الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الثالث عشر: عند بعض العلماء
أن لا يكون ميا لا يكتب:
يرى بعض العلماء أنه يشترط في القاضي أن يكون كاتبا. وهذا أحد الشروط المختلف فيها، فيرى بعض العلماء اشتراطه، فلا يصح أن يولى القضاء الأمي الذي لا يكتب وإن كان عالما عدلا، ويرى البعض الآخر أنه يصح أن يكون القاضي أميا لا يكتب.
دليل الرأي المجوز:
أما الرأي القائل بجواز أن يكون القاضي أميا، فقد علل ذلك بأنه مع كونه أميا فهو من أهل الاجتهاد والعدالة، وفقد الكتابة لا يؤثر فيه.
وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يكتب، وهو إمام الأئمة، وحاكم الحكام.
دليل الرأي المانع:
وأما الرأي القائل بعدم صحة تولية الأمي القضاء، فقد علل ذلك بأنه يحتاج إلى أن تقرأ عليه المحاضر والسجلات، ويقف على ما يكتب كاتبه، فإذا لم يكن كاتبا فربما غير عليه القارئ أو الكاتب.
وقد أجاب أصحاب هذا الرأي على قياس القاضي على النبي صلى الله عليه وسلم، بأن القياس لا يصح، لوجود الفارق بينهما، فإن عدم كون النبي صلى الله عليه وسلم كاتبا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، لكي يثبت أن القرآن العظيم الذي تحدى به الإنس والجن هو من عند الله تبارك وتعالى، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم ولا يتحقق لغيره هذه الصفة.
وأيضًا فإن أصحابه -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يتصفون بالعدالة والخيانة منهم مأمونة في الكتابة له، بل حتى لو فرضنا أنه كان يمكن لأحدهم أن يخون، فإن الله تبارك وتعالى يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك1.
هل يشترط أن يكون القاضي واحدا؟
صرح بعض العلماء بأنه يجب أن يكون القاضي واحدا، بمعنى أن لا يتولى القضاء قاضيان فأكثر على وجه الاشتراك، بحيث لا يكون من حق أحدهما أن ينفرد بالنظر في قضية ولا قبول بينة، ولا أن ينفرد بإنفاذ حكم، وعبر أحد العلماء عن هذا الحكم بقوله: لا يجوز أن يكون الحاكم نصف حاكم.
1 المنتقى شرح موطأ مالك، للباجي، ج5، ص184، وتكملة المجموع للمطيعي، ج19، ص117.
فعلى هذا لا يجتمع اثنان بحيث يكونان جميعا حاكما في قضية واحدة، وأما أن يتعدد القضاة في البلد الواحد بحيث ينفرد كل واحد منهم بالنظر في القضايا التي ترفع إليه، فذلك أمر جائز لا شيء فيه.
وقد استدل لهذا بأن المذاهب الفقهية مختلفة، والأغراض متباينة، ولا يصح أن يتفق رجلان في كل شيء حتى لا يرى أحدهما خلاف ما يراه الآخر، وإذا أشرك بين القاضيين فإن ذلك يكون داعيا إلى أن يختلفا في القضية التي ينظرانها، ويوقف نفوذهما كتعدد رئيس الدولة في القطر الواحد. وبين أصحاب هذا الرأي أنه لا يعترض على هذا الرأي بتعدد الحكم عند حدوث الشقاق بين الزوجين1، وبتعدد الحكم في جزاء قتل الصيد في الحرم؛ لأن الحكمين في الشقاق الحادث بين الزوجين، أو الحكمين في تقدير جزاء قتل الصيد في الحرم، إنما يحكمان في قضية واحدة وليس لهما ولاية القضاء، فإن اتفق حكمهما نفذ حكمهما وإن اختلفا لم ينفذ حكمهما، وأسند الحكم إلى غيرهما فلا يحدث من ذلك أي ضرر، وهذا يتنافى مع الولاية والقضاء ولاية؛ لأن من تولى القضاء لا يمكن الاستبدال به عند الخلاف في الرأي؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تتوقف الأحكام ويمتنع تنفيذها2.
ونرى أنه لا مانع من تعدد القاضي في نظر قضية واحدة، ولربما كان التعدد أدعى إلى الحيطة في الحكم، وعند الاختلاف يرجح الحكم الذي قال به الأكثر، ويحتاط في ذلك بأن يكون عدد القضاة عددا وتريا، بأن يكونوا ثلاثة، أو خمسة مثلا، والقوانين الوضعية راعت هذا الاحتياط في تشكيل المحكمة المختصة بنظر
-
1 عند حدوث الشقاق بين الزوجين أوصى الشرع بتدخل حكمين ليصلحا بين الزوجين، أحدهما من أهل الزوج والثاني من أهل الزوجة، في قول الله تبارك وتعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} .
2 المنتقى شرح الموطأ، ج5، ص182.
الدعوى، فمع أن القانون ينص على أن تشكل المحكمة الجزئية من قاض واحد من قضاة المحكمة الابتدائية التابعة لها المحكمة الجزئية، فإنه نص على أن تشكل محكمة الجنح والمخالفات المستأنفة من ثلاثة قضاة من المحكمة الابتدائية، وأن تشكل محكمة الجنايات من ثلاثة من مستشاري محكمة الاستئناف، وأن تشكل محكمة النقض من خمسة من مستشاريها، كما جاء في المواد رقم3، 4، 7، 9، 11، من قانون السلطة القضائية والمادة رقم 366 من قانون الإجراءات الجنائية، فإذا صدر الحكم من إحدى هذه المحاكم دون أن يتحقق العدد المنصوص عليه قانونًا كان الحكم باطلا1.
هل يشترط علم من له سلطة تعيين القضاة بتحقق الشروط في الشخص:
بعد أن بينا فيما سبق الشروط التي قال بها العلماء من القاضي حتى تصح توليته، نحب أن نبين هنا هل يكتفى بمجرد ظن من له سلطة تولية القضاة أن هذه الشروط موجودة فيمن سيوليه، أم لا بد أن يعلم تحقق هذه الشروط ولا يكتفى بمجرد الظن؟
أجاب عن هذا السؤال بعض الفقهاء بأن المدار في هذه الشروط على ما في نفس الأمر، لا على ما في ظن المكلف، وذلك بأن يكون عالما بوجود هذه الشروط في هذا الشخص الذي سيوليه القضاء، أو يعتمد على شهادة عدلين عارفين بوجود هذه الشروط في هذا الشخص، ويندب له اختباره حتى يزداد بصيرة، لكن لو
1 دروس الإجراءات الجنائية، الحكم ونظرية الطعن فيه، دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية، ص6، وفريضة القضاء بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي للدكتور محمود الزيني، ص31، 32.
ولى رئيس الدولة، أو من له سلطة تولية القضاة شخصًا لا يعلم فيه هذه الشروط، ثم بعد التولية تبين أنها موجودة في هذا الشخص الذي ولاه القضاء فإن توليته تصح1.
ومعنى هذا أنه نظرا لسمو هذا المنصب وخطورته، فإنه يجب على رئيس الدولة أو من له سلطة تولية القضاة أن يتحرى عن الأشخاص الذين يمكن توليتهم هذا المنصب، ولا يكتفي بمجرد الظن، بل لا بد من التأكد التام من توفر الشروط فيه، إما بعلمه هو شخصيا بوجود الشروط في الشخص، أو أن يشهد عدلان بوجود هذه الشروط فيه.
صفات مستحبة في القاضي:
بيّن علماؤنا رضي الله عنهم أن هناك أمورا من المستحب أن تكون موجودة فيمن يتولى القضاء، بجانب الشروط التي لا بد من توافرها فيه، ومن هذه الأمور:
أولا: أن يكون حليما.
ثانيا: أن يكون عالما بلغات المتقاضين أمامه، ولا يحتاج إلى مترجم.
ثالثا: أن يكون جامعا للعفاف، بعيدا عن الطمع.
رابعا: أن يكون لينا في الكلام.
خامسا: أن يكون ذا سكينة ووقار.
سادسا: أن لا يكون جبارا متكبرا؛ لأن ذلك يمنع الخصم من أن يستوفي حجته.
1 نهاية المحتاج، ج8، ص239.
سابعا: أن لا يكون ضعيفا مهينا؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة تجرأ الخصمان أمامه بالشتائم وذكر السخف، بل ربما تجرآ عليه توقحا واستخفافا، فيستحب أن يكون شديدا من غير عنف، لينا من غير ضعف1.
وبعد، فنحب في ختام الكلام عن شروط القاضي أن نذكر ما قاله أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب "آداب القضاء" له2، وهو بيان لمتى يستحق الشخص أن يكون قاضيا، قال الكرابيسي: "لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه، وعلمه، وورعه، قارئا لكتاب الله، عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم، يتبع في النوازل الكتاب، فإن لم يجد فالسنن، فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بفتوى أكابر الصحابة
عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم، والمشاورة لهم، مع فضل وورع، ويكون حافظا للسانه، وبطنه وفرجه، فهما بكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى"، ثم قال الكرابيسي: "وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم".
1 نهاية المحتاج، ج8، ص244.
2 نقلا عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص156.