الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسيلة العاشرة: فضاء القاضي بعلمه أو بخلاف علمه
…
الوسيلة العاشرة: قضاء القاضي بعلمه أو بخلاف علمه
هنا مسألتان: قضاء القاضي بخلاف علمه، وقضاء القاضي بعلمه، فأما المسألة الأولى وهي قضاؤه بخلاف علمه، كما لو شهد شاهدان بزوجية بين اثنين، وهو يعلم أن بينهما محرمية برضاع مثلا، أو طلاقا بائنا، فقد نقل الإمام النووي إجماع العلماء على عدم جواز قضاء القاضي بخلاف علمه، فلا يقضي بالبينة "الشهود" في ذلك؛ لأنه لو قضى بها لكان قاطعا ببطلان حكمه بها حينئذ، والحكم بالباطل حرام، وإن كان بعض فقهاء الشافعية قد اعترض على النووي في دعواه الإجماع برأي لبعض الفقهاء من الشافعية حكاه الماوردي بأنه يحكم القاضي بالشهادة المخالفة علمه1.
وعلى هذا فالجمهور من فقهاء الشافعية -وليس كلهم- يرون عدم جواز قضاء القاضي بخلاف علمه، وخالف في هذا صاحب الرأي الذي حكاه الماوردي، ويرى الشافعية أنه كما لا يحكم بخلاف علمه في هذه الحال لا يحكم أيضًا بعلمه لمعارضة البينة "الشهود" له، مع عدالتها في الظاهر، بل يجب على القاضي أن يتوقف عن الحكم حتى يظهر فسق الشهود، فيحكم بعلمه أو نحو ذلك كرفع الدعوى إلى قاض آخر غيره2.
وأما المسألة الثانية، وهي قضاؤه بعلمه3 فسنفصل الكلام عنها بعض التفصيل فنقول:
1 المصدر السابق، ج4، ص398.
2 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص495.
3 علم القاضي قد يكون حصل بالمعاينة، أو بسماع الإقرار، أو بمشاهدة الأقوال.
اختلف علماؤنا -رضي الله تعالى عنهم- في قضاء القاضي بعلمه على عدة آراء نذكر ثلاثة منها:
أحدها: لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه لا في الحدود ولا في غيرها، لا فيما علمه قبل توليته القضاء ولا بعده، وهذا ما يراه شريح، والشعبي، ومالك وأكثر أصحابه، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، وهو قول للشافعي يعد غير قوي عند الشافعية، وهذا الرأي أيضًا ظاهر المذهب في فقه الحنابلة.
هذا، وقد نسب ابن قدامة -الفقيه الحنبلي المعروف- إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة القول بأن القاضي لا يحكم بعلمه1، لكننا نجد الحنفية يصرحون في كتبهم بأن محمد بن الحسن يقول بأن القاضي له أن يحكم بعلمه في حقوق العباد، بل في الوقت الذي نرى فيه فقهاء الحنفية يحكون عن أبي حنيفة -رضي الله تعالى عنه- أنه يشترط لقضاء القاضي بعلمه في حقوق العباد أن يكون ذلك في زمن ولايته، ومحلها، نراهم ينقلون عن صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهما يريان صحة قضاء القاضي بعلمه قبل ولايته، وفي غير محلها2، والحنفية أدرى بآراء أئمتهم.
والرأي الثاني: يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه، وهو ما يراه أبو ثور، وأبو يوسف والقول الراجح عند الشافعية للشافعي قال الربيع المرادي: كان الشافعي يرى القضاء بالعلم ولا يبوح به مخافة قضاة السوء، وقد حرر أصحاب الشافعي المذهب بأن القولين للشافعي في غير الحدود، وأما في الحدود فلا يجوز القضاء
1 المغني، ج11، ص400.
2 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص121.
بعلم القاضي بأسبابها قولا واحدا1، ويرى أحمد أيضًا في رواية ثانية عنه صحة قضاء القاضي بعلمه.
وقد اشترط فقهاء الشافعية أن يكون القاضي مجتهدا لكي يصح قضاؤه بعلمه، لا أن يكون قاضي ضرورة كما هو موجود الآن، ويبنوا أنه من المستحب أن يكون ظاهر التقوى والورع، واشترطوا أن يصرح القاضي بما استند إليه حتى ينفذ حكمه، فيقول: علمت أن له عليك ما ادعاه، وقضيت أو حكمت عليك بعلمي، واشترطوا أيضا أن يكون القضاء في غير عقوبة الله تعالى، وأن لا تقوم بينة "شهود" بخلافه، وإلا فلو قامت بينة بخلاف علمه، توقف عن الحكم كما سبق أن بينا، فلو شهد عنده شاهدان بزواج امرأة وهو يعلم بينونتها من زوجها فلا يحكم بالبينة، ولا يحكم كذلك بعلمه، بل يتوقف، فالشروط -إذن- عند الشافعية لقضاء القاضي بعلمه أربعة:
1-
أن يكون القاضي مجتهدا فلو كان قاضي ضرورة امتنع عليه القضاء بعلمه، فلو قال: قضيت بحجة شرعية أوجبت الحكم بذلك، وطلب منه بيان مستنده لزمه أن يبين ما استند إليه، فإن امتنع قاضي الضرورة من ذلك فلا يعمل بقضائه2.
2-
أن يكون القضاء في غير عقوبة الله تعالى.
3-
أن لا تقوم بينة بخلاف علمه.
1 محاضرات في علم القاضي والقرائن وغيرها، مصدر سابق، ص29.
2 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص259، 260، وحاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص495.
4-
أن يصرح بمستنده، فيقول علمت أن له عليك ما ادعاه وقضيت أو حكمت عليك بعلمي.
الرأي الثالث: ما يراه أبو حنيفة، وهو أن ما كان من حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه، كحد الزنا، وحد الخمر، وحد السرقة، وأما حقوق الآدميين كالدية وضمان المسروق، والزواج والطلاق وما يتعلق بهما، والبيع والهبة، ونحو ذلك، مما علمه قبيل ولايته، أو في غير محل ولايته لا يقضي به، وما علمه في زمن ولايته ومحلها قضى به1.
أدلة الرأي المانع لقضاء القاضي بعلمه:
أولا: ما روي عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض 2 فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"3.
فدل هذا الحديث الشريف على أنه صلى الله عليه وسلم، إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم.
مناقشة هذا الدليل:
1 معين الحكام، للطرابلسي، ص121، والاختيار لتعليل المختار، ج2، ص121.
2 ألحن أي: أفطن بها، ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيرا عنها، وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل، قال الشوكاني: والأظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية الصحيحين أي: أحسن إيرادا للكلام. نيل الأوطار، ج9.
3 نيل الأوطار، ج9، ص185.
أجيب عن هذا بأن التنصيص على السماع، لا ينفي كون غيره طريقا للحكم، بل يمكن أن يقال إن هذا الحديث أظهر في الاحتجاج للقائلين بجواز قضاء القاضي بعلمه، فإن العلم أقوى من السماع؛ لأنه يمكن بطلان ما سمعه الإنسان ولا يمكن بطلان ما يعلمه1.
ثانيا: ما روته عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا2، فلاحاه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه3، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: القود4 يا رسول الله، فقال:"لكم كذا وكذا"، فلم يرضوا، فقال:"لكم كذا وكذا"، فرضوا، فقال:"إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم"، قالوا: نعم، فخطب فقال:"إن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أفرضيتم؟ قالوا: لا"، فهم المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم، فكفوا، ثم دعاهم فزادهم، فقال:"أفرضيتم"؟ ، قالوا: نعم، قال:"إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم"، قالوا: نعم، فخطب فقال:"أرضيتم"؟ ، فقالوا: نعم. رواه الخمسة إلا الترمذي5.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن ليس فيه إلا مجرد وقوع الإخبار من
1 نيل الأوطار، ج9، ص198.
2 المصدق بتخفيف الصاد، هو الذي يأخذ صدقات الإبل والبقر والغنم.
3 شجه أي: أحدث به شجة، والشجة الجراحة التي تكون في الوجه أو في الرأس.
4 أي: القصاص.
5 نيل الأوطار، ج9، ص195، والخمسة هم: أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو داود.
الرسول صلى الله عليه وسلم بما حصل به الرضا من المطالبين بالقصاص، وإن كان المانعون للقضاء بعلم القاضي قد احتجوا بعدم قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المطالبين بالقصاص بما رضوا به في المرة الأولى، فلم يكن هناك مطالب له بالحكم عليهم1.
ثالثا: ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو رأيت حدا2 على رجل لم أحد حتى تقوم البينة.
رابعا: قول الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية الحضرمي والكندي: "شاهداك أو يمينه" وفي لفظ: "ولس لك إلا ذلك"3.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه.
وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: $"وليس لك إلا ذلك" فلم يقله النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم بالمحق منهما من المبطل حتى يصح الاستدلال به على عدم قضاء القاضي بعلمه، بل المراد أنه ليس للمدعي تجاه المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرا، إذا لم يكن للمدعي برهان4.
خامسا: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لولا أن
1 المصدر السابق، ج9، ص198.
2 أي: لو رأيت ما يستوجب الحد.
3 نيل الأوطار، ج9، ص198، والمغني، ج11، ص400-402.
4 نيل الأوطار، ج9، ص198.
يقول الناس زاد عمر آية في كتاب الله لكتبت آية الرجم".
فقول عمر: "لولا أن يقول الناس" إلى آخره إشارة إلى أن ذلك من قطع الذرائع، لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء1.
مناقشة هذا الدليل:
يمكن أن نجيب بأن مثل هذا لا يصح التسليم بروايته عن عمر، فمعنى هذا أن عمر كان يرى أن القرآن ينقصه آية يجب أن تكتب فيه، إلا أن تخوفه من كلام الناس واتهامه بأنه زاد آية في كتاب الله منعه من ذلك، وهذا كلام خطير جدا لا يصح التسليم بثبوته عن عمر أو غيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، فنحن نؤمن والمسلمون جميعا يجب عليهم أن يؤمنوا بأنه لا يوجد في القرآن آية ناقصة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد تكفل بحفظه، فقال سبحانه:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فلو كان عمر يجد آية لكتبها، من غير تردد ولم يأبه لكلام الناس؛ لأن كلام الله عز وجل لا يتوقف في إثباته على رضا أحد أو عدم رضاه.
ولعل مما يشير إلى ضعف هذا الأثر أن رواية البخاري عقوبة رجم الزاني المحصن عن عمر لم يرد فيها أن عمر امتنع عن كتابة آية الرجم خشية أن يقول الناس، زاد عمر آية في كتاب الله. فقد روى البخاري في باب الاعتراف بالزنا،
1 المصدر السابق، ج9، ص196.
قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان1 عن الزهري عن عبيد الله2، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحمل، أو الاعتراف3.
أدلة الرأي القائل بصحة قضاء القاضي بعلمه:
أولا: حديث هند زوج أبي سفيان، لما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال لها صلى الله عليه وسلم:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف".
ووجه الاستدلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لها ولولدها من غير بينة ولا إقرار، لعلمه بصدقها.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن الحديث لا يدل على جواز قضاء القاضي بعلمه؛ لأنه فتيا وليس حكما، وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة المستفتي، فيكون المعنى: إن صح كلام هند كان لها أن تأخذ من مال زوجها وولدها بالمعروف، والذي يدل على أن الحديث فتيا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حق أبي سفيان
1 سفيان بن عيينة.
2 عبيد الله بن عبد الله بن عتبة.
3 فتح الباري، ج12، ص137.
من غير حضوره، ولو كان حكما عليه، لاستدعاه ولم يحكم عليه في غيابه1.
ثانيا: ما رواه ابن عبد البر في كتابه أن عروة ومجاهدا رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى2 عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا، وقال عمر: "إني لأعلم الناس بذلك، وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان، فائتني بأبي سفيان، فأتاه به، فقال له عمر: يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا، فنهضوا، ونظر عمر وقال: يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من هنا فضعه ههنا، فقال: والله لا أفعل، فقال: والله لتفعلن، فقال: والله لا أفعل، فعلاه بالدرة3، وقال: خذه، لا أم لك فضعه هنا، فإنك -ما علمت- قديم الظلم، فأخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال عمر، ثم إن عمر استقبل القبلة فقال: اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه، وأذللته لي بالإسلام، فاستقبل القبلة أبو سفيان، وقال: اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر.
فهذا الأثر يبين أن عمر قد حكم بعلمه.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن ما روي عن عمر كان إنكارا منه لمنكر رآه، ولم يكن حكما، يدل على ذلك أنه لم توجد من الطرفين دعوى وإنكار بشروطهما.
1 المغني، ج11، ص402، 403.
2 في المصباح: واستعديت الأمير على الظالم طلبت منه النصرة، فأعداني عليه أعانني ونصرني، فالاستعداء طلب التقوية والنصرة.
3 الدرة بكسر الدال: السوط.
ثم لو فرضنا أن ذلك كان حكما من عمر فإنه يعارضه ما روي عن عمر أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما: أنت شاهدي فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد1.
ثالثا: القاضي يحكم بالشاهدين؛ لأنهما يعطيانه ظنا غالبا بصحة ما شهدا به، فيكون ما تحققه القاضي وقطع به أولى بالحكم2.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن القضاء بالشاهدين لا يؤدى إلى تهمة بخلاف قضاء القاضي بعلمه فإنه يوجد تهمة، إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة، فمن المحتمل أن يكون هذا وسيلة إلى أن توجه القاضي أهواؤه، فيحكم على من يشاء من غير بينة، ولا غيرها من الحجج3.
رابعا: القاضي يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم، فكذلك يحكم بعلمه في ثبوت الحق، قياسا عليه.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن الجرح والتعديل يحكم القاضي فيه بعلمه باتفاق العلماء؛ لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه لأدى هذا إلى التسلسل، والتسلسل باطل، وبيان التسلسل أن القاضي يحتاج إلى معرفة عدالة المزكيين وجرحهما، فإذا لم يعمل
1 المغني، ج11، ص402.
2 حاشية الجمل على شرح المنهج، ج5، ص349، وبداية المجتهد، ج2، ص587.
3 المغني، ج11، ص403.
بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين، ثم كل واحد من المزكيين الأخيرين، يحتاج أيضًا إلى مزكيين، وهكذا يحدث التسلسل وأما مسألتنا فبخلاف ذلك1.
التعليل لرأي أبى حنيفة:
أما جواز قضائه بما علمه من حقوق الآدميين في زمن ولايته ومحلها؛ فلأن علمه كشهادة الشاهدين بل هو أولى؛ لأن اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة والسماع، والحاصل بالشهادة ليس إلا غلبة الظن.
وأما عدم جواز قضائه بما علمه قبل ولايته، أو في غير محله ولايته فلأنه قبل ولايته، وفي غير محل ولايته شاهد لا حاكم، وشهادة الفرد لا تقبل، وصار كما لو كان قد علم ذلك بالبينة العادلة ثم ولي القضاء فإنه لا يعمل بها.
وأما حقوق الله عز وجل فلا يقضي فيها بعلمه؛ لأنه خصم فيها، فالحاكم نائب عن الله تبارك وتعالى في تنفيذ حقوقه عز وجل2.
دليل من استثنى الحدود:
استدل من استثنى الحدود -كالزنا والسرقة، وقطع الطريق، وشرب الخمر- من القضاء بعلم القاضي بما يأتي:
أولا: ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلا....، فذكر حديث تلا عنهما إلى أن قال: ففرق النبي -صلى الله عليه
1 المصدر السابق، ج11، ص403.
2 الاختيار لعليل المختار، ج2، ص121، 122.
وسلم- بينهما، وقال:"إن جاءت به أصيهب 1، أريسح 2، حمش الساقين 3، فهو هلال، وإن جاءت به أورق 4، جعدا 5، جماليا 6، خدلج الساقين 7، سابغ الأليتين 8، فهو للذي رميت به"، فجاءت به أورق جعدا، جماليا، خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال سول الله صلى الله عليه وسلم:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن"9.
فظاهر هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم وقوع الزنا من المرأة ولم يحكم بعلمه.
مناقشة هذا الدليل:
أجاب الشوكاني عن هذا الاستدلال بقوله: ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يعمل بعلمه لكونه قد حصل التلاعن، وهو
1 أصيهب تصغير أصهب، والأصهب من الرجال: الأشقر، ومن الإبل الذي يخالط بياضه حمرة.
2 أريسح تصغير أرسح، وروي بالصاد بدلا من السين، ويقال أيضًا: الأرصع بالصاد والعين.
3 وهو ضعيف لحم الفخذين والأليتين:
قال أهل اللغة: حمش الرجل حمشا صار دقيق الساقين.
4 الأورق: الأسمر.
5 جعد الشعر: بضم العين وكسرها، جعودة: إذا كان فيه التواء وتقيض، فهو جعد وذلك خلاف الشعر المسترسل.
6 جماليا -بضم الجيم وتشديد الميم- هو العظيم الخلق كأنه الجمل.
7 خدلج -بفتح الخاء والدال وتشديد اللام مع الفتح- أي: ضخم.
8 يقال: إلية سابغة أي: طويلة.
9 نيل الأوطار، ج7، ص70.
أحد الأسباب الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم، والنزاع إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب شرعي ينافيه1.
ثانيا: استدل أيضًا من قال باستثناء الحدود من القضاء بعلم القاضي بأن الحدود تدرأ بالشبهات كما هو القاعدة الشرعية، ويندب سترها2.
رأي الشوكاني وهو ما نختاره:
وقال الشوكاني بعد أن ذكر آراء العلماء في مسألة قضاء القاضي بعلمه وجملة من أدلتهم: "والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال: إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابا للحكم كالبينة، واليمين، ونحوها، أمورا تعبدنا الله بها لا يسوغ لنا الحكم إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين، فالواجب علينا الوقوف عندها والتقيد بها، وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنا ما كان، وإن كانت أسبابا يتوصل الحاكم بها إلى معرفة المحق من المبطل، والمصيب من المخطئ، غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظن، وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر، فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه؛ لأن شهادة الشاهدين والشهود لا تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة، أو ما يجري مجراها، فإن الحاكم بعلمه غير الحاكم الذي يستند إلى شاهدين أو يمين، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من نار".
1 نيل الأوطار، ج9، ص199-200.
2 مغني المحتاج، ج4، ص398.
فإذا صار الحكم مع تجويز كون الحكم صوابا وتجويز كونه خطأ فكيف لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى العلم واليقين.
ولا يخفى رجحان هذا وقوته؛ لأن الحاكم به قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر الله تعالى.
ثم بين الشوكاني أن مما يؤيد هذا حديث الحضرمي والكندي فقد جاء رجل من حضرموت ورجل من كنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، قال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي "ألك بينة".... الحديث.
قال الشوكاني: فإن البينة في الأصل ما به يتبين الأمر ويتضح، ولا يرد على هذا أنه يستلزم قبول شهادة الواحد والحكم بها؛ لأنا نقول: إذا كان القضاء بأحد الأسباب المشروعة فيجب التوقف فيه على ما ورد، وقد قال الله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"شاهداك"، وإنما النزاع إذا جاء بسبب آخر من غير جنسها هو أولى بالقبول منها كعلم الحاكم" ا. هـ1.
فالشوكاني يؤيد الرأي القائل بجواز أن يقضي القاضي بعلمه، ونرى ما يراه الشوكاني غير أنه احتياطا في هذه المسألة لا بد من أن يكون القاضي عدلا، حتى يصح له أن يحكم بعلمه، وأما لو فقدت العدالة فيمن يصلح لتولي القضاء، فولي
1 نيل الأوطار، ج9، ص199.
أفضل من توفرت فيه بقية الشروط فلا يصح لهذا أن يحكم بعلمه؛ لأنه غير مأمون أن يدعي علما بحدوث جرائم من أشخاص يريد أن يؤذيهم، فيدعي مثلا على رجل أنه شاهده يطلق زوجته طلاقا ثالثا ونحو هذا، وقد صرح بعض العلماء بهذا، قال الأذرعي أحد فقهاء الشافعية:"وإذا أنفذنا أحكام القاضي الفاسق للضرورة فينبغي أن لا ينفذ قضاؤه بعلمه بلا خلاف، إذ لا ضرورة إلى تنفيذ هذه الجزئية النادرة مع فسقه الظاهر، وعدم قبول شهادته بذلك قطعا"1.
وبعد، فبهذا تكون قد انتهينا من الكلام عن وسائل الإثبات، ونحب قبل أن ننتقل إلى مسألة أخرى، أن نبين أن المجتمعات التي لم تعرف الإسلام كانت إلى ما قبل القرن الثالث عشر الميلادي تتبع وسائل في الإثبات أقرب إلى الفوضى ولعب الأطفال، فقد كان المطلوب من المدعى عليه أن يحمل حديدا محميا، أو يغمس ذراعه في زيت أو ماء مغلي، أو يلقى في حفرة فيها مجموعة من الثعابين، فإن كان برئيًا فإن العناية الإلهية ستنقذه ولا يصاب بأي أذى، وأما لو أصيب بأذى فإن اتهامه يكون مقطوعا به، كما أنه كان من الأدلة المتعارف عليها أن يحضر كل خصم ديكا، فتتقاتل الديكة، وينظر إلى الديك الغالب على أنه دليل على صدق دعوى صاحبه.
وفي القانون الروماني كان حسن الصوت دليلا على ثبوت الحق لصاحبه، وفي اليابان كان الشخص ينتحر أمام باب خصمه بشق بطن نفسه إذا لم يستطع التوصل إلى دليل يؤيد جانبه، ومعنى ذلك إثبات الحق واستنزال غضب الآلهة على خصمه.
1 مغني المحتاج، ج4، ص399.
كانت هذه الوسائل تتبع في الفصل في الخصومات في الوقت الذي كانت أنوار الشريعة الإسلامية قد سطعت منذ خمسة قرون على البلاد الإسلامية، وأرسيت مبادئ العدل والحق والمساواة أمام القانون1.
هذا وسننتقل الآن إلى الكلام عن مسألة قوية الصلة بالدعوى، وهي هل يجوز في بعض الحالات استيفاء الحق بدون قضاء؟ سنبين فيما يأتي آراء العلماء، وما يستند إليه آراؤهم، ونرجح بمشيئة الله تعالى ما نراه أولى بالترجيح.
استيفاء الحق بدون قضاء:
قبل أن نبين آراء علمائنا -رضي الله تعالى عنهم- في هذه المسألة التي تعرف في الفقه الإسلامي بمسألة الظفر، نحب أن نوضح أن العلماء قد اتفقوا على أنه إذا كان من عليه الحق مقرا به باذلا له فلا يجوز لصاحب الحق أن يأخذ من ماله إلا المقدار الذي يعطيه، فإن أخذ من ماله شيئًا بغير إذنه لزمه أن يرده إليه حتى لو كان قدر حقه؛ لأنه لا يجوز أن يملك عينا من أعيان ماله من غير رضا منه لغير ضرورة، وإن كانت من جنس حقه؛ لأن الإنسان قد يكون له غرض في العين.
وكذلك اتفق العلماء على أنه إذا كان من عليه الحق مانعا له لوجود أمر يبيح له المنع، كالتأجيل في الدين، والإعسار، لم يجز لصاحب الحق أن يأخذ شيئًا من ماله، فإن أخذ شيئًا لزمه أن يرده إن كان لا يزال باقيا، فإن كان قد تلف لزمه أن يرد له عوضه.
1 من وسائل الإثبات في الشريعة وفي القانون، للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص15، 16.
وإذا كان من عليه الحق قد منعه بغير حق، وكان الدائن قادرا على استخلاص حقه عن طريق الحاكم أو القاضي، فإنه لا يجوز له الأخذ أيضًا مستقلا عن الحاكم أو القاضي أو من يقوم مقامهما؛ وذلك لأن في إمكانه أن يستوفي حقه بمن يقوم مقامه من حاكم أو غيره فكان كما لو كان قادرا على استيفائه عن طريق وكيله.
واختلف العلماء فيما إذا كان من له الحق لا يقدر على استيفاء حقه، لكون من عليه الحق جاحدا له، ولا توجد بينة مع صاحب الحق أو لكونه لا يجيبه إلى الحاكمة، ولا يستطيع إجباره على ذلك، أو نحو هذا، هل لصاحب الحق أن يأخذ قدر حقه بدون رفع للقاضي وبدون علم من كان الحق تحت يده؟ أو ليس له ذلك؟ وإليك الآراء والأدلة:
الرأي الأول: ليس لصاحب الحق أخذ قدر حقه، وهذا هو المشهور في المذهب الحنبلي، وإحدى روايتين عن مالك.
الرأي الثاني: لصاحب الحق -إن لم يقدر على استخلاص حقه بعينه- أن يأخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه، وهذا ما يراه الشافعي ورأي متخرج في الفقه الحنبلي مأخوذ من قول أحمد في المرتهن: يجوز له أن يركب ويحلب بقدر ما ينفق على المرهون المركوب كالحصان أو المحلوب كالبقرة، والمرأة تأخذ مئونتها، وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضا.
الرأي الثالث: إن لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ حقه، وإن كان عليه دين لم يجز، وهذا هو المشهور من مذهب مالك.
الرأي الرابع: أن من كان له دين على آخر، وامتنع المدين عن الوفاء بالدين فللدائن أن يأخذ مقدار دينه من مال المدين لكن بشرط أن يكون هذا المال من جنس حقه وبنفس صفته، وهذا ما يراه فقهاء الحنفية1.
أدلة الآراء:
دليل المجيزين: حديث هند زوج أبي سفيان حين جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال:"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، رواه البخاري ومسلم.
ووجه الدلالة من الحديث أنه إذا جاز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل أن يأخذ حقه.
وقد علل للمشهور من مذهب مالك، وهو أنه إن كان لغيره عليه دين لم يجز، بأن الدائنين يتحاصان في مال من عليه الدين إذا أفلس.
وعلل لرأي الحنفية بأنه إذا لم يكن المال من جنس حقه وبنفس صفته فإنه حينئذ يكون اعتياضا، ولا تجوز المعاوضة إلا بالرضا من المتعاوضين، لقول الله تبارك وتعالى:{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
مناقشة الاستدلال بحديث هند:
أجاب الحنابلة عن الاستدلال بحديث هند بعدة إجابات:
1 المغني، ج9، ص326، وتكملة حاشية ابن عابدين، ج1، ص380.
1-
أجاب الإمام أحمد بأن حقها واجب عليه في كل وقت، وهذا إشارة من الإمام أحمد إلى وجود الفرق بين النفقة والدين، فإن النفقة تحتاج في كل يوم -تجب فيه- إلى محاكمة ومخاصمةو وفي هذا مشقة واضحة، بخلاف الدين.
2-
فرق ابن قدامة بين النفقة والدين بفرقين.
أحدهما: أن للمرأة من التبسط في مال زوجها بحكم العادة ما له تأثير في إباحة أخذ الحق بالمعروف، بخلاف الأجنبي.
الفرق الثاني: أن النفقة إنما هي لإحياء النفس، وهذا مما لا يصبر عنه، ولا سبيل إلى تركه، فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين.
3-
فرق بعض الحنابلة بين النفقة والدين بفرق آخر، وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة، فكأن الحق صار معلوما بعلم قيام مقتضيه1.
ويمكن الرد على الإجابة الأولى بأن فرض المسألة هو إذا لم يستطع صاحب الحق أن يستوفي حقه بطريق القضاء، أو غيره من طرق استيفاء الحقوق كالتحكيم، فهو لا يستطيع أن يحصل على حقه لا بغير مشقة ولا بمشقة، فهو أولى بالحصول عليه من الزوجة التي تستطيع أن تحصل على حقها بطريق القضاء ولو بمشقة.
ويمكن الرد على الفرق الأول من الفرقين اللذين فرق بهما ابن قدامة بين النفقة والدين بأننا لا نظن أن ما للمرأة من التبسط في مال زوجها يبيح لها أن تأخذ من ماله لنفقتها ما يزيد عن المعروف، فتساوت في هذا مع صاحب الحق في أنه أيضًا لا يباح له أن يأخذ ما يزيد عن حقه.
1 المغني، ج9، ص377، وكشاف القناع، ج6، ص351.
وعلى الفرق الثاني بأنه قد لا يجد الدائن ما ينفقه على نفسه ومن يعوله إلا حقه الذي ظفر به، وقد تكون هذه حال نادرة لكنها قابلة للحدوث، فهل يباح له الظفر بحقه حينئذ أم لا؟
وأما الرد على الإجابة الثالثة فيمكن أن يقال إنه إذا كان قيام الزوجية كقيام البينة، فإن صاحب الحق يعتمد على أقوى من البينة، وهو ثبوت حقه بينه وبين الله تعالى.
أدلة المانعين:
الدليل الأول: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وجه الاستدلال أنه متى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير علمه فقد خانه، فيدخل في عموم الخبر1.
مناقشة الاستدلال بالحديث:
أولا: لم يثبت هذا الحديث، فقد قال فيه الشافعي: هذا حديث ليس بثابت، واستنكره أبو حاتم الرازي2.
ثانيا: على فرض ثبوت هذا الحديث فإنه لا يدل للمانعين؛ لأن أخذ الحق من مال من ينكره ولا يرضى بأدائه ليس خيانة، وإنما الخيانة أخذ مال الغير ظلما
1 المغني، ج9، ص326، 327، وكشاف القناع، ج6، ص351.
2 التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر، ج3، ص97، شركة الطباعة الفنية، ونظرية الدعوى للدكتور محمد نعيم عبد السلام، القسم الأول، ص164.
وعدوانا، ومعنى الحديث: لا تخن من خانك بأن تقابله بخيانة مثل خيانته، وهذا لم يخنه؛ لأنه أخذ حق نفسه، والأول يغتصب حق غيره1.
الدليل الثاني: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه "، وهذا لم يأخذ مال غيره بطيب من نفسه فيكون حراما2.
مناقشة هذا الدليل:
يمكن أن يجاب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن الحديث ليس على إطلاقه، بدليل أنه يجوز للشفيع أخذ المشفوع فيه بالثمن جبرا عن المشتري ويجوز انتزاع مال الظالم لتوفية مظالمه، وانتزاع مال المدين المماطل لتسديد ديونه، والحنابلة أنفسهم أجازوا أن ينتفع المرتهن بالركوب كالحصان والمحلوب كالبقرة بغير إذن الراهن نظير نفقته وبقدرها، فكذلك هنا يجوز أخذ الحق جبرا عن المنكر له ما دام صاحب الحق لا يستطيع أن يصل إلى حقه بغير هذا من قضاء أو تحكيم أو غيرهما.
الدليل الثالث: أن الآخذ إما أن يأخذ من جنس حقه أو لا، فإن أخذ من غير جنس حقه، فإن هذا يكون معاوضة بغير تراض وهي لا تجوز، وإن أخذ من جنس حقه فليس له تعيين الحق بغير رضا صاحبه؛ لأن التعيين إليه، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول اقضني حقي من هذا الكيس دون غيره؟
1 المحلى لابن حزم، ج8، ص182، ونظرية الدعوى، مصدر سابق، القسم الأول، ص165.
2 المغني، ج9، ص327، وكشاف القناع، ج6، ص351.
مناقشة هذا الدليل:
من الممكن أن يجاب عن هذا بأنه إن أخذ من جنس حقه وإن كان معاوضة بغير تراض صح له ذلك؛ لأن من عليه الحق ممتنع أصلا من أداء الحق، فيكون أشبه بأخذ بدل المغصوب وإن كان من غير جنسه، إذا هلك عند الغاصب؛ لأن الممتنع من أداء الحق كالغاصب، وإلا فيمكن أن يقال: أخذ بدل المغصوب لا يجوز؛ لأنه معاوضة بغير تراض، ومثل هذا لا يصح قوله.
وأما القول بأنه ليس للدائن تعيين الحق بغير رضا صاحبه فهذا يسلم إذا كان من عليه الحق مستعدا لأدء الحق، وأما إذا كان ممتنعا فكيف يتحقق منه التعيين والتعيين إنما هو فرع الاعتراف بالحق والاستعداد لأدائه، والمثال المذكور وهو عدم جواز اقضني حقي من هذا الكيس دون هذا الكيس إنما يصح التمثيل به لو كان المدين معترفا بالحق مستعدا لأدائه، لكن لو امتنع عن أداء هذا الحق فلا وجه للتمثيل بهذا المثال.
الرأي الراجح:
الرأي الراجح الذي نراه أولى بالترجيح هو الرأي القائل بالجواز بالشروط الآتية التي قال بها المالكية والشافعية.
شروط الجواز:
بين علماء المالكية والشافعية عدة شروط لا بد من توفرها حتى يجوز لصاحب الحق أخذه من الجاحد له، وإليك هذه الشروط:
الشرط الأول: أن يأمن وقوع فتنة، من ضرب، أو جرح، أو حبس، وما
شابه ذلك، فإن أدى أخذه للفتنة والشحناء فلا يجوز ذلك.
الشرط الثاني: أن يأمن حدوث رذيلة تنسب إليه، فقد يضبط ويتهم بالسرقة، أو الغصب، فإذا أمن حدوث ذلك فقد تحقق هذا الشرط.
الشرط الثالث: أن يكون الحق في غير عقوبة، وأما إذا كان الحق عقوبة فلا يصلح له أن يستوفيها بنفسه، بل لا بد أن يلجأ إلى الحاكم، فليس له أن يضرب من ضربه، ولا يجرح من جرحه، ولا يسب من سبه، وهكذا1.
الشرط الرابع: إذا كان الحق دينا فيشترط أن يكون الدين حالا والمدين ممتنع من الأداء، أما لو كان غير ممتنع من الأداء فله أن يطالبه بالدين، ولا يحل له أن يأخذ شيئًا من ممتلكات المدين؛ لأن المدين مخير في دفع ما عليه من أي مال يشاء، فليس للمستحق إسقاط حقه من ذلك إجبارا.
وعلى هذا فإن أخذه لم تثبت ملكيته له، ولزمه أن يرده إلى صاحبه، فإن تلف عنده ضمنه، فإذا تساوى الحقان جاء التقاص.
الشرط الخامس: اشترط فقهاء الشافعية في الحق إذا كان دينا أن يكون دينا لآدمي، أما دين الله تعالى كالزكاة، والكفارة إذا امتنع المالك من أدائها وظفر الفقير أو غيره من المستحقين للزكاة أو الكفارة بجنسها من ماله فليس له حق الأخذ2.
1 الشرح الصغير، ج5، ص60، 61.
2 مغني المحتاج، ج4، ص461، 462.
إن كان الحق منفعة:
بين فقهاء الشافعية أن المنفعة كالعين إذا كانت واردة على عين، فله أن يستوفيها من هذه العين بنفسه إن توفرت الشروط المطلوبة في الاستيفاء بدون القضاء، وأما إن كانت المنفعة واردة على ذمة فهي كالدين، فإن قدر على تخليصها بأخذ شيء من ماله فله ذلك بشروطه.
المأخوذ إما أن يكون من جنس حقه أو لا:
المأخوذ إذا كان من جنس حقه كما لو كان غصب منه قمحا فوجد قمحا للغاصب فأخذ منه مقدار المغصوب فإنه يتملكه بدلا عن حقه.
وأما إن كان المأخوذ من غير جنس حقه فإنه يبيعه بنفسه مستقلا؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وله أن يوكل شخصا آخر في بيعه.
هذا هو الرأي القوي في فقه الشافعية، ويوجد رأي آخر يقول بوجوب رفعه إلى قاض لبيعه فلا يبيع هو بنفسه مستقلا؛ لأنه لا يصح أن يتصرف في مال غيره لنفسه.
هذا الخلاف بين فقهاء الشافعية في صورة ما إذا لم يطلع القاضي على الحال، وأما لو كان القاضي مطلعا عليه فلا يصح له أن يبيعه باتفاق فقهاء الشافعية.
المأخوذ مضمون عليه:
بين فقهاء الشافعية أن المأخوذ مضمون على الأخذ على الرأي الراجح من
رأيين لفقهاء الشافعية.
وعلى هذا يكون ضامنا له إذا تلف قبل تملكه وبيعه، بالأكثر من قيمته من حين أخذه إلى حين تلفه، قياسا على الغاصب؛ لأنه أخذه بغير إذن المالك لنفسه.
والرأي الثاني لفقهاء الشافعية أنه لا يضمنه إلا إذا فرط في المحافظة عليه من التلف، وعلل لهذا الرأي بأنه أخذ ما يتوثق من حقه، وليتوصل إليه كالمرتهن إذا أخذ المرهون، وما دام الشارع قد أذن له في الأخذ فإن إذن الشارع يقوم مقام إذن المالك.
وعلى الرأي الأول يحسن أن يبادر إلى بيع ما أخذه بحسب الإمكان، فإن قصر في ذلك فنقصت قيمته ضمن النقصان ولو انخفضت القيمة وارتفعت وتلف فالقيمة مضمونة عليه بالأكثر.
وبين الشافعية أن هذا الخلاف فيما لو تلف قبل أن يتمكن من البيع، وأما إذا تمكن من البيع لكنه لم يفعل فإنه يضمن باتفاق الآراء عندهم.
وقال الشافعية أيضًا أن محل الخلاف بينهم فيما لو كان المأخوذ من غير جنس الحق، أما لو كان المأخوذ من جنس حقه فإنه يضمنه ضمان يد بلا خلاف عندهم أيضا، لحصول ملكه بالأخذ عن حقه.
ومعنى كونه مضمونا عليه قبل بيعه أنه لو حصل في الشيء المأخوذ
زيادة قبل البيع، كما لو ولدت البقرة مثلا كانت هذه الزيادة داخلة في ملك المأخوذ منه.
لا يأخذ المستحق فوق حقه إن أمكنه الاقتصار:
بين العلماء أنه لا يجوز للمستحق أن يأخذ فوق حقه إذا كان يمكنه الاقتصار على قدر حقه؛ لأن المقصود هو الحصول على الحق، وقد حصل هذا المقصود، فإن أخذ زيادة عن حقه كان ضامنا للمقدار الزائد؛ لأنه تعدى بأخذ هذا المقدار الزائد.
أما إذا لم يمكنه أن يقتصر على قدر حقه، بأن كان لم يتمكن إلا من الظفر بمتاع تزيد قيمته على حقه، فله أن يأخذه، وبين الشافعية أنه لا يكون ضامنا للزيادة؛ لأنه لو لم يأخذها لحقه الضرر.
ثم إن كان يتعذر عليه أن يبيع قدر حقه فقد كان من حقه أن يبيع الجميع، ويأخذ من الثمن مقدار حقه، ويجب عليه أن يرد ما زاد عن مقدار حقه، فيرد الزيادة على غريمه بصورة الهبة ونحوها.
وأما إن كان لا يتعذر عليه أن يبيع قدر حقه فإنه يجب عليه أن يبيع منه هذا القدر، ووجب عليه أن يرد إلى غريمه ما زاد عن ذلك.
يرى الشافعية جواز أخذ مال غريم الغريم:
إذا كان لخالد مثلا دين على أحمد، ولأحمد على عمر مثله، فإن الشافعية
أجازوا أن يأخذ خالد من مال عمر ما يستحقه على أحمد، واشترطوا لذلك عدة شروط:
الأول: أن لا يكون مستطيعا للظفر بمال الغريم.
الثاني: أن يكون غريم الغريم هو أيضًا جاحدا للحق، أو ممتنعا أيضًا كالغريم.
الثالث: أن يحيط الآخذ غريمه علما بأنه أخذ حقه من مال غريمه، حتى إذا طالبه الغريم بعد ذلك كان هو الظالم.
الرابع: أن يعلم غريم الغريم، فيعلمه فيما بينه وبينه1.
وبهذا نكون قد انتهينا من مباحث الفصل الثالث، وننتقل الآن إلى الفصل الرابع الذي خصصناه للكلام عن أصول في القضاء الإسلامي.
1 مغني المحتاج، ج4، ص461، وما بعدها.