الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جعل أجر للقاضي من الخزانة العامة للدولة:
علماؤنا رضي الله عنهم مختلفون في هذه المسألة، فبعضهم يرى كراهة أخذ الأجر على القضاء، وبعضهم لا يكره أن يأخذ القاضي الأجر على القضاء. ومن هؤلاء الإمام الغزالي، قال في إحياء علوم الدين: كل من يتولى أمرا تتقوى به مصلحة المسلمين ولو اشتغل بالكسب لتعطل عليه ما هو فيه فله في بيت المال حق الكفاية، قال: ويدخل في ذلك العلوم كلها أعني التي تتعلق بمصالح الدين1.
وجواز الأجر على القضاء هو رأي جمهور العلماء، بين ذلك ابن حجر العسقلاني ثم نقل قول أبي علي الكرابيسي صاحب الشافعي:"لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق2 على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة، ومن بعدهم، وهو قول فقهاء الأمصار لا أعلم بينهم اختلافا".
1 الإحياء، ج2، ص139.
2 الرزق: ما يدفعه الحاكم من بيت المال "الخزانة العامة للدولة" لمن يقوم بمصالح المسلمين، وقيل: الرزق ما يخرجه الحاكم كل شهر للمرتزقة من بيت المال، والعطاء ما يخرجه كل عام "فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص160"
ومع أن الكرابيسي لم يبلغه اختلاف بين العلماء في هذه المسألة فإن فيها في الواقع اختلافا، وإن كان ذلك لم يبلغ الكرابيسي، بيّن هذا الاختلاف ابن حجر العسقلاني وغيره من العلماء، قال ابن حجر العسقلاني، في مجال بيان حكم رزق الحاكم:"ورخص الشافعي وأكثر أهل العلم، وعن أحمد: لا يعجبني، وإن كان، فبقدر عمله مثل ولي اليتيم، واتفقوا على أنه لا يجوز الاستئجار عليه" ا. هـ1.
فنخلص مما ذكرناه أن أكثر أهل العلم يرون جواز أخذ رزق من الخزانة العامة للقاضي، والبعض من العلماء يرون كراهة ذلك، ونقول أيضًا: إن بعض فقهاء الزيدية2 يرى أنه يحرم الأجرة على القضاء لمن تعين عليه، وكان عنده كفايته من النفقة، فإن لم تكن عنده كفايته وكان ذا حرفة يشغله القضاء عنها حل له أخذ الأجرة دفعا للضرر، فإن لم يتعين وله كفاية كره أخذ الأجرة؛ لأنه قربة.
هذه هي آراء العلماء، وإليك بيانا لدليل كل رأي.
الاستدلال للرأي القائل بكراهة أخذ الأجر على القضاء:
استدل لهذا الرأي بعدة أمور، منها:
أولا: القضاء هو أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وكان لا يجوز لمن أمر بمعروف أو نهى عن منكر أن يأخذ على فعله أجرا، فكذلك القاضي لا يأخذ على فعله أجرا؛ لأنه يفصل بين معروف ومنكر، وبين حق وباطل، قال المهلب: "وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى لنبيه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ
1 فتح الباري، لابن حجر، ج13، ص161.
2 البحر الزخار، لأحمد بن يحيى بن المرتضي، ج6، ص114.
عَلَيْهِ أَجْرًا} فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وصفه الله لنبيه"1.
ثانيا: المفتي لا يجوز له أن يأخذ أجرا على فتيا له؛ لأنه يأمر بحق وينهى عن باطل، فكذلك القاضي.
ثالثا: لا يجوز لأحد أن يأخذ أجرًا على تعليم الناس التوحيد والإسلام، فكذلك القضاء لا يأخذ عليه أجرا.
رابعًا: لئلا يدخل في هذا النوع من الحكم من لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس.
الاستدلال للرأي القائل بجواز أخذ الأجر:
استدل لهذا الرأي بما يأتي:
أولا: الجهاد في سبيل الله أمر مفروض على الناس أن يفعلوه، وخاصة الناس يقومون به دون العامة، ولا بأس أن يأخذ المجاهدون في سبيل الله أرزاقا من بيت المال، وهم إنما قاموا في ذلك بحق، وقاموا بفصل بين معروف ومنكر، وكذلك القضاء يجوز للقاضي أن يأخذ عليه أجرا.
ثانيا: أوجب الله تبارك وتعالى للعامل على الصدقة رزقا في عمالته، وجعل له سهما وحقا لقيامه وسعيه فيها، وقد قام عامل الصدقة بفرض من فروض الله عز وجل، إذ أخرج حقا من حقوقه، فاستحق بذلك سهما مفروضا، وكذلك القاضي يستحق سهما يفرض له.
1 فتح الباري. ج13، ص161.
ثالثًا: ثبت أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر، كانوا يأخذون لأنفسهم أرزاقهم من بيت مال المسلمين "الخزانة العامة للدولة" وكذلك من بعدهم من الخلفاء، فعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال: لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه".
وثبت أن عمر رضي الله عنه أخذ أيضًا وروي عنه قوله: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف. وأخرج الكرابيسي بسند صحيح عن الأحنف قال: كنا بباب عمر -فذكر قصة: وفيها- فقال عمر: "أنا أخبركم بما أستحل: ما أحج عليه وأعتمر، وحلتي الشتاء والقيظ، وقوتي وقوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا بأسفلهم" وكان شريح بن الحارث بن قيس النخعي الذي ولاه عمر قضاء الكوفة، ثم قضى لمن بعث بالكوفة زمنا طويلا، كان يأخذ على القضاء أجرا1.
رابعًا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما عامل استعملنا، وفرضنا له رزقا، فما أصاب بعد رزقه فهو غلول".
ثم قال أصحاب هذا الرأي: "وذلك واسع له، ومن تعفف عن ذلك فهو أفضل،
1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص161.
وأعلى منزلة إن شاء الله"1، وقال ابن القاص2: "وهذا كله إذا كان من مال الله من بيت مال المسلمين، فأما أن يجري له أهل عمله رزقا فلا يجوز له قبوله، وكذلك لو أجراه رجل منهم، أو أجراه السلطان من مال نفسه".
والرأي القائل بجواز أخذ الأجر هو ما نختاره، إذ إن القضاء يحتاج إلى انشغال القاضي بأمور الناس، وقد يترتب على هذا أن يترك كثيرا من أمور نفسه لا يتولاها بنفسه، وقد يؤثر ذلك على ما يعتمد عليه في الإنفاق على نفسه وعلى من يعولهم من زوجة، وأولاد، أو غيرهم.
وقد روى البخاري بسنده أن عبد الله بن السعدي أخبر أنه قدم على عمر في خلافته، فقال له عمر ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالا، فإذا أعطيت العمالة3 كرهتها؟ فقلت: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قلت: إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، قال عمر: لا تفعل، فإني كنت أردت الذي أردت، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالا فقلت:
1 فتح الباري، لابن حجر، ج13، ص160، 161 وأدب القاضي والقضاء، لأبي المهلب هيثم بن سلمان القيسي، تحقيق الدكتور فرحات الدشراوي، ص17، وأدب القاضي، لأحمد بن أبي أحمد الطبري، المعروف بابن القاص، ج1، ص109 تحقيق، د. حسين خلف الجبوري.
2 أدب القاضي، لابن القاص، ج1، ص109.
3 العمالة -بضم العين- أجرة العمل، وأما العمالة -بفتح العين- فهي نفس العمل. فتح الباري.
أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خذه فتموله وتصدق به"1. فما جاءك من هذا المال -وأنت غير مشرف ولا سائل2. فخذه، وإلا فلا تتبعه نفسك"3. قال الإمام الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة، والقضاة، وجباة الفيء، وعمال الصدقة، وشبههم، لإعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر العمالة على عمله"4.
وفي ختام هذه المسألة نحب أن نبين أن بعض العلماء يرى أن أخذ الرزق على القضاء إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائز إجماعا، ومن تركه إنما تركه تورعا، وأما إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك جزما، وقال هذا البعض من العلماء أيضًا، ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختلف إذا كان الغالب حراما5.
1 قال ابن بطال: "أشار صلى الله عليه وسلم على عمر بالأفضل؛ لأنه وإن كان مأجورا بإيثاره لعطائه عن نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته للصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل على عظيم فضل الصدقة بعد التمول، لما في النفوس من الشح على المال. فتح الباري، ج13، ص163.
2 اتفق العلماء على تحريم المسألة "أي: التسول" بغير ضرورة، واختلفوا في مسألة القادر على الكسب. والأصح التحريم، وقيل: يباح بثلاثة شروط، أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول، فإن فقد شرط منها فهو حرام باتفاق. فتح الباري.
3 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، ج13، ص160.
4 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، ج13، ص160.
5 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص161.