهودي على اليهودي، وهذا الرأي يراه الشافعي رضي الله عنه، وهو الرواية القوية عن أحمد.
الرأي الثاني: تجوز شهادة بعضهم على بعض، ولو كانوا أتباع ملل مختلفة،
ونقل هذا الرأي عن نافع مولى ابن عمر، والشعبي، والزهري، في إحدى روايتين، ويراه شريح، وأبو حنيفة وأصحابه، وعمر بن عبد العزيز.
الرأي الثالث: لا تجوز شهادتهم على بعضهم إلا إذا كانوا أتباع ملة واحدة، فلا تجوز شهادة النصراني على اليهودي ولا العكس، وهو رواية أخرى عن الزهري، وروي هذا الرأي عن الحسن البصري، وعطاء، وغيرهم.
أدلة القائلين بشهادتهم ولو اختلفت مللهم:
أولا: قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 1. فأخبر الله عز وجل أن منهم الأمين على هذا القدر الكبير من المال، مع غير ملته فيؤديه له، ولا يخون هذه الأمانة، ولا ريب أن يكون مثل هذا أمينا على قرابته وذوي ديانته أولى.
ثانيا: قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2، فأثبت لهم الولاية على بعضهم بعضا، والولاية أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن نشبهها بالولاية.
ثالثا: إذا كان للكافر حق تزويج ابنتيه وأخته، وله الولاية على مال أولاده، فقبول شهادته عليهم أولى وأحرى.
رابعا: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بشهادتهم في الحدود، عندما جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا، فأقام الحد عليهما بقول اليهود، ولم
1 سورة آل عمران، الآية رقم:75.
2 سورة الأنفاقل، الآية رقم:73.
يسأل اليهودي واليهودية ولا طلب اعترافهما وإقرارهما، قالوا: وهذا ظاهر في سياق القصة بجميع طرقها، ولا يوجد في أي طريق منها ألبتة أنه رجمهما بإقرارهما، مع أننا نجد أنه لما أقر ماعز بن مالك والغامدية اتفقت جميع طرق الحديثين على ذكر الإقرار.
خامسا: أجاز الله تبارك وتعالى، شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية للحاجة، ومعلوم أن حاجة الكفار إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم، فإن الكفار يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات من المداينات، وعقود المعاوضات، وغيرها، وتقع بينهم الجنايات، وعدوان بعضهم على بعض، لا يحضرهم في الغالب مسلم، ويتحاكمون إلينا، فلو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لأدى ذلك إلى تظالمهم، وضياع حقوقهم، وفي ذلك فساد كبير، فأين الحاجة إلى قبول شهادتهم في السفر على المسلمين من الحاجة إلى قبول شهادة بعضهم على بعض في السفر والحضر؟.
سادسا: الكافر قد يكون عدلا في دينه بين قومه، صادق اللهجة عندهم. فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم إذا ارتضوه، قالوا: وقد رأينا كثيرا من الكفار يصدق في حديثه، ويؤدي أمانته، بحيث يشار إليه في ذلك، ويشتهر به بين قومه وبين المسلمين، بحيث يسكن القلب إلى صدقه، وقبول خبره وشهادته ما لا يسكن إلى كثير من المنتسبين إلى الإسلام.
سابعا: أباح الله تبارك وتعالى معاملتهم وأكل طعامهم، والزواج بنسائهم، وذلك يستلزم الرجوع إلى أخبارهم قطعا.
فإذا جاز لنا أن نعتمد على خبرهم فيما يتعلق بنا في الأعيان التي تحل وتحرم، فلأن نرجع إلى أخبارهم بالنسبة لما يتعلق بهم من ذلك أولى.
فإن قيل: هذا للحاجة الداعية إلى ذلك، قلنا: وذلك أشد حاجة.
ثامنا: أمر الله تبارك وتعالى بالحكم بينهم إما إيجابا وإما تخييرا، والحكم إما أن يكون بالإقرار، وإما أن يكون بالبينة، ومن المعلوم أنهم مع إقرار المدعى عليه لا يرفعون إلينا قضاياهم، ولا يحتاجون إلى الحكم غالبا، وإنما يحتاجون إلى الحكم عند التجاحد وإقامة البينة، وهم في الغالب لا تحضرهم البينة من المسلمين، ومن المعلوم أن الحكم بينهم مقصوده العدل، وإيصال كل ذي حق منهم إلى حقه، فإذا غلب على الظن صدق مدعيهم بمن يحضره من الشهود الذين ترتضونهم ولا سيما إذا كثروا فالحكم بشهادتهم أقوى من الحكم بمجرد نكول المدعى عليه أو اليمين.
الاستدلال للرأي القائل بعدم قبول شهادة الكافر على الكافر ولو اتحدت الملة:
يمكن أن يعتمد رأيهم على الأدلة الآتية:
أولا: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله تبارك وتعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} .
ووجه الدلالة أن الكافر ليس عدلا، ولا نرتضيه، وليس من رجالنا فلا يصح أن يكون شاهدا.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجاب المخالفون بأن هذا إنما هو في الحكم بين المسلمين، فإن السياق كله في ذلك، فإن الله تبارك وتعالى قال:{وَاللَاّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 1، وقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إلى قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وكذلك قال تبارك وتعالى في آية المداينة وهي قوله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ثم قال عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 3، فلا يوجد في شيء من هذه النصوص الكريمة تعرض لحكم أهل الكتاب ألبتة.
ثانيا: قال الله تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 4، وكيف تقبل شهادة إنسان على إنسان يبغضه ويكن له العداوة؟
مناقشة هذا الاستدلال:
أجاب المخالفون بأن هذا إما أن يراد به: العداوة التي بين اليهود والنصارى، أو يراد به: العداوة التي بين فرقهم وإن كانوا ملة واحدة، وهذا لا يمنع قبول شهادة بعضهم على بعض؛ لأنها عداوة دينية فهي كالعداوة التي بين فرق الأمة
1 سورة النساء، الآية رقم:15.
2 سورة الطلاق، الآيتان رقم1، ورقم:2.
3 سورة البقرة، الآية رقم:282.
4 سورة المائدة، الآية رقم:64.
الإسلامية، وتفرقهم شيعا، وإذاقة بعضهم بأس بعض، وليست عداوة شخصية بين الأفراد لأمر من الأمور الدنيوية، والعداوة بين فرق الأمة الإسلامية لم تمنع قبول شهادة بعضهم على بعض1.
ثالثا: احتج الشافعي -رضي الله تعالى عنه- بأن من كذب على الله فهو أولى أن يكذب على مثله من إخوانه وأقاربه، أي: كأن الشافعي رضي الله عنه يرى أن من تجرأ على الكذب على الخالق فأنكر نبوة رسول من رسله فإن تجرؤه على الخلق يكون أولى.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجاب المخالفون بأن جميع أهل البدع قد كذبوا على الله ورسوله، والخوارج من أصدق الناس لهجة ومع ذلك فقد كذبوا على الله ورسوله، وكذلك القدرية والمعتزلة، وهم يظنون أنهم صادقون غير كاذبين، فهم متدينون بهذا الكذب، ويظنون أنه من أصدق الصدق.
رابعا: قبول شهادتهم فيه إكرام لهم، ورفع منزلتهم وقدرهم ورذيلة الكفر تنفي ذلك.
1 قال الشافعي في كتابه "الأم": "ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا، واستحل بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادما، منه ما كان في عهد السلف وإلى يومنا هذا، ولم نعلم أحدا من سلف الأمة يقتدي به، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله، ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل إذا كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم". نقلنا هذا النص للشافعي في كتاب "الأم" عن تقي الدين الحصني، في كتابه "كفاية الأخيار"، ج2، ص277، 278.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجاب المخالفون بأن رذيلة الكفر لم تمنع قبول قولهم على المسلمين للحاجة، بنص القرآن الكريم، قال الله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وكذلك لم تمنع رذيلة للكفر ولاية بعضهم على بعض، وعرافة بعضهم على بعض، وكون بعضهم حاكما وقاضيا عليهم، فلا تمنع رذيلة الكفر أن يكون بعضهم شاهدا على بعض.
وليس في هذا تكريم لهم، ولا رفع لأقدارهم، وإنما هو دفع لشرهم بعضهم عن بعض، وإيصال أهل الحقوق منهم إلى حقوقهم بقول من يرتضونه، وهذا من تمام مصالحهم التي لا غنى لهم عنها.
ومما يوضح ذلك، أنهم إذا رضوا بأن نحكم بينهم، ورضوا بقبول قول بعضهم على بعض، فألزمناهم بما رضوا به، لم يكن ذلك مخالفا لحكم الله ورسوله، فإنه لا بد أن يكون الشاهد بينهم ممن يثقون به، فلو كان معروفا بالكذب وشهادة الزور لم نقبله ولم نلزمهم بشهادته1.
أدلة القائلين بشهادتهم إذا اتحدت الملة:
أولا: ما رواه الدارقطني، وابن عدي من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا ملة محمد، فإنها
1 الطرق الحكمية لابن القيم، ص206 وما بعدها، وفتح القدير لابن الهمام، ج7، ص416، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص165، شرح جلال الدين المحلي على المنهاج، وحاشيتا قليوبي وعميرة عليه، ج4، ص299، والمغني لابن قدامة، ج12، ص54، 55.
تجوز على غيرهم".
مناقشة هذا الاستدلال:
أجيب عن هذا بأن علماء الحديث قد ضعفوا هذا الحديث، بأن أحد رواته ضعيف وهو عمر بن راشد، ورواه عبد الرزاق بمعناه مرسلا، والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين، ورواه البيهقي وضعفه1.
ثانيا: أهل الملة الواحدة بعضهم يلي على بعض، ولا عداوة بينهم ولا بغضاء فجازت الشهادة فيما بينهم، أما الكفار مختلفو الملل فبينهم من العداوة والبغضاء ما يقطع الولاية ويمنع قبول الشهادة، قال تبارك وتعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} ، وقال عز وجل:{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وإن كان هذا شأنهم فلا تقبل شهادتهم على بعض.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجيب عن هذا الاستدلال بأن العداوة التي بين الملل المختلفة من الكفار إنما هي عداوة دينية، والعداوة الدينية ليست مانعا من قبول الشهادة، كالعداوة التي بين فرق الأمة الإسلامية2. وإنما الذي يمنع من الشهادة هو العداوة الشخصية.
الرأي الراجح:
يغلب على الظن ترجيح الرأي القائل بقبول شهادة الكافر على الكافر، ولو اختلفت الملة، لأمرين:
أحدهما: كثرة الأدلة التي استدل بها لهذا الرأي، وسلامته من الاعتراض.
الثاني: الإجابات القوية التي أجيب بها على أدلة المخالفين، وفي النهاية نسأل أصحاب الرأي القائل بعدم قبول شهادة غير المسلمين فيما بينهم إذا تحاكموا إلينا ولم يكن معهم شهود من المسلمين، ألا يحكم القاضي بينهم؟ أم يجيز المانعون هذه الصورة للضرورة، كما أجاز مالك رضي الله عنه شهادة الطبيب الكافر على المسلم للضرورة3.
1 كفاية الأخيار، للحصني ج2، ص275.
2 مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين محمود شلتوت، ومحمد علي السايس، ص132، 134.
3 مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد علي السايس، ص134.