المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوسيلة السابعة من وسائل الإثبات: القافة - النظام القضائي في الفقه الإسلامي

[محمد رأفت عثمان]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تقديم البحث

- ‌التعريف بالقضاء:

- ‌مشروعية القضاء:

- ‌حكم قبول القضاء

- ‌مدخل

- ‌حكم طلب القضاء:

- ‌القضاء عند العرب قبل الإسلام:

- ‌حكام اشتهروا في الجاهلية:

- ‌القضاء في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مدخل

- ‌الدليل على أن الرسول كان يقضي في القضايا بنفسه:

- ‌كان منصب القضاء في عهد الرسول، يضاف إلى منصب الولاية العامة:

- ‌مرجع من يقوم بالقضاء:

- ‌القضاء في عصر الخلفاء الراشدين

- ‌مدخل

- ‌عمر أول من أنشأ بيت مال المسلمين:

- ‌الدائرة القضائية للقضاة أيام الخلفاء الراشدين:

- ‌طريقة اختيار القضاة:

- ‌مرجع القاضي في أحكامه:

- ‌اختيار القضاة، ووظيفة قاضي القضاة

- ‌مدخل

- ‌اختصاصات القاضي:

- ‌التحكيم:

- ‌رجوع أحد الخصمين عن التحكيم:

- ‌ما يجوز التحكيم فيه وما لا يجوز:

- ‌التحكيم في حد القذف والقصاص:

- ‌التحكيم بحل مشكلة المسلمين في البلاد غير الإسلامية

- ‌حكم الهدية للقاضي:

- ‌جعل أجر للقاضي من الخزانة العامة للدولة:

- ‌حق التقاضي مكفول للجميع:

- ‌الفصل الأول: شروط الصلاحية للقضاء وعزل القاضي وانعزاله

- ‌المبحث الأول: شروط الصلاحية للقضاء

- ‌الشرط الأول: الإسلام

- ‌الشرط الثاني: البلوغ

- ‌الشرط الثالث: من شروط القاضي العقل

- ‌الشرط الرابع: الحرية

- ‌الشرط الخامس: الذكورة

- ‌مدخل

- ‌مدى توافق رأي الحنفية في قضاء المرأة مع رأيهم في أثر النهي:

- ‌رأي ابن جرير الطبري:

- ‌تحديد الآراء:

- ‌الشرط السادس من شروط القاضي: العدالة

- ‌توضيح معنى العدالة عند العلماء

- ‌معنى التقوى:

- ‌الشرط السابع من شروط القاضي السمع:

- ‌الشرط الثامن البصر:

- ‌الشرط التاسع النطق:

- ‌الشرط العاشر الكفاية:

- ‌الشرط الحادي عشر الاجتهاد:

- ‌الشرط الثاني عشر: عند بعض العلماء

- ‌الشرط الثالث عشر: عند بعض العلماء

- ‌المبحث الثاني: عزل القاضي وانعزاله

- ‌مدخل

- ‌ما يراه العلماء فيما إذا كانت صفة العدالة تتوافر في القاضي ثم ارتكب ما يخل بالعدالة، وتوجيه كل رأي:

- ‌عزل رئيس الدولة للقضاة:

- ‌الفصل الثاني: الدعوى ونظام الفصل فيها

- ‌بيان معنى الدعوى، والفرق بينها وبين الإقرار والشهادة

- ‌مدخل

- ‌معنى المدعي والمدعى عليه:

- ‌حكم الدعوى:

- ‌شروط صحة الحكم في الدعوى

- ‌الشرط الأول: عند بعض العلماء حضور الخصم المدعي عليه

- ‌آراء العلماء في القضاء على الغائب

- ‌أدلة القائلين بجواز الحكم على الغائب:

- ‌أدلة المانعين للحكم على الغائب:

- ‌اضطراب فقهاء الحنفية في مسائل الحكم على الغائب:

- ‌شروط القضاء على الغائب عند القائلين به:

- ‌الشرط الثاني من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط الثالث من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط الرابع عند بعض الحنفية:

- ‌الشرط الخامس من شروط صحة الحكم في الدعوى:

- ‌الشرط السادس، الشرط السابع، الشرطب الثامن: كونها ملزمة: أن تكون في مجلس القضاء: أن تكون بلسان المدعي أو وكيله

- ‌الشرط التاسع، الشرط العاشر، الشرط الحادي عشر: الشرط الثاني عشر: أن لا تكون بنذر لمخلوق: تعيين المدعي عليه: أن لا يكون المدعي أو المدعي عليه حربيا أن تكون الدعوى محققة

- ‌الشرط الثالث عشر: أن تكون الدعوى محققة

- ‌حكم الوكالة في الدعوى: تجوز بعوض وبغير عوض

- ‌اختلاف العلماء فيما لو اتفقا على أجرة إذا كسب القضية

- ‌هل يسقط الحق بتقادم الزمان

- ‌نظام الفصل في الدعوى

- ‌خطاب عمر لأبي موسى الأشعري

- ‌أدلة الأراء

- ‌مدخل

- ‌يكفي في اليمين الحلف بالله، أو صفة من صفاته:

- ‌تغليظ الحلف بالمكان والزمان:

- ‌أقسام حقوق الآدميين:

- ‌الفصل الثالث: وسائل الإثبات

- ‌مدخل

- ‌الوسيلة الأولى: الإقرار

- ‌معنى الإقرار

- ‌الفر ق بين الإقرار والشهادة والدعوى

- ‌أدلة اعتبار الإقرار:

- ‌أركان الإقرار، وشروط المقر

- ‌ما يراه ابن تيمية وابن القيم في ضرب المتهم أو حبسه حتى يقر:

- ‌شروط المقر له:

- ‌شرط المقر به

- ‌هل يشتطر أن يكون المقر به معلوما

- ‌الرجوع عن الإقرار:

- ‌هروب المقر أثناء تنفيذ الحد:

- ‌الفرق في الرجوع بين حق الله وحق الإنسان:

- ‌الوسيلة الثانية من وسائل الإثبات: البينة

- ‌مدخل

- ‌تعريف الشهادة عند الفقهاء

- ‌مدخل

- ‌حكم الشهادة:

- ‌هل يشترط لفظ الشهادة عند الأداء:

- ‌شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض:

- ‌شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية حال السفر:

- ‌الخلاف في شهادة الصبيان على بعض في الجراحات التي تحدث بينهم

- ‌مدخل

- ‌معنى العدل باطنا وظاهرا:

- ‌هل لا بد من التفسير في الجرح:

- ‌لا يقبل جرح الشهود من الخصم، رأي الحنفية في اشتراط عدالة الشاهد

- ‌هل تقبل شهادة الفاسق إذا تاب

- ‌شهادة الأب لابنه والعكس، شهادة أحد الزوجين للأخر

- ‌شهادة الأخ لأخيه:

- ‌شهادة العدو على عدوه:

- ‌هل يشترط البصر في أداء الشهادة:

- ‌مراتب الشهادة:

- ‌رأي المالكية في شهادة النساء بعضهن على بعض في الأعراس ومساكن الطالبات، ونحو ذلك:

- ‌هل يشترط العدد في انفراد النساء بالشهادة:

- ‌رجوع الشهود عن الشهادة

- ‌مدخل

- ‌إن رجع الشهود في الطلاق البائن وما ماثله:

- ‌تعارض البينتين من شخصين:

- ‌زيادة العدد في إحدى البينتين أو زيادة العدالة:

- ‌لو كان لأحد المدعيين شاهدان وللآخر شاهد ويمين:

- ‌الوسيلة الثالثة من وسائل الإثبات: نكول المدعى عليه عن اليمين:

- ‌الويسيلة الرابعة: يمين المدعي مع الشاهد

- ‌الوسيلة الخامسة من وسائل الإثبات: يمين المدعي إذا نكل المدعى عليه

- ‌الوسيلة السادسة: القسامة

- ‌تعريف القسامة عند العلماء

- ‌مدخل

- ‌ما يجب بالقسامة، من يبدأ بالحلف في القسامة

- ‌متى تجب القسامة

- ‌الوسيلة السابعة من وسائل الإثبات: القافة

- ‌الوسيلة الثامنة من وسائل الإثبات: القرينة القاطعة عند الجمهور

- ‌مدخل

- ‌تعريف القرينة:

- ‌أقسام القرينة من حيث دلالتها:

- ‌أقسام القرينة عند القانونيين:

- ‌آراء الفقهاء في حجية القرائن

- ‌مدخل

- ‌الرأي الراجح:

- ‌ما يشترط للعمل بالقرينة:

- ‌مجال القضاء بالقرائن:

- ‌آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في الحدود:

- ‌آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في القصاص:

- ‌عمل فقهاء المذاهب الأربعة بالحكم بالقرائن:

- ‌الوسيلة التاسعة من وسائل الإثبات: القرعة

- ‌الوسيلة العاشرة: فضاء القاضي بعلمه أو بخلاف علمه

- ‌الفصل الرابع: أصول في القضاء

- ‌الأصل الأول: العدل بين الخصمين

- ‌الأصل الثاني: البينة على المدعي واليمن على من انكر، الأصل الثالث: حكم القاضي لا يجرم حلالا ولا يحل حراما

- ‌الأصل الرابع: لا يقضي القاضي وهو غضبان

- ‌الأصل الخامس: لا يقبل القاضي هدية ممن له خصومة في الحال

- ‌الأصل السادس: لا يقضي القاضي لنفسه ولمن لا تقبل شهادته له

- ‌الأصل السابع: الحكم بالاجتهاد الثاني للقاضي

- ‌الأصل الثامن: جواز الطعن في الأحكام في بعض الأحوال

- ‌باب الفهارس:

الفصل: ‌الوسيلة السابعة من وسائل الإثبات: القافة

‌الوسيلة السابعة من وسائل الإثبات: القافة

.

معنى القافة:

القافلة جمع قائف، مثل الباعة جمع بائع، والقائف في اللغة: متتبع الآثار، وفي الشرع: من يلحق النسب بغيره عند الاشتباه، بما خصه الله تبارك وتعالى به من علم ذلك.

فالقائف نستعين به بوصفه وسيلة من وسائل إثبات النسب، فكما يثبت النسب بالإقرار، وبالشهادة، يثبت أيضًا بقول القائف، فإذا وجد شك في بنوة إنسان لإنسان فإنه من المشروع أن يؤخذ برأي بالقائف، وهو الشخص الذي أعطاه الله القدرة على أن يعرف وجوه الشبه بين الابن وأبيه، فمن ألحقه به ألحقناه به، ومن البديهي أن لا نثق في قدرة شخص على هذا إلا بعد اختياره مرات عديدة حتى نتأكد من صلاحيته للقيام بهذه المهمة، وكانت العرب تحكم بالقيافة، وتفخر بها، وتعدها من أشرف علومها، فأقر الإسلام هذه الوسيلة في إثبات النسب.

الدليل على مشروعية القضاء بالقافة:

يدل على مشروعية إثبات النسب بالقافة ما رواه البخاري، ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم مسرورا

ص: 431

تبرق أسارير وجهه1، فقال:"ألم ترى أن مجززا المدلجي 2 دخل علي فرأى أسامة وزيدا عليهما قطيفة، قد غطيا بها رءوسهما، وقد بدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض".

وكان المنافقون أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعنون في نسب أسامة بن زيد بن حارثة؛ لأنه كان طويلا، أسود، أقنى الأنف3، وكان زيد بن حارثة قصيرا بين السواد والبياض، أخنس الأنف4، وكان طعن المنافقين في نسب أسامة مغيظة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب زيدا وابنه، ولا غرو في ذلك، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متبنيا زيدا قبل أن يحرم الله تبارك وتعالى التبني في شريعة الإسلام5. وأسامة هو ابن أم أيمن، وكانت وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، وحاضنته عليه الصلاة

1 الأسارير هي الخطوط التي في الجبهة، والواحد منها سر، وسرر، وجمعها أسرار وأسرة، وجمع الجمع أسارير، ومعنى تبرق أسارير وجهه أي: تضيء وتستنير من الفرح والسرور، سبل السلام، ج4، ص136.

2 كان مجزز قائفا، والمدلجي أي: من بني مدلج.

3 القناء -بفتح القاف: احديداب في الأنف، يقال: رجل أقنى الأنف وامرأة قنواء.

4 يقال: خنس الأنف -خنسا- بوزن تعب تعبا -أي: انخفضت قصبته، فالرجل أخنس، والمرأة خنساء- المصباح.

5 كان التبني شائعا في الجاهلية، ولم يحرم في بداية الإسلام فاستمر، ثم حرمه الله تبارك وتعالى بقوله:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ، [سورة الأحزاب الآية رقم: 4] .

ص: 432

والسلام، وكانت حبشية سوداء1.

فلما قال مجزز المدلجى ذلك -وهو لا يرى إلا أقدامهما فقط- سر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ووجه الاستدلال بالحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر أن يؤخذ بحكم القائف، وإقراره صلى الله عليه وسلم ذلك يدل على أن القافة حق، فإن التقرير أحد أنواع السنة2، وهي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله تبارك وتعالى، قال الشافعي رضي الله عنه:"فلو لم يعتبر قوله لمنعه من المجازفة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على خطأ، ولا يسر إلا بالحق".

وحقيقة التقرير أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعلا من فاعل، أو يسمع قولا من قائل، أو يعلم به، وكان ذلك الفعل من الأفعال التي لا يعلم تقدم إنكاره لها، كمضي كافر إلى كنيسة، ولم ينكره.

والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر عمل القائف، بل إن استبشاره به أوضح في التقرير، فإنه استبشر بكلام مجزز في إثبات نسب أسامة إلى زيد، فدل ذلك على تقرير كون القيافة طريقا إلى معرفة الأنساب3.

1 ثبت في الصحيح أن أم أيمن كانت حبشية، وصيفة لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن حادثة الفيل، فصارت لعبد المطلب، فوهبها لعبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، وتزوجت قبل زيد عبيدا الحبشي فولدت له أيمن، فكنيت به واشتهرت بكنيتها، واسمها بركة، سبل السلام، ج4، ص136، 137.

2 السنة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته.

3 سبل السلام، ج4، ص137.

ص: 433

ونقل عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم اعتبروا عمل القائف أيضًا، فقد روى مالك عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب كان يليط1 أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، فأتى رجلان إلى عمر رضي الله عنه كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفا، فنظر إليه القائف، فقال: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة، فقال: أخبريني خبرك، فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيها في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن أنه قد استمر بها حمل، ثم ينصرف عنها، فأهريقت عليه دما، ثم خلف عليها هذا -تعني الرجل الآخر- فلا أدري من أيهما هو؟ فكبر القائف، فقال عمر للغلام: فإلى أيهما شئت فانتسب، فقضاء عمر بمحضر الصحابة بالقيافة من غير إنكار من أحد يكون كالإجماع تقوى به أدلة القيافة، قال العلماء: والعمل بالقيافة مروي عن ابن عباس، وأنس بن مالك، ولا مخالف لهما من الصحابة2. روى الشافعي أن أنسا شك في مولود له فدعا له قائفا.

هذا، وقد ذهب إلى أن القائف حجة في إثبات النسب مالك، والشافعي، وأحمد، وخالف أبو حنيفة وأصحابه، والهادوية إحدى فرق الزيدية، وقالوا: لا اعتبار بقول القائف، لكن هؤلاء محجوجون بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته -رضي الله عنهم3.

1 يليط مأخوذ من ألاطه يليطه إذا ألصق به.

2 سبل السلام، ج4، ص137.

3 مغني المحتاج، ج4، ص488.

ص: 434

حجة المانعين لثبوت النسب بالقافة:

احتج القائلون بأن القافة ليست وسيلة من وسائل إثبات النسب بعدة أمور، وستقتصر على ذكر بعضها، اختصارا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه متى ثبت النص لا يقبل غيره، قال العلماء: لا يقبل التعليل في مقابلة النص1، وإليك بعض ما استدل به المانعون لثبوت النسب بالقافة:

أولا: العمل بالقافة تعويل على مجرد الشبه، والشبه قد يقع بين الأجانب الذين لا تربطهم صلة القرابة، وقد ينتفي الشبه بين الأقارب.

مناقشة هذا الاستدلال:

أجاب المخالفون عن هذا الاستدلال بأن قولكم أن القائف يعتمد الشبه هذا حق، فالشبه يكون بين الولد وأبويه، وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح تقتضي الشبه في لحوق النسب، والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب، من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافيا في ثبوته.

فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألغى الشبه في لحوق النسب، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رجلا قال له عليه الصلاة السلام: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال:"هل لك من إبل"؟ ، قال: نعم، قال:"فما ألوانها"؟ ، قال: حمر، قال:"فهل فيها من أورق"؟ 2، قال: نعم، إن فيها أورق،

قال: "فأنى لها

1 فتح القدير، ج7، ص375.

2 الجمل الأورق الذي يكون لونه كلون الرماد.

ص: 435

ذلك"؟ ، قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق".

فالجواب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتبر الشبه ههنا لوجود الفراش؛ لأنه توجد زوجية هنا، والفراش أقوى من الشبه، بل في الحديث ما يدل على اعتبار الشبه، فإنه صلى الله عليه وسلم أحال على نوع آخر من الشبه، وهو شبه الأصول الأول، وهذا الشبه أولى؛ لأنه تقوى بالفراش.

وأما قولهم بأن الشبه قد يقع بين الأجانب، وقد ينتفي بين الأقارب، فالجواب عليه بالتسليم بهذا، لكن الظاهر الأكثر وقوعا خلاف ذلك، وهو الذي أجرى الله تبارك وتعالى العادة به، وجواز التخلف عن الدليل والعلامة الظاهرة في النادر لا يخرجه عن أن يكون دليلا عند عدم معارضة ما يقاومه.

ألا ترى أن الفراش دليل على النسب والولادة، وأن فلانا هو ابن فلان، ويجوز -بل يقع كثيرا- تخلف دلالته، وتخليق الولد من غير ماء صاحب الفراش، وهو الزوج، ولا يبطل ذلك كون الفراش دليلا.

وكذلك أمارات الخرص1، والقسمة، والتقويم وغيرها، قد تتخلف عنها أحكامها ومدلولاتها، ولا يمنع ذلك اعتبارها، وكذلك شهادة الشاهدين.

1 يعمل بالخرص في الزكاة، فإذا بدا صلاح ثمار النخل والكرم -العنب- ينبغي للحاكم أن يرسل ساعيه ليخرصها، أي: يقدر كمية الثمار بحسب اجتهاده، وغالب ظنه، حتى يعرف ما يجب فيها من الزكاة بعد أن ينظر في الرطب الموجود على النخل والعنب الموجود على الشجر، ويقدر باجتهاده ما يجيء من ذلك التمر والزبيب، المغني، ج2، ص706.

ص: 436

وغيرهما، وأمثال ذلك كثير1.

ثانيا: لو أثر الشبه والقافة في نتاج الإنسان لأثر أيضًا في نتاج الحيوان.

مناقشة هذا الاستدلال:

أجيب عن هذا بعدة وجوه:

الوجه الأول: منع الملازمة، إذ لم يذكروا عليها دليلا سوى مجرد الدعوى، فأين التلازم شرعا وعقلا بين الناس.

الوجه الثاني: أن الشارع يتشوف إلى ثبوت الأنساب مهما أمكن، ولا يحكم بانقطاع النسب إلا حيث يتعذر إثباته، ولهذا ثبت بالفراش، وبالدعوى المجردة وبالأسباب التي بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان.

الوجه الثالث: أن سبب النسب هو الاتصال الجنسي، وهو إنما يقع غالبا في غاية من التستر والتكتم عن العيون وعن اطلاع القريب والبعيد عليه، فلو كلف بأن يأتي بالبينة على سبب النسب لأدى ذلك إلى ضياع أنساب بني آدم، وفسدت أحكام الصلات التي بينهم، ولهذا وجدنا أن النسب يثبت بأيسر شيء، من فراش، ودعوى، وشبه، حتى إن أبا حنيفة، أثبته بمجرد العقد، مع القطع بعدم وصول أحد الزوجين إلى الآخر وخروجه منهما، احتياطا للنسب، ومن المعلوم أن الشبه أولى وأقوى من ذلك بكثير.

الوجه الرابع: أن الله تبارك وتعالى جعل بين أشخاص الآدميين من الفروق في صورهم، وأصواتهم، وغير ذلك ما يتميز به بعضهم من بعض، ولا يحصل

1 الطرق الحكمية لابن القيم، ص252، وما بعدها.

ص: 437

الاشتباه بينهم بحيث يتساوى الشخصان من كل وجه إلا في بعض الحالات النادرة غاية الندرة، مع أنه أيضًا في هذه الحالات النادرة جدا لا بد من الفرق، وهذا القدر لا يوجد مثله بين أشخاص الحيوان، بل التشابه فيه أكثر، والتماثل أغلب، فلا يكاد الحس يميز بين نتاج حيوان ونتاج حيوان غيره برد كل منهما إلى أمه وأبيه، وإن كان قد يقع ذلك، لكن وقوعه قليل بالنسبة إلى أشخاص الآدميين، فإلحاق أحدهما بالآخر ممتنع.

وبعد، فقد كان ما سبق بعضا مما استدل به المانعون للقافة ودورها في إثبات النسب، وما أجيب به من أصحاب الرأي القائل بأنها وسيلة من وسائل إثباته، وواضح صحة رأي الجمهور وبطلان رأي مخالفيهم؛ لأنه إذا كانت السنة قد دلت على ثبوت النسب بهذا الطريق، فلا مجال للرأي، وإنما يكون العمل بما ثبت بالسنة، وعلى هذا فلا اعتبار بما استند إليه المانعون للقافة في النسب.

شروط القائف:

اشترط العلماء عدة شروط في القائف، حتى تطمئن النفس إلى ما يحكم به، وهذه الشروط هي:

أولا: الإسلام، فلا يقبل قول الكافر في هذا الأمر.

ثانيا: العدالة، فلا يقبل قول الفاسق؛ لأن القائف حاكم، أو قاسم.

ثالثا: أن يكون بصيرا، فلا اعتبار بقول الأعمى، وهذا شرط بدهي، إذ لا يعقل أن يحكم الأعمى بأن هذا ابن هذا بناء على الشبه الموجود بينهما.

رابعا: أن يكون ناطقا، فلا اعتبار بإشارة الأخرس حتى لو كانت إشارته مفهومة.

ص: 438

خامسا: انتفاء العداوة عن الذي ينفيه عنه، وانتفاء الولاء عمن يلحقه به.

سادسا: أن يكون مجربا -بفتح الراء المشددة- في معرفة النسب، أي: أن يكون قد ثبت من التجارب المتعددة صدقه فيما يقول، ويمكن أن يكون ذلك باختياره في قرابات ثابتة بين ابن وأبيه، وابن وأمه، وأخ وأخيه، كابن يعرض على القائف مع رجال ليس فيهم أبوه عدة مرات، ثم يعرض عليه مع رجال فيهم أبوه، فإن عرفه ثبتت الثقة بقوله، وهكذا في الابن مع أمه بأن يعرض على القائف في نسوة ليس فيهن أمه عدة مرات، ثم يعرض عليه في نسوة فيهن أمه، وكذلك الأمر بالنسبة للأخ مع أخيه، حتى نطمئن إلى أن أحكامه صحيحة، فكما لا يولى الرجل منصب القضاء إلا بعد أن نعرف علمه بالأحكام، فكذلك لا يؤخذ بقول شخص في إثبات النسب إلا إذا ثبت علمه -بطريقة الاختبار- في معرفة النسب، فلا بد أن يغلب على ظننا أن قول هذا الشخص الذي يدعي العلم بالقيافة عن خبرة بمعرفة الأنساب، وليس عن مجرد صدفة واتفاق.

سابعا: أن يكون حرا على الراجح من رأيين لفقهاء الشافعية، قياسا على القاضي، والرأي الثاني لا يشترط الحرية في القائف، قياسا على المفتى، فإن الإفتاء كما يجوز من الحر يجوز أيضًا ممن به رق، وهذا الرأي الأخير هو الأرجح.

ثامنا: اشتراط فقهاء الشافعية أيضًا -على الرأي الراجح عندهم- أن يكون ذكرا قياسا على القاضي أيضًا، والرأي الثاني عندهم أنه لا يشترط الذكورة في القائف، قياسا على المفتى، فالإفتاء كما يجوز من الرجل يجوز من المرأة فكذلك القيافة.

ص: 439

والرأي الأخير -بحسب ظني- هو الأولى بالقبول؛ لأن المدار في كون الشخص يصلح للنسب أو لا يصلح، هو قدرته على معرفة أن هذا ابن لهذا، أو أن هذا أخوه، وهكذا، فإذا تحققنا من قدرته بالاختبار مرات عديدة، فلا معنى هنا لاشتراط الذكورة، فإذا تحققنا من قدرة امرأة على هذا الأمر فقد تحقق المقصود.

تاسعا: اشترط بعض فقهاء الشافعية التعدد في القائف، فلا يكفي على هذا الرأي قبول الواحد، قياسا على القاضي، والقاسم.

وأرى أن الراجح عند فقهاء الشافعية هو المستفاد أيضا من قصة القائف مع زيد بن حارثة وأسامة ابنه، فالقائف كان واحدا، وهو مجزز المدلجي، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وإذا ثبت النص فلا اعتبار بما يخالفه.

عاشرا: اشترط البعض أن يكون القائف مدلجيا أي: من بني مدلج، لكن الراجح عدم اشتراط بذلك.

وقد استند الرأي القائل باشتراط كونه من بني مدلج إلى أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يرجعون إلى بني مدلج في ذلك دون غيرهم، وقد يخص الله عز وجل جماعة بنوع من المناصب والفضائل.

وأما الرأي الراجح فيعلل له بأن القيافة نوع من العلم، ولا يختص العلم بقوم دون قوم، فمن تعلم هذا العلم عملنا بقوله، وفي سنن البيهقي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان قائفا يقوف، مع أن عمر ليس مدلجيا.

مما سبق يتبين لنا أن النسب يثبت بقول القائف، فإذا حدث أن شخصين

ص: 440

تداعيا ولدا مجهول النسب، صغيرا، سواء أكان لقيطا أم غير لقيط، عرضناه على القائف، فمن ألحقه به لحقه.

وكذلك لو اشترك رجلان في اتصال جنسي بامرأة، فولدت ولدا من الممكن أن يكون من كل منهما، وادعى كل منهما، أو أحدهما أنه ولده ولم يتخلل بين الجماعين حدوث حيضة، فإنه يعرض على القائف، حتى لو كان الولد بالغا عاقلا، فلا يشترط أن يكون صغيرا كما هو الشرط في الصورة الأولى.

واشتراك رجلين في الاتصال الجنسي بامرأة له عدة صور:

من هذه الصور ما لو حدث الاتصال الجنسي بشبهة، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بوطء الشبهة، كأن وجدها كل منهما في فراشه فظنها زوجته، ومنها ما لو اتصل الرجل جنسيا بزوجته ثم طلقها، فاتصل بها آخر جنسيا بشبهة، أو تزوجها زواجا فاسدا لم يستوف أركان عقد الزواج وشروط صحته، ثم اتصل جنسيا بها بعد هذا الزواج الفاسد.

هذا وقد بين العلماء أنه لو تخلل بين الاتصال الجنسي من الرجلين حيضة، فالولد يحكم به للرجل الثاني؛ لأن الحيض أمارة ظاهرة من حصول براءة الرحم عن الأول فينقطع تعلقه عنه، وإذا انقطع عن الأول تعين للثاني.

إذا أشكل الأمر على القائف:

قال بعض فقهاء الشافعية إنه لو تحير القائف فلم يستطع إلحاقه بأحدهما، وقف الأمر حتى يبلغ الطفل موضوع القضية ويعقل، ويختار الانتساب إلى أحد الرجلين بحسب الميل القلبي الذي يجده، ويحبسه القاضي ليختار إن امتنع من

ص: 441

الانتساب، إلا إذا لم يجد ميلا إلى أحدهما فيتوقف الأمر1.

ويرى ابن القيم أنه إذا تعذرت القافة أو أشكل الأمر عليها كان المصير إلى القرعة أولى من ضياع نسب الولد، وتركه هملا لا نسب له، وعلل لهذا بأن القرعة هنا أقرب الطرق إلى إثبات النسب، فإنها طريق شرعي، وقد سدت الطرق كلها ما عداها. وإذا كانت صالحة لتعيين الأملاك المطلقة، وتعيين الرقيق من الحر، وتعيين الزوجة من الأجنبية2. فكيف لا تصلح لتعيين صاحب النسب من غيره؟ ومن المعلوم أن طرق حفظ الأنساب أوسع من طرق حفظ الأموال، والشارع إلى ذلك أعظم تشوفا، فالقرعة شرعت لإخراج المستحق تارة، ولتعيينه تارة، وهنا أحد المتداعيين هو أبوه حقيقة فعملت القرعة في تعيينه، كما عملت في تعيين الزوجة عند اشتباهها بالأجنبية3.

1 مغني المحتاج، ج4، ص488-490.

2 إذا كان لرجل أكثر من زوجة فطلق واحدة، ولم تكن له نية لامرأة بعينها، فيرى أحمد -كما نقل عنه- أنه يعمل بالقرعة، فالتي أصابتها القرعة هي المطلقة، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يعمل بالقرعة هنا، ولكن إذا كان الطلاق بواحدة لا بعينها ولا نواها فإنه يختار صرف الطلاق إلى أي واحدة شاء، وإن كان الطلاق لواحدة بعينها ونسيها فإنه يتوقف فيهما حتى يتذكر ولا يقرع بينهما ولا يختار صرف الطلاق إلى واحدة منهما، وقال مالك: يقع الطلاق على الجميع.

الطرق الحكمية، ص345.

3 الطرق الحكمية لابن القيم، ص275.

ص: 442