الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الخامس: الذكورة
مدخل
…
الشرط الخامس: الذكورة
هذا الشرط محل اختلاف بين علمائنا -رضي الله تعالى عنهم- وهو من الشروط التي أخذت حيزا كبيرا من الاختلاف الفقهي قديما وحديثا. فجمهورهم -وفيهم جمهور المالكية وكذلك فيهم الشافعية، والحنابلة، وزفر من الحنفية والشيعة الإمامية1، والشيعة الزيدية2، والإباضية3- يرون أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء في أي نوع من أنواع القضايا، سواء أكانت في قضايا الأموال أم في قضايا القصاص، والحدود، أم في غير ذلك، ولو وليت المرأة القضاء كان من ولاها آثما، ولا ينفذ حكمها حتى لو كان موافقا للحق، وكان في الأمور التي تقبل فيها شهادتها4.
ونرى أن من المستحسن هنا أن نوضح أن فقهاء الحنفية أيضا مع الجمهور، في القول بعدم جواز أن تتولى المرأة القضاء، لكن بعض الكاتبين في الفقه الإسلامي ينسبون إلى الحنفية أنهم يرون جواز أن تتولى المرأة القضاء في الأمور التي يصح لها
1 شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للحلي جعفر بن الحسن، ج4، ص67، منشورات دار الأضواء، بيروت، ووسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، لمحمد بن الحسن الحر العاملي، ج18، ص6. دار إحياء التراث العربي ببيروت، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، لأبي بكر بن محمد الحسيني الحصني، ج2، ص257.
2 البحر الزخار، الجامع لمذاهب علماء الأمصار، لأحمد بن يحيى بن المرتضى، ج6، ص118، دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة.
3 شرح النيل وشفاء العليل، ج13، ص23.
4 تبصرة الحكام، ج1، ص23، 24، والأحكام السلطانية للماوردي ص72، والمقنع ج2، ص609، والاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود مودود، ج2 ص84، والمنتقى، شرح موطأ الإمام مالك، لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي، ج5، ص182، مطبعة السعادة 1332هـ.
أن تشهد فيها، وهي ما عدا مسائل الحدود، والقصاص1.
والواقع أن حقيقة مذهب الحنفية غير ذلك2؛ لأن الحنفية كما قلنا يقفون مع جمهور العلماء في القول بعدم جواز أن تتولى المرأة القضاء، لكنهم زادوا على
1 الحدود هي العقوبات المقدرة التي وجبت حقا لله تعالى، مثل: عقوبة الزنا، وعقوبة السرقة، وعقوبة شرب الخمر، فأما القصاص فهو عقوبة مقدرة وجبت حقا للآدمي، فإذا قتل إنسان إنسانا عمدا عدوانا كانت العقوبة القصاص وهي قتل القاتل.
2 من الكاتبين الذين نسبوا إلى الحنفية أنهم يرون جواز أن تتولى المرأة القضاء فيما تصح فيها شهادتها، الدكتور منير العجلاني في كتابه عبقرية الإسلام، في أصول الحكم ص353، والدكتور محمد فاروق النبهان في كتابه نظام الحكم في الإسلام، ص625، والدكتور محمد مصطفى الزحيلي في كتابه التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي، ص58، وهذا مخالف لحقيقة مذهب الحنفية، كما سنبين ذلك.
ذلك أن قالوا: إذا وليت المرأة القضاء مع الكراهة1 التحريمية، وأثم من ولاها فحكمت في الأمور التي تصح فيها شهادتها -وهي ما عدا مسائل الحدود والدماء- فإنه ينفذ حكمها إذا وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما إذا حكمت في الحدود والقصاص فلا ينفذ قضاؤها، حتى لو كان موافقا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية
1 فقهاء الحنفية يرون أن المكروه ينقسم إلى قسمين: أحدهما المكروه تحريما والثاني المكروه تنزيها، ويبينون أن مرادهم بالمكروه تحريما هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتميا ملزما بدليل ظني كخبر الواحد، والقياس، وذلك كبيع الإنسان على بيع أخيه، وخطبته إلى خطبة أخيه، فإنه ثبت أن ذلك منهي عنه في حديث آحادي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله:"المؤمن أخو المؤمن فلا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" رواه أحمد ومسلم.
ومثل ذلك أيضًا لبس الرجال الحرير والتختم بالذهب، فإن ذلك عند الحنفية مكروه تحريما؛ لأن طلب الكف عنهما كان طلبا حتميا لكنه بدليل ظني، هو حديث آحاد، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"هذان حرام على رجال أمتي حلال لنسائهم" مشيرا إلى الذهب والحرير.
وأما المكروه تنزيها فهو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا غير حتمي. والفرق عند الحنفية بين الحرام والمكروه تحريما، أن الحرام هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتميا ملزما بدليل قطعي -كالقرآن الكريم- كالزنا والقتل، وشرب الخمر.
وأما المكروه تحريما فهو مع اشتراكه مع الحرام في أن كلا منهما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتميا ملزما فإنه يختلف عنه في أن الدليل في الحرام دليل قطعي كالقرآن والسنة المتواترة، وأما الدليل في المكروه تحريما فهو دليل ظني كخبر الواحد، والقياس.
وجمهور العلماء غير الحنفية لا يقسمون المكروه هذا التقسيم، فعندهم المكروه قسم واحد هو ما طلب الشارع من المكلف الكف عنه من غير تحتيم.
والحنفية يرون أن تولية المرأة القضاء من قبيل المكروه تحريما لثبوت الدليل في ذلك في حديث آحادي هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
وفاعل المكروه تحريما يستحق العقاب عند الحنفية كفاعل الحرام، والفرق أن منكر الحرام يكفر؛ لأن دليله قطعي، ومنكر المكروه تحريما لا يكفر، لاتفاق العلماء على أن منكر ما كان دليله ظنيا لا يكفر.
أصول الفقه الإسلامي للدكتور أبو العينين، ص273، وأصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكريا البري، ص273، دار إحياء التراث العربي.
أنفسهم فهو ما قرره الغزي في تنوير الأبصار، قال الغزي:"والمرأة تقضي في غير حد وقود "أي: قصاص" وإن أثم موليها"1، وهو أيضا ما قاله صاحب مجمع الأنهر، قال:"ويجوز قضاء المرأة في جميع الحقوق لكونها من أهل الشهادة، لكن أثم المولي لها للحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" في غير حد وقود، إذ لا يجري فيهما شهادتها وكذا قضاؤها في ظاهر الرواية2. وأيضا ما قرره الكمال بن الهمام في سياق رده على استدلال الجماهير على عدم نفاذ حكمها لو وليت قال: "والجواب أن غاية ما يفيد منع أن تستقضي وعدم حله، والكلام فيما لو وليت، وأثم المقلد بذلك، أو حكمها خصمان، فقضت قضاء موافقا لدين الله، أكان ينفذ أم لا؟ لم ينتهض الدليل على نفيه بعد موافقته ما أنزل الله، إلا أن يثبت شرعا سلب أهليتها، وليس في الشرع سوى نقصان عقلها3. ومعلوم أنه لم يصل إلى حد سلب ولايتها بالكلية، ألا ترى أنها تصلح شاهدة4، وناظرة في الأوقاف ووصية على اليتامى، وذلك النقصان بالنسبة والإضافة، ثم هو منسوب إلى الجنس، فجاز في الفرد خلافه، ألا ترى إلى تصريحهم يصدق قولنا: الرجل خير
1 حاشية ابن عابدين "رد المحتار على الدر المختار"، ج5، ص440، الطبعة الثانية. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1966.
2 مجمع الأنهر، لعبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي في شرح ملتقى الأبحر لإبراهيم الحلبي، ج2، ص168.
3 في الحديث الشريف ما رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مخاطبا النساء: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"، البخاري، ج1، ص211، ونقصان العقل أي: قوة الذاكرة عندها أقل من الرجل عموما، يوضح هذا قول الله تبارك وتعالى:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا} وذلك لأن طبيعة المرأة وما يعتريها من مرض شهري وحمل وولادة يؤثر في قوة التذكر في كثير من الأحيان.
4 والشهادة نوع من الولاية؛ لأن الولاية معناها إنفاذ القول على الغير شاء أم أبى، والقضاء بواسطة الشهادة يحكم على المشهود عليه شاء أم أبى.
من المرأة، مع جواز كون بعض أفراد النساء خيرا من بعض أفراد الرجال، ولذلك النقص الغريزي نسب صلى الله عليه وسلم لمن يوليهن عدم الفلاح1، فكان الحديث متعرضا للمولين ولهن بنقص الحال، وهذا حق، لكن الكلام فيما لو وليت فقضت بالحق، لما يبطل ذلك الحق؟ "2.
ولعل السبب في الخطأ الذي يقع فيه بعض الحاكين لمذهب الحنفية من الكاتبين المحدثين أن بعض المصادر القديمة في كتب الحنفية أنفسهم، وفي كتب غيرهم، يفهم من ظاهر عباراتها أن المرأة يجوز توليتها القضاء في غير قضايا الحدود والدماء، فمثلا يقول الكاساني أحد كبار فقهاء الحنفية المشتهرين في كتابه:"بدائع الصنائع"3: "وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة".
ولعل مراد الكاساني من عبارة: "وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة"، أن الذكورة ليست شرطا في كل ما يتصل بمسألة قضاء المرأة، إذ إنها لا تشترط في صحة حكمها في الأمور التي يجوز لها أن تشهد فيها، وهي عند الحنفية وجمهور العلماء ما عدا القصاص والحدود، فالمرأة إذا حكمت فيما يصح لها أن تشهد فيه كان حكمها صحيحا عند الحنفية، مع إثم من ولاها منصب القضاء.
ونظير هذا التعبير في كلام العلماء، وهو تعبير "في الجملة" ما قاله العلماء عند بحث مسألة تصرفات الصبي المميز4، قال العلماء إن تصرفات الصبي المميز
1 يشير الكمال بن الهمام هنا إلى حديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".
2 شرح فتح القدير للكمال بن الهمام ج7، ص298، الطبعة الثانية، 1977.
3 الجزء السابع، ص3، دار الكتاب العربي - بيروت.
4 الصبي المميز هو من يفهم الخطاب، ويتصرف بناء على هذا الفهم تصرفا مقبولا، وغالبا ما يكون ذلك في سن السابعة.
جائزة في الجملة يريدون بذلك أنها تجوز في بعض الأحيان؛ وذلك لأن تصرفات الصبي المميز تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن تكون تصرفات نافعة نفعا محضا للصبي، وهذه جائزة ولو خالف ولي الصبي كالاصطياد، وقبول الهدية، وقبول الوصية؛ لأن ذلك نفع تام للصبي.
الثاني: أن تكون تصرفات ضارة ضررا محضا بالصبي، وهذه غير جائزة ولو أجازها الولي، كالطلاق، وأن يهب هو لغيره شيئًا ماليا، أو يتصدق بشيء أو يقرض غيره أو يكفل مدينا لغيره، فهذه التصرفات وأمثالها لا تنفذ ولو أجازها وليه؛ لأنها تصرفات تؤدي إلى إلحاق الضرر المحض بالصبي.
الثالث: أن تكون تصرفات مترددة بين النفع والضرر، وهو كل تصرف يحتمل أن يحقق نفعا للصبي ويحتمل في نفس الوقت أن يؤدي إلى خسارته، فهذه تكون صحيحة لكنها متوقفة على إجازة الولي، وذلك كالبيع والشراء، والإجارة، والزواج والمزارعة، والمساقاة، وسائر الشركات وما ماثل ذلك.
فإذا قال العلماء إن تصرفات الصبي المميز جائزة في الجملة فإنهم يريدون أنها في بعض الحالات تكون جائزة، فلعل مراد الكاساني -كما قلنا قريبا- من عبارة "وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة"، أن الذكورة ليست شرطا في كل ما يتصل بمسألة قضاء المرأة؛ لأنها لا تشترط في صحة حكمها في الأمور التي يجوز لها أن تشهد فيها.
لكن العبارة بهذا الشكل من الكاساني توهم بحسب فهم ظاهرها أن المرأة يجوز توليتها القضاء في غير قضايا الحدود والدماء، وخاصة وأن الكاساني يقول:"فليست من شرط جواز التقليد" ولو قال: فليست من شرط قضاء المرأة في الجملة، لكانت أقرب إلى ما يراه الحنفية، ولنواصل القراءة في كتب الحنفية لنجد أن بعض عباراتهم يوهم ظاهرها جواز تقليد المرأة القضاء في كل شيء، إلا في
الحدود والقصاص.
يقول المرغيناني: "ويجور قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص"1. ومع أن المرغيناني عبر بقوله: "ويجوز قضاء المرأة" إلى آخره، ولم يعبر بالقول مثلا: ويجوز تقليد المرأة القضاء، أو يجوز تولية المرأة القضاء، ومع أن تعبيره هذا يتفق في الواقع وما يراه الحنفية من عدم جواز تقليد المرأة القضاء، لكن إذا وليت القضاء فإنه يصح قضاؤها أي: حكمها فيما عدا القصاص والحدود مع إثم من ولاها، نقول: مع أن المرغيناني عبر بهذا فإن عبارته في ظاهرها توهم أن الحنفية يرون جواز توليتها القضاء فيما عدا الحدود والقصاص، ولا شك أن التعبير بالعبارة التي لا توهم أولى من التعبير بالعبارة الموهمة التي تحتاج إلى التدقيق والبحث عن المراد.
ويقول الكمال بن الهمام في شرح فتح القدير2: "وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء، فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما"، والكمال بن الهمام يريد بهذه العبارة أن الذكورة ليست شرطا في صحة الحكم إلا في الحكم في قضايا الحدود والدماء، وليس مراد ابن الهمام أن الذكورة ليست شرطا في تولية القضاء إلا في الحدود والدماء، وقد صرح هو نفسه بهذا المراد عندما كان يناقش استدلال القائلين بعدم نفاذ حكم المرأة لو وليت، ولو في غير الحدود والدماء، فقد قال هناك كما ذكرنا قريبا:"والجواب أن غاية ما يفيد منع أن تستقضى وعدم حله، والكلام فيما لو وليت وأثم المقلد "يعني من ولاها"، بذلك، أو حكمها خصمان فقضت قضاء موافقا لدين الله، أكان ينفذ أم لا؟ لم ينتهض
1 الهداية شرح بداية المهتدي كلاهما للمرغيناني مع شرح فتح القدير، ج7، ص397.
2 فتح القدير ج7، ص253 دار الفكر.
الدليل على نفيه بعد موافقته ما أنزل الله" إلى آخر ما قاله الكمال1.
لكن عبارة ابن الهمام موهمة أن الحنفية يجيزون تولي المرأة القضاء في غير الحدود والقصاص كعبارة المرغيناني، وإن كان ابن الهمام في الحقيقة يريد بالقضاء الحكم وليس التولية.
وإذا انتقلنا إلى مصادر أخرى لغير الحنفية، نجد الماوردي مثلا أحد أشهر فقهاء الشافعية، يقول في كتابه: الأحكام السلطانية2: "وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضي المرأة فيما تصح فيه شهادتها، ولا يجوز أن تقضي فيما لا تصح فيه شهادها". وملاحظتنا على هذه العبارة كملاحظتنا السابقة على عبارة المرغيناني والكمال بن الهمام حتى مع كون الماوردي -بغالب الظن- يريد بقوله: "تقضي" الحكم وليس التولية.
ونجد الحافظ ابن حجر العسقلاني يقول في كتابه الموسوعي فتح الباري: "واتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي، إلا عند الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير"3. ونفس ملاحظتنا السابقة يمكن أن توجه إلى عبارة ابن حجر، مع زيادة أن الحنفية لم يستثنوا الحدود فقط، بل استثنوا الحدود والقصاص، إلا إذا كان يريد بالحدود ما يشمل القصاص بنوع من التجوز.
ونجد ابن رشد -الحفيد- في كتابه: بداية المجتهد يقول: "وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم، وقال
1 فتح القدير، للكمال بن الهمام، ج7، ص298.
2 الأحكام السلطانية للماوردي، ص72، دار التوفيقية.
3 فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر. ج13، ص146، المكتبة السلفية.
أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال"1.
ولا تسلم عبارة ابن رشد من الملاحظة التي كررناها على العبارات السابقة إلا إذا كان مراد ابن رشد من قوله: "وهي شرط في صحة الحكم" هي شرط في صحة ما قضت به، وليس المراد التولية فيمكن أن يعتذر عن ابن رشد بأن تعبيره بقوله: هي شرط في صحة الحكم، يعني بالحكم القضاء وليس التولية نفسها، لكن مع هذا فالعبارة موهمة بأن الحنفية يرون جواز التولية للمرأة منصب القضاء في الأموال.
ومن الملاحظ أيضًا على ابن رشد أنه أخطأ في حكاية مذهب الحنفية على أنهم يقصرون جواز قضائها على الأموال، مع أنهم يقولون بصحة قضائها مع إثم من ولاها في كل ما عدا الحدود والقصاص، فليس صحة قضائها فيما لو وليت مع الإثم مقصورا على الأموال2.
وأوضح في التصريح بأن أبا حنيفة يرى جواز تولية المرأة منصب القضاء قول الباجي صاحب كتاب المنتقي شرح موطأ الإمام مالك: "وقال أبو حنيفة يجوز أن تلي المرأة القضاء في الأموال دون القصاص"3.
ونجد الصنعاني يقول في كتابه سبل السلام4: "وذهب الحنفية إلى جواز توليتها الأحكام إلا في الحدود" وهذه العبارة من الصنعاني ظاهرة وواضحة في أن
1 بداية المجتهد، ونهاية المقتصد، لابن رشد، ج2، ص564.
2 نظام القضاء في الإسلام، لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد ص28 مكتوب بالآلة الكاتبة.
3 المنتقي شرح موطأ مالك. لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي المتوفى سنة 494هـ، ج5، ص182، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1332هـ.
4 جزء الرابع، ص123.
الذكورة ليست شرطا عند الحنفية في توليتها منصب القضاء، وهذا خطأ؛ لأن الحنفية لا يقولون بجواز توليتها القضاء لا في الحدود ولا في غيرها، ويقول ابن حزم في كتابه "المحلى"1:"وجائز أن تلي المرأة الحكم2. وهو قول أبي حنيفة" وهذا خطأ أيضًا من ابن حزم في حكاية مذهب أبي حنيفة.
فهذه العبارات وأمثالها توهم أن الحنفية يرون جواز تولية المرأة القضاء في الأمور التي يصح لها أن تشهد فيها، لكننا وجدنا الغزي والكمال بن الهمام -كما بينا- يوضحان مذهب الحنفية على الصورة التي بيناها.
ويمكن أن يقال إن بعض الحنفية متهمون ببعض التقصير في توضيح مذهبهم، فكان عليهم أن يعبروا في كتبهم بعبارات واضحة في الدلالة على المذهب، لا توهم هذا المعنى الذي توهمه غير الحنفية3.
ومع أنه من الممكن أن يقال إن الغزي وابن الهمام وغيرهما من فقهاء الحنفية الذين بينوا أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء مخالفون لمذهب الحنفية وهو -كما نقله بعض العلماء- جواز توليتها في الأمور التي يصح لها أن تشهد فيها، وهي ما عدا القصاص والحدود، وعلى هذا يكون الرأي الذي أبداه ابن الهمام والغزي وصاحب مجمع الأنهر وغيرهم رأيا خاصا بأصحابه، وليس هو المذهب الفقهي للإمام المذهب أو لأئمتهم الكبار الأول، نقول مع أنه من الممكن أن يقال هذا لكن الرد عليه أن من المعهود إذا خالف بعض فقهاء مذهب معين قولا لإمام المذهب أن يذكر قول الإمام، ثم يبين أنه يرى رأيا آخر غير ما يراه الإمام، فلما لم يبين دامادا أفندي صاحب مجمع الأنهر والكمال بن الهمام صاحب شرح فتح القدير والغزي صاحب تنوير الأبصار أن هذا رأي مستقل عن المذهب الفقهي للأئمة السابقين في المذهب الحنفي، غلب على ظننا أن ما بينه هؤلاء هو حقيقة مذهب الحنفية.
1 المحلى، لابن حزم، ج9، ص429، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
2 أن تلي المرأة الحكم: يعني: تلي المرأة القضاء، ولا يقصد ابن حزم بالحكم رياسة الدولة، ورأي ابن حزم في القول بجواز أن تتولى المرأة القضاء متفق مع مذهب الظاهرية في الأخذ بظاهر النصوص، إذ إن حديث "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" ورد في رياسة الدولة؛ لأن الرسول قاله عندما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى بعد وفاته.
3 نظام القضاء في الإسلام، لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد ص28.