الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوسيلة السادسة: القسامة
تعريف القسامة عند العلماء
مدخل
…
الوسيلة السادسة: القسامة
القسامة بفتح القاف والسين من غير تشديد، ومعناها الأيمان، وكلمة "القسامة" مشتقة من القسم وهو اليمين، كاشتقاق كلمة "الجماعة" من الجمع، وقد حكى إمام الحرمين الجويني أن القسامة عند الفقهاء اسم للأيمان، وعند أهل اللغة اسم للحالفين، وقد صرح بذلك صاحب القاموس، وقال صاحب المصباح المنير:
"والقسامة -بالفتح- الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم، يقال: قتل فلان بالقسامة إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل فادعوا على رجل أنه قتل صاحبهم، ومعهم دليل دون البينة، فحلفوا خمسين يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فهؤلاء الذين يقسمون على دعواهم يسمون قسامة أيضًا"1.
فإذا حدثت جريمة قتل، ولم يوجد شهود شهدوا هذه الحادثة، وادعى أولياء القتيل على رجل أنه القاتل بناء على أمر أو أمور لم تصل إلى مرتبة البينة كوجود عداوة بين القتيل وبين المدعى عليهم، فهل تسمع دعوى أولياء القتيل أم لا يسمعها القاضي، وتصير الجريمة ضد مجهول؟
هنا نجد في الفقه الإسلامي فريقا من العلماء يرون أن الأيمان في هذه الحال تقوم مقام البينة، وفريقا آخر لا يرى هذا الرأي، والذين يرون أن الأيمان تقوم مقام البينة مختلفون فيمن يتوجه إليهم الأيمان، هل هم أولياء الدم فيقسمون خمسين يمينا أن الذي ادعوا عليه قيامه بجريمة القتل هو القاتل، أم أن الذين يقومون بالحلف هم المدعى عليهم.
بهذا الرأي قال فريق من العلماء، وبالرأي الآخر قال فريق ثان منهم. هذا عند القائلين بأن الأيمان في هذه القضية تقوم مقام البينة، ثم هناك في الفقه الإسلامي فريق ثالث يرى أنه لا يستحق بالقسامة إلا دفع الدعوى فقط.
تعريف القسامة عند العلماء:
عرفها الحنفية وهم من القائلين بأن الأيمان توجه إلى المدعى عليهم بأنها:
1 المصباح المنير، للفيومي، مادة: قسم.
"أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار، أو موضع خارج من مصر، أو قرية قريب منه، بحيث يسمع الصوت منه، إذا وجد في شيء منها قتيل به أثر لا يعلم من قتله، يقول كل واحد منهم: بالله ما قتلت، ولا علمت له قاتلا"1.
وعرفها المالكية وهم من القائلين بأن الأيمان تتوجه إلى أولياء الدم بأنها حلف خمسين يمينا أو جزءًا منها على إثبات الدم2.
وعرفها الشافعية وهم أيضًا من الفريق الذي يرى أن الأيمان توجه إلى أولياء الدم بأنها اسم للأيمان التي تقسم على أولياء الدم3.
وعرفها الحنابلة بأنها "الأيمان المكررة في دعوى القتل"4.
هذا، وجمهور فقهاء الأمصار يرون وجوب الحكم بالقسامة على الجملة، أي: مع اختلافهم في بعض أمور فيها، ومن الجمهور مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وداود الظاهري، وأتباع هؤلاء العلماء، وغيرهم من فقهاء الأمصار، ويرى سالم بن عبد الله، وأبو قلابة، وعمر بن عبد العزيز، وابن علية أنه لا يجوز الحكم بالقسامة5.
دليل مشروعيتها عند القائلين بها:
ثبتت مشروعية القسامة عند القائلين بها بالسنة الشريفة، فروي عن أبي
1 بدائع الصنائع ج10، ص4735، وفتح القدير، ج8، ص384.
2 مواهب الجليل شرح مختصر خليل ج6، ص273.
3 مغني المحتاج ج4، ص109.
4 المغن ج10، ص2.
5 بداية المجتهد لابن رشد ج2، ص522.
سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية. رواه أحمد، ومسلم، والنسائي.
وعن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومُحيِّصة1 بن مسعود إلى خيبر وهو يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة، وحُويِّصة2 ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: كبر، كبر3، وهو أحدث القوم، فتكلما، قال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: وكيف نحلف ولم نشهد "أي: لم نشهد الجريمة وقت حدوثها" ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله4 النبي صلى الله عليه وسلم من عنده5، وفي رواية متفق عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على
1 بضم الميم وكسر الياء مشددة، ومخففة، لغتان مشهورتان.
2 بضم الحاء وتشديد الياء وتخفيفها، لغتان مشهورتان.
3 أي: دع من هو أكبر منك سنا يتكلم.
4 عقله، أي: أعطى ديته.
5 من عنده يحتمل أن يكون من خالص مال الرسول صلى الله عليه وسلم، صادف في بعض الأحوال أن كان هذا المال عنده، ويحتمل أنه من مال بيت المال ومصالح المسلمين، صحيح مسلم بشرح النووي.
رجل منهم فيدفع برمته" 1. فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم"، قالوا: يا رسول الله، قوم كفار؟.
وفي لفظ لأحمد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تسمون قاتلكم، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا، ثم نسلمه".
وفي رواية متفق عليها: "فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتله"، قالوا: ما لنا من بينة، قال:"فيحلفون"، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه2 بمائة من إبل الصدقة3.
فهذه الأحاديث الشريفة دليل على مشروعية القسامة، وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة، والتابعين، والعلماء من الحجاز، والكوفة، والشام، ومن هؤلاء مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وسفيان الثوري، وداود، وأصحابهم، وغير ذلك من فقهاء الأمصار. وقد اتفق هؤلاء على مشروعية القسامة في الجملة، لكنهم مختلفون في التفاصيل.
فإذا وجد شخص مقتولا في محلة قوم4، أو بلدة صغيرة لأعدائه، لا يسكنها غيرهم، ولا يعرف قاتله، ولا توجد بينة بقتله، وادعى وليه القتل على أهل
1 الرمة: الحبل الذي يربط به من عليه القصاص. المغني، ج8، ص77، وقال في المصباح:"والرمة بالضم: القطعة من الحبل، وبه كني ذو الرمة، وأخذت الشيء برمته أي: جميعه، وأصله أن رجلا باع بعيرا وفي عنقه حبل، فقيل: ادفعه برمته، ثم صار كالمثل في كل ما لا ينقص ولا يؤخذ منه شيء" المصباح المنير، مادة: رمم.
2 فوداه أي: دفع ديته، وإنما وداه الرسول صلى الله عليه وسلم قطعا للنزاع، وإصلاحا لذات البين، فإن أهل القتيل -كما قال النووي- لا يستحقون إلا أن يحلفوا أو يستحلفوا المدعى عليهم، وقد امتنعوا من الأمرين، وهم مكسورون بقتل صاحبهم فأراد الرسول جبرهم وقطع المنازعة.
3 نيل الأوطار، ج7، ص183، 184.
4 محلة القوم، المكان الذي ينزله القوم.
هذا المكان الذي وجد به القتيل، ادعاه عليهم كلهم أو على بعضهم فيرى الشافعية أن يحلف المدعي الوارث على القتل الذي ادعاه خمسين يمينا1، فإذا حلف على أن القتل كان خطأ أو شبه عمد، وجبت دية على العاقلة، وإذا حلف على أن القتل كان عمدا وجبت دية حالة على المقسم عليه، ولا يجب القصاص على القول الجديد للشافعي، وهذا الرأي أيضًا مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، وغيرهم2.
وقد استند هذا الرأي إلى ما يأتي:
أولا: قول النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه البخاري: "إما أن تدوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب" فقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم إيجاب الدية، ولم يفصل بين ما إذا كان القتل خطأ أو غيره، ولو كانت الأيمان صالحة للقصاص لذكر القصاص.
ثانيا: القسامة حجة ضعيفة، فلا توجب القصاص، احتياطا لأمر الدماء، كالشاهد واليمين.
وأما القول القديم للشافعي في بغداد قبل أن ينتقل إلى مصر فهو وجوب القصاص في الدعوى بقتل العمد، وهو أيضًا ما يراه مالك وأصحابه، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وأبو ثور، وداود الظاهري.
وقد استند هذا الرأي إلى ما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله -صلى الله
1 وإذا كان للقتيل ورثة خاصة وزعت الأيمان الخمسون عليهم بحسب الإرث.
2 صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص143، 144.
عليه وسلم قال: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"؟ أي: دم قاتل صاحبكم.
مناقشة هذا الاستدلال:
أجيب عن هذا الاستدلال بأن التقدير: بدل دم صاحبكم، وعبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدم عن الدية؛ لأنهم يأخذونها بسبب الدم1.
القسامة ليست محل اتفاق بين العلماء:
ذهب إلى مشروعية القسامة جمهور الصحابة والتابعين والعلماء، وقد اتفق هؤلاء على مشروعية القسامة في الجملة، لكنهم اختلفوا في التفاصيل.
ويرى جماعة من العلماء من سلف الأمة أن القسامة غير ثابتة، فلا حكم ولا عمل بها، وممن روى عنهم هذا الرأي أبو قلابة، وسالم بن عبد الله، وسلمان بن يسار، وإبراهيم بن علية، والبخاري، وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه.
وعمدة جمهور العلماء ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث حويصة ومحيصة، إلا أنهم مختلفون في ألفاظه.
وأما القائلون بأن القسامة غير ثابتة فيعللون هذا الرأي بأنها مخالفة لأصول الشريعة التي أجمع عليها العلماء من وجوه:
منها أن البينة على المدعي واليمين على المنكر في أصل الشرع.
ومنها أن اليمين لا تجوز إلى على ما علمه الإنسان قطعا بالمشاهدة الحسية أو ما
1 مغني المحتاج، ج4، ص114 وما بعدها.
يقوم مقامها، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل، بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر.
ولهذا روى البخاري1 عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أذن للناس فدخلوا عليه فقالوا: ما تقولون في القسامة؟ قالوا: نقول: إن القسامة القود بها "أي: القصاس بها" حق، قد أقاد بها الخلفاء2 فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟
…
فقلت: يا أمير المؤمنين، عند أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا، قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا.
وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهادتهم؟ قال أبو قلابة: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: إنهم إن أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا.
وأيضًا فإنه لم يرد في تلك الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالقسامة، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية، فتلطف لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم -أي: لولاة الدم وهم الأنصار: "أتحلفون خمسين يمينا"؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد، قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا كيف نقبل أيمان قوم كفار؟.
1 فتح الباري ج12، ص230.
2 المراد بالخلفاء، معاوية، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فتح الباري ج12، ص240.
فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشاهدوا لقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي السنة.
ثم قال أصحاب هذا الرأي: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة، ويتطرق إليها التأويل، فصرفها بالتأويل إلى الأصول الشرعية أولى1.
إجابة القائلين بمشروعية القسامة:
أجاب القائلون بمشروعية القسامة بأن القسامة أصل من أصول الشريعة مستقل، لورود الدليل بها، فتخصص بها الأدلة العامة، وفيها حفظ للدماء، وزجر للمعتدين، ولا يحل طرح سنة خاصة لأجل سنة عامة، وعدم الحكم في حديث سهل بن أبي حثمة لا يستلزم عدم الحكم مطلقا، فإنه صلى الله عليه وسلم قد عرض على المتخاصمين اليمين وقال إما أن تدوا2 صاحبكم وإما أن تأذنوا بحرب كما في رواية متفق عليها، وهو عليه الصلاة والسلام لا يعرض إلا ما كان مشروعا.
وأما ادعاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال تلطفا بهم وإنزالا لهم من حكم الجاهلية فادعاء باطل، كيف وفي حديث أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية3.
1 بداية المجتهد، ج2، ص465.
2 أي: تعطوا الدية.
3 نيل الأوطار، ج7، ص186.