الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نظام الفصل في الدعوى
خطاب عمر لأبي موسى الأشعري
…
نظام الفصل في الدعوى:
تمهيد:
نحب قبل بيان نظام الفصل في الدعوى أن نذكر كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري، ففيه آداب جليلة للقضاة، وبيان لصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس، كتب عمر يقول:
خطاب عمر لأبي موسى الأشعري:
"أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة، فاقض إذا فهمت، وامض إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك، وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل
حراما، أو حرم حلالا، ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته حقه وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ للعذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فرجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى، وأشبهها بالحق، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء، أو نسب، أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات والأيمان، وإياك والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس عند الخصومة، والتنكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب من الله في عاجل زرقة وخزائن رحمته، والسلام" ا. هـ1.
بعد ذلك نقول: إذا صحت الدعوى بتوفر الشروط المطلوب فيها، فإن على القاضي أن يسأل الخصم "المدعى عليه" عنها، كأن يقول: خصمك ادعى عليك كذا وكذا، فماذا تقول؟ فإذا أقر المدعى عليه حكم القاضي عليه بإقراره، وإن أنكر، سأل القاضي المدعي البينة في دعواه، فإن أقامها يحكم القاضي على خصمه، وإذا لم يقم البينة قام القاضي بتحليف الخصم "المدعى عليه" إن طلب المدعي تحليفه؛ لأنه حقه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه قال
1 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص119، والأحكام السلطانية، للماوردي، ص80.
للمدعي: "ألك بينة"؟ فقال: لا فقال: "فلك يمينه"، فقال: يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم:"ليس لك إلا هذا، شاهداك أو يمينه".
دليل على أن اليمين حق للمدعي لا للقاضي:
فهذا يدل -كما قال العلماء- على أن اليمين حق للمدعي لا للقاضي، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أضاف اليمين إلى المدعي بلام التمليك.
ولا يصح للقاضي أن يحلف المدعى عليه إلا بعد أن يطلب المدعي تحليفه؛ لأنه حق له فلا يستوفيه بدون إذنه، فلو حلفه القاضي قبل طلب المدعي فلا يعتد باليمين؛ لأنها يمين قبل وقتها، وللمدعي الحق في أن يطالب بإعادتها؛ لأن اليمين الأول لم تكن يمينه.
اليمين توجه إلى كل من ادعي عليه حق:
جمهور العلماء من سلف الأمة وخلفها، ومنهم الشافعي رضي الله عنهم جميعا، يرون أن اليمين تتوجه على كل من ادعى عليه حق، سواء أكان بينه وبين المدعي اختلاط أم لا.
ويرى مالك وجمهور أصحابه، والفقهاء السبعة1، فقهاء المدينة أن اليمين
1 الفقهاء السبعة هم: سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي، المتوفى سنة 94، وعروة بن الزبير بن العوام الأسدي، المتوفى سنة 94، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المتوفى سنة 106، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة 99، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المتوفى سنة 95، وسليمان بن يسار الهلالي المتوفى سنة 107، واختلف في السابع فقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر العدوي المتوفى سنة 106، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المتوفى سنة 93. قال عبد الله بن المبارك كان فقهاء المدينة سبعة، وقال: وكانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها، فلا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها فيصدرون، شرح الأمير على نظم 39 مسألة لا يعذر فيها بالجهل، لبهرام بن عبد الله، ص5، وتبيين المسالك للشيخ عبد العزيز محمد، ج1، ص24.
لا تتوجه إلا على الشخص الذي ثبت أن بينه وبين المدعي خلطة، لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل، بتحليفهم مرارا في اليوم الواحد، فاشترطت الخلطة حتى تدفع هذه المفسدة.
وقال المؤيدون لهذا الرأي أيضًا: قد ثبت وتقرر أن الإقدام على اليمين يصعب على كثير من الناس، سيما على أهل الدين، وذوي المراتب والأقدار، وهذا أمر معتاد بين الناس على مر الأعصار، لا يمكن جحده، وكذلك روي عن جماعة من الصحابة أنهم افتدوا من أيمانهم، منهم عثمان وابن مسعود، وغيرهما، وإنما فعلوا ذلك لمروءتهم، ولئلا يبقى للظلمة إليهم إذا حلفوا -ممن يعادي الحالف، ويحب الطعن عليه- طريق إلى ذلك.
وبعض فقهاء المالكية يرى أنه لا تشترط الخلطة في تحليف المدعى عليه، وأن القول باشتراط الخلطة قول ضعيف، وجرى العمل في المذهب المالكي على الرأي القائل بعدم اشتراط الخلطة1.
وعلى القول الذي يذهب إلى اشتراط ثبوت الخلطة، هل يشترط تعدد العدول في إثباتها؟ هنا أيضا رأيان عند من يرى ثبوت الخلطة: أحدهما أنه تثبت الخلطة بعدل واحد، ولو كان امرأة، لكن بعض فقهاء المالكية بيّن أن هذا الرأي ضعيف2.
ومع أن المالكية -كما بينا- مختلفون في اشتراط ثبوت الخلطة، في تحليف
1 بلغة السالك لأقرب المسالك، إلى مذهب الإمام مالك، لأحمد بن محمد الصاوي على الشرح الصغير، لأحمد بن محمد بن أحمد الدردير، ج3، ص339. مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1952.
2 المصدر السابق، ج3، ص339.
المدعى عليه فإنهم متفقون على أن هناك ثمان مسائل تتوجه فيها اليمين، وإن لم يثبت خلطة.
الأولى: الصانع إذا ادعي عليه بما له فيه صنعة، فتتوجه عليه اليمين ولو لم تثبت خلطة بينهما، وعللوا لهذا بأنه لما نصب نفسه للناس فإن هذا التنصيب في معنى الخلطة، وكذلك يعطى نفس الحكم التاجر ينصب نفسه للبيع والشراء.
الثانية: المتهم بين الناس يدعى عليه بسرقة أو غصب، فتتوجه عليه اليمين ولو لم تثبت خلطة. وهذا في الشخص محل الاتهام بين الناس، وأما الشخص مجهول الحال فيه رأيان عند المالكية.
الثالثة: الضيف إذا ادعى، أو يدعى عليه.
الرابعة: الدعوى في شيء معين، كثوب بعينة.
الخامسة: الوديعة على أهلها، بأن يكون المدعي ممن يملك تلك الوديعة والمدعى عليه ممن يودع عنده مثلها، والحال يقتضي الإيداع كالسفر والغربة.
السادسة: المسافر إذا ادعى على رفقته.
السابعة: المريض إذا ادعى في مرض موته على غيره بدين مثلا.
الثامنة: البائع إذا ادعى على شخص حاضرا المزايدة أنه اشترى سلعته بكذا وهذا الشخص الحاضر ينكر الشراء1.
معنى الخلطة:
اختلف العلماء في تفسير الخلطة، فيرى البعض أن معناها أن يكون معروفا معاملته ومداينته، وقيل: تكفي الشبهة، وقيل أن يليق بالمدعي أن يدعي بمثل هذه
1 المصدر السابق، ج3، ص339.
الدعوى على مثل المدعى عليه، وقيل أن يليق بالمدعي أن يعامل المدعى عليه بمثل هذه الدعوى.
والواقع أن جمهور العلماء لهم دليل قوي واضح هو القاعدة التي بينها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" وغير هذا من الأحاديث التي تدور حول هذا المعنى.
وأما الرأي الذي يشترط الخلطة فلا يستند إلى أصل من كتاب أو أو سنة، أو إجماع، ومصلحة المدعي أقوى من دفع مفسدة المدعى عليه بابتذال الأراذل للأكابر وتحليفهم، فقدمت الأولى على الثانية لقوتها.
ويمكن أن نقول: إنه إذا ثبت أن المدعي يريد ابتذال الأكابر وتحليفهم فإنه يعاقبه القاضي، ويبقى الأصل العام وهو: البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
نكول المدعى عليه:
النكول في اللغة مصدر للفعل "نكل" ومعناه: نكص، أي: رجع عن شيء قاله، أو عدو قاومه، أو شهادة أراد أداءها، أو يمين وجبت عليه.
والنكول نوعان، حقيقي، وهو أن يقول: لا أحلف، وحكمي وهو أن يمتنع عن اليمين.
والامتناع عن اليمين يعد نكولا حكما إذا عرف أنه ليس في لسانه آفة تمنعه
عن اليمين، أو في أذنه ما يمنع سماع كلام القاضي.
وقد بيّن العلماء أنه بامتناعه عن اليمين مرة يعد ناكلا، لكن من المستحب للقاضي أن يعرض اليمين عليه ثلاث مرات، ويشترط في النكول أن يكون مجلس القاضي1.
بعد هذا نقول: إذا نكل المدعى عليه عن اليمين -في قضايا الأموال- بعد أن طلبها القاضي منه فما الحكم؟
اختلف العلماء في هذا على الصورة الآتية:
الرأي الأول: إذا لم يحلف المدعى عليه حكم القاضي عليه بنفس النكول، ولا ترد اليمين على المدعي، وذلك في قضايا الأموال.
وهذا الرأي ما اختاره فقهاء الحنابلة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
الرأي الثاني: إذا نكل المدعى عليه لا يقضي القاضي عليه بالنكول، بل ترد اليمين على المدعي، فإن حلف المدعي قضى له القاضي، فيستحق المدعى به بيمينه، لا بنكول خصمه، وإن لم يحلف المدعي صرفهما القاضي.
وهذا مذهب الشافعي، ومالك، وصوبه أحمد، وبه قال الأوزاعي، وشريح وابن سيرين، وهو مروي عن ابن عمر، وعلي، والمقداد بن الأسود وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم.
الرأي الثالث: لا يقضي بالنكول، ولا بالرد، ولكن يحبس المدعى عليه حتى يجيب إما بإقرار، أو إنكار يحلف معه.
وهذا قول في مذهب أحمد، وأحد رأيين لفقهاء الشافعية، وقول ابن أبي ليلى.
1 المجاني الزهرية، ص82.