الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعريف القرينة:
القرينة في اللغة لها معان متعددة، فمن معانيها النفس؛ وتسمى بذلك لأنها تقارن الإنسان وتصاحبه، ومنها الزوجة، فيقال: فلانة قرينة فلان، بمعنى زوجته؛ وهي كذلك لأنها تقارن الزوج وتلازمه طوال مدة الزوجية، وأما في اصطلاح أرباب العربية فهي: أمر يشير إلى المقصود، أو هي ما يدل على الشيء من غير الاستعمال فيه.
وهي إما حالية أو مقالية، وبعبارة أخرى إما معنوية أو لفظية، ومثال الحالية ما لو قلت لشخص يتجهز للسفر: في كنف2 الله ورعايته، فإن العبارة فيها حذف يدل عليه حال المسافر من تجهزه للسفر، وتأهبه له وهو القرينة الحالية، والتقدير: سر في كنف الله ورعايته، ومثال المقابلة، ما لو قلت: رأيت أسدا يخطب في الناس يحثهم على الجهاد، فالمراد من هذا التعبير الرجل الشجاع، والدليل ذكر الخطابة التي لا يمكن أن تكون من الأسد الحقيقي، وهذا قرينة مقالية3.
1 محاضرات في علم القاضي والقرائن وغيرهما للدكتور عبد العال عطوة، ص29-31، مكتوبة بالآلة الكاتبة.
2 الكنف -بفتح الكاف والنون- معناه في اللغة: الجانب. والجمع أكناف، مثل سبب وأسباب. المصباح المنير.
3 حجية القرائن في القانون والشرعية للشيخ فتح الله فتح الله زيد، رسالة للأستاذية مقدمة إلى كلية الشريعة بالأزهر سنة1355، مكتوبة بالخط الرقعة، ص70، وهي بمكتبة كلية الشريعة والقانون بالقاهرة، برقم42.
هذا ولم أجد كما لم يجد من سبقني في الكلام عن القرينة، من العلماء الأفاضل واطلعت على كتاباتهم فيها، تعريفا لفقهائنا القدامى للقرينة، على الرغم من أنهم ذكروا صورا فقهية كان الحكم فيها مبنيا على القرينة.
ويعزو ذلك أحد فقهائنا المحدثين1، إلى وضوح معناها وعدم الخفاء فيها، ولعلهم -كما يبين هذا الفقيه الفاضل- اكتفوا بعطف التفسير والمرادف عن بيانها، إذ كثيرا ما يتبعون القرينة بكلمتي الأمارة والعلامة، وكأنهم بهذا يريدون أن يبينوا أن القرينة هي الإمارة والعلامة. وقد اجتهد الفقهاء المعاصرون في إيجاد تعريف للقرينة، وقد تنوعت تعريفاتهم لها، وإليك بعضا منها.
عرفها الشيخ فتح الله زيد بأنها "الأمارة" التي نص عليه الشارع أو استنبطها أئمة الشريعة باجتهادهم2، أو استنتجها القاضي من الحادثة وظروفها وما يكتنفها من أحوال3.
ويلاحظ على هذا التعريف أنه ورد فيه كلمة "الأمارة" والأمارة تدل على
1 الشيخ فتح الله فتح الله زيد في رسالته، "حجية القرائن"، ص8.
2 مثال الأمارة التي نص عليها الشارع سكوت البكر فإنه إذن في زواجها، والفراش فإنه يثبت النسب من صاحبه، ومثال الأمارة التي استنبطها العلماء باجتهادهم إهداء المرأة ليلة الزفاف إلى الزوج الذي لم يرها قبل ذلك فإنه يحل له الدخول بها ولو لم يشهد شاهدان على أنها زوجته.
3 حجية القرائن، ص8، للشيخ فتح الله زيد.
الشيء على سبيل الظن، فلا تشمل ما تدل عليه على سبيل الشك أو الوهم1، مع أن القرينة قد تكون دلالتها على سبيل الشك، أو الوهم.
ومثال القرينة التي تفيد شكا وجود رجل وامرأة أجنبية عنه في مكان مظلم ليلا، خال بعيد عن الناس، ولم ير أحد ما يدل على أنهما ارتكبا جريمة الزنا، ومثال القرينة التي تفيد وهما، ما لو سافر رجل مع من يحبها على طائرة، فمن الوهم احتمال ارتكابهما جريمة الزنا أثناء طيران الطائرة، حتى لو كان السفر ليلا ولمسافة طويلة جدا، ونوم جميع الركاب.
فالقرينة -إذن- قد تكون دلالتها في بعض الصور على سبيل الشك أو الوهم، والتعريف المذكور للقرينة قصر معناها على "الأمارة" والأمارة تدل على الشيء على سبيل الظن: لا على سبيل الشك أو الوهم، مع أن القرينة قد تدل على واحد من الأمور الثلاثة: الظن، والشك، والوهم، وعلى هذا فالتعريف غير جامع. والشرط في التعريف أن يكون جامعا مانعا، جامعا لكل أفراد المعرف، مانعا من دخول المعرف فيه، فإذا عرفنا الإنسان مثلا بأنه حيوان يتكلم العربية، فهذا تعريف غير جامع؛ لأن من أفراد الإنسان من لا يتكلم العربية ويتكلم الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما، ولهذا فمن التعاريف الصحيحة أن نقول: الإنسان حيوان
1 الأمارة في اللغة العلامة، وزنا ومعنى، وأما في الاصطلاح، فهي التي يلزم من العلم بها الظن بوجود المدلول، كالسحاب بالنسبة إلى المطر، فإنه يلزم من العلم بالسحاب الظن بوجود المطر، وفرق العلماء بين الأمارة والعلامة، بأن العلامة هي ما لا ينفك عن الشيء، كوجود الألف واللام على الاسم، فمن علامات الاسم وجود الألف واللام، مثل: المدرسة، والمسجد، والقلم، وهكذا، والأمارة تنفك عن الشيء، كالسحاب بالنسبة للمطر، فقد يوجد السحاب ولا يوجد المطر، بعكس الألف واللام فكلما وجدت الألف واللام وجد الاسم. المصباح المنير، للفيومي، والتعريفات للجرجاني، ص20.
ناطق، وإذا قلنا: الإنسان حيوان يأكل الخضروات فهذا تعريف غير مانع؛ لأنه يدخل في التعريف حيوانات أخرى غير الإنسان، فلا يكون التعريف مانعا.
فالشرط في التعريف كما بينا أن يكون جامعا مانعا، والتعريف المذكور للقرينة لم يكن جامعا لكل أفرادها.
ونفس هذه الملاحظة من الممكن أن توجه إلى ما جاء في المجلة العدلية خاصا بتعريف القرينة، ففي المادة 741 أن القرينة هي الأمارة البالغة حد اليقين.
وعرفها الأستاذ مصطفى الزرقا والدكتور وهبة الزحيلي بأنها: "كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيا فتدل عليه".
ويلاحظ على هذا التعريف أن فيه دورا، والدور باطل، بيان الدور أنه من المعلوم أن التعريف يقصد به توضيح حقيقة المعرف، فالمعرف لا يفهم معناه إلا إذا فهم التعريف، فلو كان التعريف أيضًا لا يفهم إلا إذا فهم المعرف حصل الدور، وهذا ما حدث هنا، فإنه ذكر في تعريف القرينة كلمة "تقارن" وكلمة "تقارن" لا تفهم إلا إذا فهمنا كلمة "قرينة" فصار فهم التعريف متوقفا على فهم المعرف، ومعلوم أن فهم المعرف متوقف على فهم التعريف، فيحدث الدور، والدور باطل؛ لأنه يستلزم أن يكون الشيء سابقا لشيء آخر ولاحقا في نفس الوقت، وهذا تناقض.
كما يلاحظ على هذا التعريف أيضا نفس الملاحظ التي لوحظت على تعريف الشيخ فتح الله زيد، والتعريف الذي جاء في المجلة العدلية.
وعرفها الدكتور عبد العال عطوة بأنها "ما تدل على أمر خفي مصاحب لها بواسطة نص، أو اجتهاد، أو فهم يفيضه الله تعالى على من يشاء من عباده" ويمكن أن يستخلص من هذا التعريف الأخير -وهو الذي نرتضيه- أن للقرينة ثلاثة أركان، وهي التي سنذكرها فيما يلي، لكن نحب قبل أن نذكر هذه الأركان أن نشير إلى أنه من المستحسن أن تزاد كلمة "من الفقهاء" بعد كلمة "أو اجتهاد".
الأول: الأمر الظاهر "الدال".
الثاني: الأمر الخفي، الذي دل عليه الأمر الظاهر، وهو المجهول في بادئ الأمر "المدلول".
الثالث: الصلة الموجودة بين الأمر الظاهر وبين الأمر الخفي، التي يتوصل بها إلى معرفة الأمر الخفي.
وتتضح هذه الصلة وتبين إذا توفرت قوة الذهن، والفطنة، واليقظة، وبما يفيضه الله تبارك وتعالى على عباده من المواهب العقلية، وهذا في غير القرائن التي نص الشرع عليها في القرآن أو السنة، أو استنبطها علماء الشريعة باجتهادهم1.
1 المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقا، ج2، ص918، والفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي، ج6، ص782، ومحاضرات في علم القاضي والقرائن للدكتور عبد العال عطوة، ص28، 29، ومن طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص72.