الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثاني: البينة على المدعي واليمن على من انكر، الأصل الثالث: حكم القاضي لا يجرم حلالا ولا يحل حراما
…
الأصل الثاني: البينة على المدعي واليمين على من أنكر
وهذا الأصل تكلمنا عنه سابقا بما فيه الكفاية، عند الكلام عن نظام الفصل في الدعوى، ولا حاجة تدعونا إلى إعادة ما قلناه هنا، فليرجع إليه هناك.
الأصل الثالث: حكم القاضي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما
هل القضاء إظهار لحكم الله تبارك وتعالى، أو هو إثبات لحكم المدعى به وإنشاء له، أو بعبارة أخرى: إذا حكم القاضي في قضية من القضايا بشيء للمدعي فهل يصبح هذا الشيء الذي قضى به حلال للشخص الذي حكم له القاضي، بصرف النظر عما إذا كان الشخص يستحق ما قضى به القاضي في الواقع ونفس الأمر أم لا؟ أم لا بد لكي يكون الشيء الذي قضى به القاضي حلالا أن يكون في الواقع مستحقا له فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى؟
هذه مسألة من المسائل التي اختلف العلماء فيها، وقبل أن نبين ما يراه علماؤنا رضي الله عنهم، نحب في البداية أن نوضح الأمور التي يقضي فيها القاضي، لكي يكون ذلك مدخلا لذكر آراء العلماء وأدلتهم في هذه المسألة.
الأمور التي يقضي القاضي فيها متنوعة وكثيرة نذكر منها هنا:
1-
العقود، كالزواج والبيع والإجارة والرهن وغير ذلك من العقود.
2-
الفسوخ، والمراد بها كل ما يرفع حكم العقد، وهذا شامل للطلاق.
3-
الأملاك المرسلة: أي: المطلقة عن إثبات سبب الملك، كأن ادعى ملكا مطلقا في دار، أو في أرض، أو في طعام، من غير تعيين بشراء أو إرث.
4-
الأملاك غير المرسلة: أي: التي ذكر لها سبب معين، كالزواج والبيع والإجارة.
والشهادة -كما سبق بيانه- إحدى وسائل الإثبات التي يحكم القاضي بمقتضاها، ولا بد من توفر شروط في الشهود لكي تصح الشهادة، وقد تكلمنا عن هذه الشروط وذكرنا آراء العلماء في بعض الشروط المختلف فيها، عند كلامنا عن البينة بوصفها إحدى وسائل الإثبات.
فإذا ظهر أن الشهود لم تتحقق فيهم الشروط المطلوبة شرعا كأن تبين أنهم كفار في الشهادة على المسلمين في غير الوصية في السفر، فإنه -بإجماع العلماء- لا ينفذ حكم القاضي لا ظاهرا ولا باطنا، ومعنى باطنا أي: فيما بيننا وبين الله تبارك وتعالى.
وأما إذا لم يظهر ما يمنع من قبول شهادة الشهود، ولكنهم كانوا في الواقع شهود زور، وطرفا القضية يعلمان أنهما شهود زور، ولا يعلم القاضي أنهما شهود زور فحكم بمقتضى شهادتهم بناء على ظنه عدالتهم، فهل حكم القاضي حينئذ ينفذ ظاهرا وباطنا؟ أم أنه لا ينفذ إلا ظاهرا فقط، وعلى طرفي القضية أن يتبعا ما
هو في الحقيقة وواقع الأمر حسب علمهما؟.
هذه مسألة اختلف حولها العلماء كما ذكرنا، وقد اتفقوا على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا إذا كان الشهود شهود زور فيما يلي:
1-
الأملاك المرسلة، والدين الذي لم يبين سببه، فلا ينفذ الحكم إلا ظاهرا فقط بإجماع العلماء؛ لأن لا بد لثبوت الملك من سبب، وأسباب الملك كثيرة، ولا يمكن القاضي تعيين شيء منها إلا بالحجة المثبتة لذلك، فلم يكن القاضي مكلفا بالقضاء بالملك، وإنما هو ملكف بأنه يقصر يد المدعى عليه عن الشيء المدعى، وذلك نافذ منه ظاهرا، فأما أن ينفذ باطنا بمنزلة إنشاء جديد، فليس للقاضي القدرة عليه بلا سبب شرعي، وعلى هذا لا يحل للمقضي له أن يستمتع بالجارية التي حكم له القاضي بملكيتها ولا يحل له أن يأكل مما حكم به القاضي له، ولا أن ينتفع به انتفاع المالك، كأن يلبسه إذا كان المقضي به من الملبوسات أو غير ذلك من أنواع الانتفاع التي هي حق لمالك الشيء.
وفي نفس الوقت يحل للمقضي عليه أن يأكل من هذا الشيء أو يلبسه إذا كان مما يلبس، أو ينتفع به انتفاع المالك، لكن يفعل ذلك سرا، وإلا فسقه الناس. ومثل الأملاك المرسلة الإرث.
2-
إذا كانت شهادة الزور في الأملاك بسبب، وذكر السبب وكان سببا لا يمكن إنشاؤه كالإرث، فلا ينفذ القضاء باطنا أيضًا باتفاق العلماء.
واختلف العلماء في المحكوم فيه إذا كان من الأمور التي للقاضي مدخل فيها
كالعقود والفسوخ، كالزواج والطلاق على رأيين.
أحدهما ما يراه أبو حنيفة، وهو أن حكم القاضي إثبات الحكم المدعي وإنشاء له، فيجوز أن ينفذ فيها ظاهرا وباطنا، وربما عبر بعض الحنفية عن هذا بأن قضاء القاضي يغير الحكم عند الله.
الثاني: ما يراه جمهور العلماء، وهو أن لا ينفذ القضاء بشهادة شهود الزور باطنا، فحكم الحاكم -قاضيا أو غيره- لا يزيل الشيء عن صفته، فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وربما عبروا عن هذا بأن قضاء القاضي لا يغير الأحكام الشرعية عن حقائقها الموضوعة عند الله تعالى، وبأن القضاء ينبني على الحجة، فإن كانت حجة حقيقية ظاهرا، وباطنا، نفذ الحكم ظاهرا وباطنا، وإن كانت حجة في الظاهر فقط لم ينفذ إلا في الظاهر فقط.
ومن الجمهور مالك والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود الظاهري، وغير هؤلاء، ووافق الجمهور في هذا الرأي من الحنفية أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر1.
فلو شهد شاهدان زورا بزواج رجل بامرأة وهي تنكر، فحكم القاضي بصحة هذا الزواج بشهادة هذين الشاهدين عملا بظاهر عدالتهما إذا كان القاضي لا يرى وجوب البحث عن العدالة في الشاهد بأن كان قاضيا حنفيا، أو كان قاضيا
1 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص122، وحاشية الدسوقي، ج4، ص156، وأدب القاضي للخصاف شرح الجصاص، ص216، ومغني المحتاج، ج4، ص397، والمغني، ج1، ص407، 408، وكشاف القناع، ج6، ص352، والشرح الصغير، ج4، ص223، والأشباه والنظائر لعبد الوهاب بن السبكي، ج2، ص300.
يرى وجوب البحث عن عدالة الشهود، كالمالكي والشافعي، لكن عجزت المرأة عن تجريح الشاهدين، فإن أبا حنيفة -رضي الله تعالى عنه- يرى أنه يحل للرجل الذي حكم له القاضي بصحة الزواج أن يستمتع بالمرأة استمتاع الزوج بزوجته.
ويرى جمهور العلماء عدم جواز استمتاع المحكوم له بهذه المرأة؛ لأنها ليست زوجته في الواقع فيما بينه وبين الله، وعليها أن تمتنع منه وتهرب ما أمكنها، فلا يحل لها أن تمكن من نفسها، وعليها أن تدفعه كما يدفع الصائل على البضع1، وقال العلماء عليها أن تصده عن نفسها حتى لو قتلته جاز لها ذلك.
وكذلك لو أن رجلين تعمدا الشهادة زورا على رجل أنه طلق امرأة ثلاثا، والزوج منكر لذلك، فقبل القاضي شهادتيهما ظانا عدالتهما، ففرق بين الزوجين، جاز عند أبي حنيفة لأحد الشاهدين زواجها بعد انقضاء عدتها وهو يعلم بتعمده الكذب.
وجمهور العلماء يحرمون عليه ذلك، لكن بعض فقهاء الحنفية صرح بأن الفتوى في الفقه الحنفي في هذه المسألة كما يقول أبو يوسف، ومحمد، وزفر، وجمهور العلماء، لا كما يقول أبو حنيفة، نظرا لظهور أدلة الجمهور بالنسبة لدليل أبي حنيفة، على الرغم من مبالغة السرخسي أحد أشهر علماء الحنفية في كتابه
1 إذا شرع إنسان في الاعتداء على إنسان آخر يضرب أو إرادة قتل، أو نهب مال، أو هتك عرض، فهذه جريمة صيال، والمعتدي يسمى صائلا، والمعتدى عليه يسمى مصولا عليه، ويجوز للمصول عليه أن يدفع الصائل بكل وسيلة، ولو باستعمال القوة على أن يتبع الأخف فالأخف، وإذا أراد الاعتداء على العرض ولم يندفع إلا بقتله جاز قتله.
"المبسوط" ومبالغة غيره من علمائهم في توجيه رأي أبي حنيفة1.
ما يشترط لنفاذ القضاء ظاهرا وباطنا عند أبي حنيفة:
يشترط شرطان لنفاذ القضاء ظاهرا وباطنا عند أبي حنيفة في الدعاوى التي يرى أنه ينفذ ظاهرا وباطنا فيها:
الشرط الأول: أن يكون المحل قابلا للحكم الذي قضى به القاضي، فلو لم يكن المحل قابلا للحكم فلا ينفذ الحكم باطنا باتفاق العلماء، وذلك كما لو ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، وشهد له شاهدان زورا بذلك، فحكم القاضي بالزوجية مع أنه يعلم أن هذه المرأة محرمة على هذا الرجل، بسبب من أسباب التحريم، ككونها زوجة لغيره، أو معتدة للغير، أو مرتدة عن الإسلام والعياذ بالله تعالى، أو أخته من الرضاع، فإن هذا الحكم لا يجوز تنفيذه باطنا؛ لأن المحل غير قابل لإنشاء العقد عليه.
الشرط الثاني: عدم علم القاضي بأن الشهود شهود زور، فلو كان القاضي يعلم أن هؤلاء الشهود شهود زور، فإن الحكم لا يجوز تنفيذه أصلا، لا في الظاهر ولا في الباطن، وذلك لعدم تحقيق شرط صحة القضاء، وهو الشهادة الصادقة في غالب الظن عند القاضي.
ومثل الحكم بشهادة الزور ما لو حكم القاضي أيضًا بنكول المدعى عليه عن اليمين.
1 مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الله محمد بن سليمان المعروف بداما أفندي، ج2، ص170.
هذاه وقد اختلفت الرواية عن أبي حنيفة في قضاء القاضي في الهبة، والصدقة، وبيع الشيء بغبن فاحش، ففي رواية عنه أن قضاء القاضي لا ينفذ باطنا؛ لأن القاضي إنما يصير منشئا فيما له ولاية الإنشاء، وليس له ولاية إنشاء التبرعات في ملك الغير، أو البيع بغبن فاحش؛ لأن هذا يعد تبرعا1.
الاستدلال للآراء:
الاستدلال لرأي الجمهور.
استدل لرأي الجمهور بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون أحلن بحجته من بعض، فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار". متفق عليه.
وفي رواية: فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:"أما إذ فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحللا"2.
وهذا يدخل فيه ما إذا ادعى أنه اشترى منه شيئًا فحكم له القاضي به3.
1 فتح القدير، لابن الهمام، وشرح العناية على الهداية، ج7، ص706، والأصول القضائية في المرافعات الشرعية، للشيخ علي قراعة، ص306، الطبعة الثانية، مطبعة النهضة.
2 فتح الباري، ج13، ص174، قال ابن حجر العسقلاني ذاكرا فوائد الحديث:"وفيه أنه ربما أداه اجتهاده صلى الله عليه وسلم إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك، لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى الله عليه وسلم لثبوت عصمته".
3 المغني، ج11، ص408، 409.
الاستدلال لرأي أبي حنيفة:
استدل لرأي أبي حنيفة بالأدلة الآتية:
الدليل الأول: ما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن رجلا خطب امرأة فأبت، فادعى أنه تزوجها، وأقام شاهدين بين يدي علي بن أبي طالب فقضى له بذلك، فقالت المرأة: إنهما شهدا بالزور، فزوجني أنت منه، فقد رضيت، فقال علي: شاهداك زوجاك، وأمضى النكاح".
وجه الدلالة: أنه لو لم ينعقد العقد بين الرجل وهذه المرأة بقضاء علي لما امتنع علي من العقد عند طلبها ورغبة الرجل فيها، وقد كان في ذلك تحصينها من الزنا، وكان ذلك منه قضاء بشهادة الزور1.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن الاستدلال بهذا الأثر بأنه لم يثبت عن علي رضي الله عنه ذلك، بل لو صح ما نقل عن علي فلا حجة فيه؛ لأن عليا أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه، ولم يجبها إلى ما طلبته من تزويجها به؛ لأن في ذلك طعنا على الشهود، وهذا لا يقبل إلا بالبينة2.
الدليل الثاني: التفريق بين المتلاعنين، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين، مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به من الزنا، وكذلك يحتمل أن يكون الرجل كاذبا في اتهامها بالزنا وهي الصادقة في
1 فتح القدير، لابن الهمام، ج3، ص354.
2 كشاف القناع، ج6، ص352.
نفى هذه الجريمة عن نفسها، فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم، وكذلك لو كانت هي الكاذبة فلم تحرم عليه أيضا إلا بحكمه؛ لأن زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر الفقهاء، والحكم بالتفريق ينفذ ظاهرا وباطنا؛ لأنه يحرم على الزوج أن يجامع زوجته التي لاعن منها، ويحرم عليها كذلك أن تمكنه من نفسها، ويحل لها أن تتزوج غيره وتمكن هذا الغير من نفسها، وهذا هو معنى النفاذ في الباطن، مع أن الباطن في هذه الحال مخالف للظاهر، فهذا دليل على أن حكم القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا، وإن كانا في الواقع مختلفين.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأمرين:
الأول: أن الفرقة في اللعان تقع عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب، وأما حكم القاضي في غير هذه الحال فلا يقع عقوبة، فلا يصح القياس على اللعان، لوجود الفارق بينهما1.
الأمر الثاني: أن القاضي يفرق بين المتلاعنين؛ لأنه يعلم أن أحدهما كاذب قطعا، فهو ينشئ التفريق بينهما قاصدا متعمدا، وأما ما نحن فيه فليس كذلك؛ لأن القاضي لا يعلم أن الشهود شهود زور على الطلاق، أو الزواج، ولا تتوجه إرادته إلى الإنشاء، وإنما يحكم بناء على غالب ظنه أن البينة التي شهدت أمامه بينة عادلة تظهر الحق2.
1 فتح الباري ج13، ص175، وبداية المجتهد، ج2، ص566، 567.
2 نظرية الدعوى بين الشريعة الإسلامية وقانون المرافعات المدنية والتجارية القسم الثاني، ص235، للدكتور محمد نعيم ياسين.
الدليل الثالث: أن القاضي قد قضى بحجة شرعية في أمر من الأمور التي له ولاية الإنشاء فيها، فجعل الإنشاء تحرزا عن الحرام والحديث الذي استدل به الجمهور وهو حديث:"إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي" صريح في المال، وليس النزاع في الأموال، بل الأموال متفق على أن حكم القاضي فيها بناء على شهادة زور لا ينفذ باطنا؛ لأن القاضي لا يملك دفع مال شخص إلى شخص آخر، لكنه يملك إنشاء العقود، والفسوخ، فإنه يملك بيع جارية شخص لشخص آخر، حال الخوف من موتها للحفظ وحال غيبة سيدها، ويملك إنشاء الزواج على الصغيرة التي لا يوجد لها ولي، ويملك الفرقة بين الزوجين إذا ثبت أن الزوج به عيب العنة1، فيجعل قضاء القاضي إنشاء احترازا عن الحرام.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن شرط صحة الحكم وجود الحجة وإصابة المحل، وإذا كانت البينة في نفس الأمر شهود زور لم تحصل الحجة؛ لأن حجة الحكم هي البينة العادلة، فإن الشهادة إظهار الحق وحقيقة الحكم إنفاذ ذلك، وإذا كان الشهود كذبة لم تكن شهادتهم حقا.
الدليل الرابع: لو لم نقل بنفاذ الحكم باطنا فلو حكم القاضي بالطلاق لبقيت المرأة حلالا للزوج الأول باطنا وللثاني ظاهرا، فلو ابتلي الثاني بمثل ما ابتلي الأول حلت للثالث ظاهرا وهكذا، فتحل لجمع متعدد في زمن واحد، ولا يخفى فحش هذا بخلاف ما إذا قلنا بنفاذ الحكم باطنا فإنها لا تحل إلا لواحد.
1 العنة: عدم القدرة على انتشار عضو التذكير.
مناقشة هذا الدليل:
أجيب عن هذا بأن الجمهور إنما قالوا في هذا: تحرم على الثاني إذا علم أن الحكم ترتب على شهادة الزور، فإذا اعتمد الحكم وتعمد الدخول بالمرأة فقد ارتكب محرما، كما لو كان الحكم في الأموال، فأكل هذا المال الذي حكم له به، ولو ابتلي الثاني بمثل هذا الابتلاء كان حكم الثالث كذلك، والفحش إنما لزم من الإقدام على تعاطي المحرم، فكان كما لو زنوا في الظاهر واحدا بعد واحد1.
الرأي الراجح:
من الواضح أن ما ذهب إليه الجمهور هو الرأي الصحيح في هذه المسألة لعدة أمور: أولا: لقوة الاستدلال للجمهور بالحديث الصحيح.
ثانيا: لأن ما استدل به لأبي حنيفة رضي الله عنه لم يصمد للطعون الموجهة إليه، ويكفي في البرهنة على أن ما يقول به جمهور العلماء هو الرأي الصحيح أن الفتوى في المذهب الحنفي في هذه القضية على خلاف ما يراه أبو حنيفة، وأن أصحابه الثلاثة أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وزفر، لا يرون ما يراه إمام المذهب، وإنما يتفق رأيهم مع جمهور العلماء.
ثالثا: لا فرق في الحلال والحرام بين مال واستمتاع بامرأة أجنبية، فإذا كان حكم القاضي بشهادة الزور في الأموال لا يحلها، فكذلك يجب أن يكون الحكم في الأبضاع، قال الشافعي رضي الله عنه: "إنه لا فرق بين دعوى حل الزوجة لمن أقام بتزويجها شاهدي زور، وهو يعلم كذبهما، وبين من ادعى على حر أنه ملكه وأقام بذلك شاهدي زور، وهو يعلم حريته، فإذا حكم له الحاكم بأنه
1 فتح الباري ج13، ص176.
ملكه لم يحل له أن يسترقه بالإجماع".
رابعا: القول بأن حكم الحاكم يحل ظاهرا وباطنا بجانب مخالفته للحديث الصحيح فإنه يخالف أمرين قطعيين:
أحدهما: الإجماع السابق على عصر أبي حنيفة، فلم ينقل عن أحد من العلماء قبله -سواء أكان من الصحابة أم من التابعين- أنه يرى ما يراه أبو حنيفة.
ثانيهما: القاعدة التي أجمع عليها العلماء ووافقهم أبو حنيفة ومن يرى رأيه من الحنفية وهي "أن الإبضاع أولى بالاحتياط من الأموال".
وبعد، فنستعير من ابن حزم عبارته في كتابه "المحلى" بعد أن ذكر الحديث الذي استدل به جمهور العلماء، فنقول:"فإذا كان حكمه عليه الصلاة والسلام وقضائه لا يحل لأحد منا ما كان عليه حراما، فكيف القول في قضاء أحد بعده؟ "1.
ولا داعي لذكر بقية عبارة ابن حزم، فقد يفهم منها الإساءة إلى من يقول برأي أبي حنيفة، رضي الله تعالى عن جميع علمائنا.
ويقول القرطبي: "شنعوا على من قال ذلك قديما وحديثا لمخالفة الحديث الصحيح؛ ولأن فيه صيانة المال وابتذال الفروج، وهي أحق أن يحتاط لها وتصان"2.
1 المحلى، لابن الحزم، ج10، ص618.
2 فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص176.
بقي أن نقول إن علماءنا -رضي الله تعالى عنهم- بينوا أن قضاء القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا قطعا في الأمور التي اتفق عليها العلماء، وأما في الأمور التي اختلف العلماء فيها، كالشفعة مثلا، فإن الحنفية يرون أنها تكون للشريك، وللجار، والجمهور يرون أنها لا تكون للشريك، وكميراث ذوي الأرحام فإن المالكية وجمهور فقهاء الشافعية لا يورثونهم والحنفية، والحنابلة، وبعض فقهاء الشافعية يقولون بتوريثهم، نقول وأما في الأمور التي اختلف العلماء فيها فهناك رأيان أصحهما عند بعض العلماء أن حكم القاضي فيها ينفذ ظاهرا وباطنا حتى لو كان الحكم لمن لا يعتقد صحة هذا الحكم. قال أصحاب هذا الرأي: حتى تتفق الكلمة ويتم الانتفاع، وعلى هذا لو حكم قاض حنفي المذهب لشافعي بشفعة الجوار، أو بالإرث بسبب أنه من ذوي الأرحام، حل للشافعي -كما قال بعض العلماء- الأخذ بهذا الحكم، وليس للقاضي منعه من الأخذ بذلك، ولا من الدعوى به إذا أرادها، اعتبارا بعقيدة القاضي؛ ولأن هذا الأمر من الأمور المجتهد فيها، والاجتهاد إنما يكون -هنا- من القاضي لا من غيره1.
1 إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، لأحمد بن محمد القسطلاني، ج1، ص348. دار الفكر.