الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدى توافق رأي الحنفية في قضاء المرأة مع رأيهم في أثر النهي:
النواهي التي وردت في نصوص الشريعة في كتاب الله الكريم، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على تحريم الفعل المنهي عنه على رأي جمهور العلماء، إلا إذا وجدت قرينة تدل على صرف النهي عن تحريم الفعل إلى كراهته، وعلى هذا إذا فعل الإنسان ما نهى الشرع عنه يكون آثما، ويستحق العقوبة في الآخرة.
وليس الأثر الأخروي لمخالفة النهي هو الأثر الوحيد، وإنما قد يوجد أثر دنيوي أيضًا في الفعل المنهي عنه إذا كان من العبادات أو المعاملات1.
فما هو هذا الأثر عند الحنفية؟ وهل رأيهم في أثر النهي في الفعل المنهي عنه يتفق مع رأيهم في تولية المرأة القضاء؟
1 أصول الفقه الإسلامي، للأستاذ زكي الدين شعبان ص327 طبعة 1968.
نرى -كما يرى بعض الباحثين-1 أن مذهب الحنفية في تولية المرأة القضاء لا يتفق مع موقفهم في الأصول من النهي ومقتضاه.
ولكي يفهم مذهب الحنفية في هذه المسألة، يحسن أن نبين أن العلماء قسموا الأفعال التي نهى الشرع عنها إلى قسمين:
القسم الأول: الشرعيات، ويراد بها ما طلبه الشارع لحكمة كالصلاة والصوم والإجارة.
القسم الثاني: الحسيات وهي ما ليست كذلك، كالزنا، والقتل، وشرب الخمر.
أما الحسيات فالحنفية والشافعية يتفقون على أن النهي عنها يقتضي الفساد، إذا كان النهي قد أتى مطلقا، أو دل الدليل على أن النهي لذات الشيء المنهي عنه، كالظلم، فإذا استولى أحد -ظلما- على شيء مملوك لغيره فلا تثبت له الملكية بهذا الاستيلاء الظالم، أو دل الدليل على النهي لوصف لازم للشيء المنهي عنه، كالزنا، فإنه لا يثبت به النسب.
1 أستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، نظام القضاء في الإسلام ص29، 30.
ويلاحظ هنا في هذا القسم أن الفساد والبطلان سواء1.
وأما الشرعيات فمذهب الشافعية كمذهبهم في جانب الحسيات، أي: إن النهي يقتضي فساد الشيء المنهي عنه.
أما الحنفية فلهم موقف آخر يفرقون فيه بين الباطل والفاسد، على الصور الآتية:
أولا: إذا دل الدليل على أن النهي عن العمل كان لفقد أحد الشروط أو الأركان، أي: إن النهي لأصل العمل المنهي عنه وذاته وحقيقته -لأن المشروع بأصله هو الذي استوفى الشروط والأركان- فإن النهي حينئذ يقتضي البطلان، بمعنى عدم ترتيب أي أثر للعمل المنهي عنه، وفي هذه الحالة يقال إن العمل المنهي عنه لم يشرع بأصله ولا بوصفه، ومثال ذلك: النهي عن الصلاة بدون وضوء، أو بدون تكبيرة الإحرام، والنهي عن بيع الملاقيح "أي: الأجنة في بطونها أمهاتها" لعدم وجود أحد أركان البيع وهو المبيع؛ لأن من الجائز أن يكون انتفاخا في بطب أنثى الحيوان، وبيع الحيوان أو ثوب غائب لم يبين البائع صفته، فهو في هذه الحالة فَقَدَ شرطا من شروط البيع، وبيع الخمر أو الخنزير.
1 العلماء متفقون على أن الفساد والبطلان في العبادات بمعنى واحد، وهو أن تكون العبادة قد وقعت مخالفة لأمر الشارع، سواء أكانت المخالفة بسبب ترك ركن من أركانها كترك الركوع أو السجود في الصلاة، أو بسبب ترك شرط من شروطها كالصلاة بدون وضوء أو بملابس غير طاهرة.
وإنما الخلاف بين العلماء في الفساد والبطلان في المعاملات كالبيع، والإجارة والرهن وغير ذلك، فجمهور العلماء يرون أن الفساد والبطلان بمعنى واحد في المعاملات كالعبادات سواء بسواء، والحنفية يفرقون بينهما في المعاملات، فالبطلان عندهم: مخالفة التصرف لأمر الشارع في ركن من أركانه أو أمر من الأمور الأساسية التي تقوم عليها هذه الأركان، ويرى الحنفية أنه لا يترتب على التصرف الباطل أي أثر من الآثار.
وأما الفساد عند الحنفية فهو موافقة التصرف لأمر الشارع في أركانه، والأمور الأساسية التي تقوم عليها تلك الأركان، وحصول خلل في شرط من الشروط الزائدة على ذلك كالبيع بثمن مجهول، أو المقترن بشرط فاسد، والزواج بدون شهود. أصول الفقه الإسلامي، للأستاذ زكي الدين شعبان ص258.
ثانيا: إذا دل الدليل على أن النهي عن العمل لوصف لازم للمنهي عنه دون أصله، فإن النهي حينئذ لا يقتضي البطلان، بمعنى عدم ترتيب الأثر، بل يترتب على المنهي عنه أثره لصحة الأصل، وإنما النهي هنا يقتضي الحرمة مطلقا، ويقتضي الفساد بمعنى مطلوبية التفاسخ في المعاملات لفساد الوصف، ويقال حينئذ: إن المنهي عنه مشروع بأصله، لا بوصفه.
مثال ذلك الصوم في الأيام المنهي عنها، وهي العيدان وأيام التشريق الثلاثة1، فالنهي عن الصوم في هذه الأيام ليس لذات الصوم؛ لأن الصوم من العبادات، فلا يكون النهي عنه لذاته، وإنما النهي عن الصوم في هذه الأيام؛ لأن الصوم يكون إعراضًا عن ضيافة الله تعالى. فالناس يعتبرون -كما قال العلماء- في هذه الأيام ضيوفا على الله عز وجل، فلا يجوز لهم أن يصوموا.
فتجزئ العبادة مع الإثم على كل حال والتعامل بربا الفضل، كبيع دينار بدينار وربع، فالنهي هنا ليس لذات البيع، بل لوجود الزيادة، والزيادة ليست هي عقد البيع ولا جزءًا كالوصف اللازم، فيثبت الملك ويطلب فسخ البيع.
ثالثًا: إذا دل الدليل على أن النهي عن العمل لوصف مقارن له، ينفك عنه غير لازم له، فهذا النهي لا يقتضي بطلانا ولا فسادًا؛ لأن المنهي عنه شيء آخر في الحقيقة، هو هذا الوصف المقارن، وغاية ما يقتضيه كراهة التحريم.
مثال ذلك النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة، فالنهي هنا؛ لأن المصلي شغل ملك الغير بغير حق، وهو أمر مقارن غير لازم، وكذلك النهي عن البيع وقت
1 روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم النحر، وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم الأضحى، سبل السلام للصنعاني ج2، ص169.
النداء لصلاة الجمعة؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1.
فالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ليس راجعا إلى ذات البيع ولا إلى صفة من صفاته، بل يرجع إلى أمر خارج عن البيع، وهو الاشتغال بالبيع عن أداء الواجب وهو صلاة الجمعة.
وكذلك النهي عن إتيان الزوجة أثناء الدورة الشهرية في قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2.
فالنهي هنا ليس لذات الوطء؛ لأن وطء الزوجة حلال، وإنما النهي بسبب ما يجاوره من الأذى، فإذا حدث الوطء من الزوج حال الحيض فإنه يكون آثما؛ لأنه ارتكب شيئًا محرمًا، لكن هذا لا يمنع أن تترتب على الوطء جميع أحكام الوطء المشروعة، من ثبوت النسب، وحلها لزوجها الأول الذي
طلقها ثلاث طلقات، وتكميل المهر؛ لأنها أصبحت مدخولا بها، وثبوت حرمة المصاهرة،
والعدة ونحو ذلك.
وبهذا نكون بينا مذهب الحنفية في النهي3 ومقتضاه، والسؤال الآن: النهي عن ولاية المرأة القضاء من أي قبيل؟
واضح أن ولاية القضاء مطلب شرعي، فإذا ورد نهي من الشرع عن تولية
1 سورة الجمعة، الآية رقم:9.
2 سورة البقرة، الآية رقم:222.
3 نظام القضاء في الإسلام، للدكتور إبراهيم عبد الحميد مكتوب بالآلة الكاتبة ص29، 30 وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، للدكتور مصطفى سعيد الخن ص345. مؤسسة الرسالة - بيروت.
المرأة القضاء، وهو الذي استفاده العلماء من حديث:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" -كما سنبين بعد ذلك- فإن ذلك يكون من قبيل النهي عن الشرعيات لا الحسيات، وعلى هذا فلا يصح تشبيهه بوطء الزوجة أثناء الدورة الشهرية؛ لأن النهي عن تولية المرأة القضاء لوصف في المرأة لازم غير منفك عنها، هذا الوصف هو نقصان عقلها ودينها، وما يضاف إلى ذلك إما أن يكون من علته أو يكون من إعراضه كعاطفية المرأة، وضعف جسمها بالنسبة إلى الرجل بسبب ما يحدث لها على مر الشهور والسنين من حيض وحمل وولادة ونفاس، ورضاعة.
وتولية المرأة القضاء عقد، فنظيره الذي يتبادر إلى الذهن هو البيع بربا الفضل، كبيع دينار بدينار وربع، وهذا البيع إذا حدث يكون صحيحا مع حرمته، ويجب على المتعاقدين فسخ هذا العقد فكان
على الحنفية -مراعاة لقواعدهم الأصولية- أن يقولوا بمثل هذا الحكم في تولية المرأة القضاء في غير الحدود والقصاص، لكنهم لم يفعلوا فلم يوجبوا عزل المرأة إذا تولت القضاء في غير الحدود والقصاص، واقتصروا على القول بإثم من ولاها مع صحة هذه التولية.
فيكون الحنفية بذلك قد اعتبروا النهي عن توليتها القضاء من قبيل النهي عن الشيء لوصف مقارن له ينفك عنه غير لازم له، وهو لا يقتضي بطلانا ولا فسادا عندهم كما سبق بيانه.
وهذا أشبه بالتحكم، ومقتضاه أن يكون الأثم الذي يلحق بمن يولي المرأة القضاء ناشئًا من كراهة التحريم لا من التحريم نفسه1.
ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن غير الحنفية قد أخطئوا في فهم عبارات الحنفية؛ لأنه إذا قال المرغيناني: "ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود
1 أستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد. نظام القضاء في الإسلام ص29، 30.
والقصاص" أو قال الكمال بن الهمام: "وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء، فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما" فليس المراد التولية والتقليد؛ لأن التولية فعل المولي، والقضاء فعل القاضي، فلا يدل أحدهما على الآخر لاختلافهما، كما أنه لا يلزم من جواز حكم المرأة ونفاذه جواز توليتها؛ لأن توليتها قد تكون غير جائزة ويكون قضاؤها بناء على هذه التولية جائزا، وهذا مبني على أصول الحنفية وموقفهم من النهي ومقتضاه، فهم يرون أن النهي عن الشيء إذا لم يكن لذاته بل لوصف مجاور له، يكون مفيدا للمشروعية مع الكراهة التحريمية، أي: إن المكلف إذا فعل الشيء المنهي عنه فإن الفعل يكون صحيحا تترتب عليه الأحكام الشرعية لكن مع إثم الفاعل، فمثلا ورد النهي عن وطء الزوجة حال الحيض، والنهي هنا ليس لذات الوطء؛ لأن وطء الزوجة حلال، وإنما النهي بسبب ما يجاوره من الأذى، فإذا حدث الوطء من الزوج حال الحيض فإنه يكون آثما؛ لأنه ارتكب شيئًا محرما، لكن هذا لا يمنع أن تترتب على الوطء جميع أحكام الوطء المشروعة، من ثبوت النسب، وحلها للزوج الأول الذي طلقها ثلاث طلقات، وتكميل المهر، وثبوت حرمة المصاهرة، والعدة، ونحو ذلك1.
ويرى هذا الباحث أن النهي عن تولية المرأة القضاء المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" من هذا القبيل؛ لأن النهي عن توليتها القضاء ليس لذات القضاء؛ لأن القضاء مشروع ومطلوب، وإنما هو لوصف مجاور هو مظنة تقصيرها في الحكم، لنقصها الطبيعي عن الرجل، وانسياقها وراء
1 مثال النهي عن الشيء لذاته تحريم بيع الميتة والدم والخنزير، ومثال النهي عن الشيء لا لذاته بل لوصف مجاور له النهي عن البيع وقت النداء للجمعة، وبيع ما فيه غرر ومعنى الغرر الخطر في جانب أحد المتعاقدين، مثل بيع سيارة مسروقة لا يعرف صاحبها مكانها، ومع ذلك يبيعها لآخر هو أيضا لا يعرف مكانها.
العاطفة، وللعوامل الطبيعية التي تعتريها بتوالى الأشهر والسنين من حيض وولادة وإرضاع، وكل هذا يؤثر في انتظام قيامها بالقضاء وفي إصابة الحق.
فإذا طبقت القاعدة المذكورة عند الحنفية فإنه لو ولى الحاكم أو من ينوب عنه المرأة القضاء، فإنه يكون آثمًا؛ لأنه عَمِلَ ما لا يجوز، لكن قضاءها يكون صحيحا نافذًا في كل ما تصح شهادتها فيه، وهو ما عدا الحدود والقصاص إذ كان موافقا للحق، وعلى هذا فإنه لا يلزم من صحة قضائها ونفاذه جواز تقليدها وتوليتها هذا المنصب1.
هذا ما يراه بعض الباحثين، ونرى أن هذا غير مسلم؛ لأنه أولا: إذا تصورناه في عبارة المرغيناني وهي: "ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص" وعبارة الكمال بن الهمام وهي: "وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما" فلا يصح تصوره في عبارة الكاساني، وهو أحد أشهر فقهاء الحنفية، فعبارته نصها:"وأما الذكورة فليست شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادة في الجملة، إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأن لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة"2.
فعبارة الكاساني غير دقيقة، ولو قال: "وأما الذكورة فليست من شرط
1 نظم القضاء في الإسلام، للمستشار جمال صادق المرصفاوي من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقد بالرياض سنة 1396هـ، طبعته إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود، 1401هـ، 1981م.
2 الكاساني في بدائع الصنائع، ج7، ص3.
القضاء في الجملة" لكان من الممكن حملها على أنه ليس من شرط تنفيذ القضاء الذكورة، فالمرأة عند الحنفية يصح تنفيذ ما حكمت به مع إثم موليها، إذا كان ما حكمت به في غير القصاص والحدود فيكون معنى "في الجملة" في العبارة بعد تعديلها إلى: "وأما الذكورة فليست من شرط القضاء في الجملة" يكون معناها أنه لا تشترط، الذكورة في كل جزئيات هذه المسألة، بل في بعض جزئياتها لا تشترط، وهي ما إذا وليت وأثم موليها وحكمت في قضايا يصح لها أن تشهد فيها وهي ما عدا قضايا القصاص والحدود، وأما أن يقول الكاساني: وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة، فهو في رأيي تعبير غير دقيق عن مذهب الحنفية، إلا إذا كان للكاساني رأي يخالف ما بينه الكمال بن الهمام وغيره، فالكمال بن الهمام وغيره بينوا أن الحنفية يرون أن الذكورة شرط لجواز التقليد، فهم متفقون مع الجمهور في أنه لا يجوز للحاكم أو من له سلطة تولية القضاة أن يولي المرأة القضاء، وخلافهم فقط مع الجمهور فيما لو وليت مع إثم من ولاها، هل ينفذ حكمها إذا حكمت في القضايا أو لا ينفذ، الجمهور يقولون لا ينفذ والحنفية يقولون ينفذ ما دام موافقا لأحكام الشرع، وفيما تصح فيه شهادتها.
وهذا ما يجعلنا نقول إن بعض الحنفية يمكن أن يتهموا بأنهم قصروا في توضيح رأي الحنفية في هذه المسألة، بالصورة التي لا يحصل في فهمها أي لبس أو غموض.
ثانيا: جعل النهي عن تولية المرأة القضاء الذي بيّن بعض العلماء أنه مستفاد من حديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" من قبيل النهي عن الشيء لوصف مجاور كالنهي عن الاتصال الجنسي بالزوجة أثناء الحيض غير دقيق -كما سبق بيانه- والدقة كما بيّن بعض الباحثين أن يكون من قبيل النهي عن الشيء لوصف
لازم، كالبيع بربا الفضل.
بعد هذا نقول إن الجمهور -ومنهم الحنفية- يرون عدم جواز تولية المرأة القضاء، وقد خالف الجمهور ابن القاسم من المالكية1. والحسن البصري أحد كبار فقهاء التابعين، وابن حزم الظاهري، فهم يرون أنه لا تشترط الذكورة في القاضي، فيجوز عند ابن حزم أن تتولى المرأة القضاء، وينفذ حكمها في كل القضايا حتى قضايا القصاص والحدود؛ لأن شهادة المرأة عنده تصحيح فيهما2. ويجوز عند ابن القاسم أن تتولى المرأة القضاء، وينفذ حكمها فيما تصح فيه شهادتها أيضا عنده، وهو الأموال، وما لا يطلع عليه الرجال غالبا، كالولادة، واستهلال المولود، وعيوب النساء تحت الثياب، وكذلك نقل عن الحسن البصري أنه
1 ابن القاسم أحد كبار تلاميذ مالك، وقد لزم مالكا أكثر من عشرين سنة ولم يفارقه حتى توفي، وكان لا يغيب عن مجلسه إلا لعذر، ولهذا إذا اختلف أصحاب مالك فالقول عند المالكية قول ابن القاسم، المعيار المعرب والجامع المغربي عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، تأليف أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، ج10، ص45.
2 قال ابن حزم: "ولا يجوز أن يقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجلا واحدا وست نسوة أو ثمان نسوة فقط، ولا يقبل في سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء، وما فيه القصاص، والنكاح، والطلاق والرجعة، والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان أو رجل وامرأتان كذلك، أو أربعة نسوة كذلك.
المحلى لابن حزم، ج9، ص395، وحاشية الدسوقي ج4، ص188، ونظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص23.
يرى جواز ولايتها القضاء مطلقًا1.
1 حاشية الدسوقي، ج4، ص188، ونظام القضاء في الإسلام لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص23، ومواهب الجليل للحطاب، لشرح مختصر خليل، ج6، ص87، 88. يقول الحطاب عند الكلام عن اشتراط الذكورة في القاضي: قال في التوضيح: وروى ابن أبي مريم عن ابن القاسم جواز ولاية المرأة، قال ابن عرفة: قال ابن زرقون: أظنه فيما تجوز فيه شهادتها، قال ابن عبد السلام: لا حاجة لهذا التأويل، لاحتمال أن يكون ابن القاسم قال كقول الحسن والطبري بإجازة ولايتها القضاء مطلقا "قلت" الأظهر قول ابن زرقون؛ لأن ابن عبد السلام قال في الرد على من شذ من المتكلمين وقال: الفسق لا ينافي القضاء ما نصه: "وهذا ضعيف جدا؛ لأن العدالة شرط في قبول الشهادة، والقضاء أعظم حرمة منها""قلت" فجعل ما هو مناف للشهادة منافيا للقضاء، فكما أن النكاح، والطلاق، والعتق، والحد، لا تقبل فيها شهادتها، فكذلك لا يصح فيها قضاؤها. ا. هـ. مواهب الجليل ج2، ص87، 88.
ومن هذا النص يبين أن ابن القاسم يرى جواز تولية المرأة القضاء، على خلاف بين فقهاء المالكية في مجال هذه التولية عند ابن القاسم، فابن زرقون يظن أن هذا المجال عند ابن القاسم هو القضايا التي يجوز لها أن تشهد فيها، وابن عبد السلام يرى أن من المحتمل أن يكون مجال التولية عند ابن القاسم مطلقا، فتتولى المرأة القضاء في أي نوع من القضايا كما هو رأى الحسن البصري وابن جرير الطبري.
ويرى الحطاب أن الأرجح هو ما يراه ابن زرقون في ظنه أن رأي ابن القاسم وهو جواز تولية المرأة القضاء هو في المجالات التي يجوز لها أن تشهد فيها، ولا يجوز توليتها القضاء فيما لا تصح شهادتها فيه وهو عند المالكية القصاص والحدود والطلاق والعتق، واستند الحطاب في ترجيحه لقول ابن زرقون إلى ما بينه ابن عبد السلام في مجال رده على من يرى أن الفاسق يجوز توليته القضاء، فقد قال ابن عبد السلام في رده على هذا:"وهذا ضعيف جدا؛ لأن العدالة شرط في قبول الشهادة، والقضاء أعظم حرمة منها" فجعل ابن عبد السلام كل الأمور التي تكون منافية للشهادة تكون منافية للقضاء؛ لأن القضاء أعظم حرمة من الشهادة.