الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرط الحادي عشر الاجتهاد:
يقصد بهذا الشرط تحقق الكفاءة العلمية الكاملة في القاضي، التي تؤهله لمعرفة الأحكام الشرعية في القضايا التي تعرض عليه، حتى نأمن أن لا يحكم بين الناس على جهل، وهذا الشرط أحد الشروط التي اختلف العلماء حولها على رأيين:
الرأي الأول: اشتراط الاجتهاد في القاضي، وهذا ما يراه بعض المالكية والشافعي، وأحمد بن حنبل، وبعض الحنفية، ويراه الشيعة الإمامية1، والشيعة الزيدية2، فلا يتولى القضاء جاهل بالأحكام الشرعية، ولا مقلد، وهو من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصرا عن تقرير أدلته، كالذي يتبع المذهب الفقهي للإمام أبي حنيفة، فهو يحفظ أن مذهب إمامه الذي ينتمي إليه يرى أن من حق المرأة البالغة -سواء كانت بكرا أم ثيبا- أن تتولى عقد الزواج لنفسها أو لغيرها بوكالة أو وصاية. ولكن هذا الشخص المنتمي للإمام أبي حنيفة في مذهبه الفقهي لا يعرف الدليل الشرعي الذي استند إليه في هذا الحكم الشرعي.
وكذلك يتبع مذهب الإمام مالك فيحفظ أن الإمام مالك يرى أن لمس الرجل للمرأة الأجنبية لا ينقض الوضوء إلا إذا كان بشهوة، وإذا لم يكن اللمس بشهوة فلا ينقض الوضوء3، ولكن هذا الشخص لا يعرف الدليل الذي استند إليه
1 شرائع الإسلام للحلي، ج4، ص67.
2 البحر الزخار، ج6، ص119.
3 مواهب الجليل للحطاب، وبهامشه التاج والإكليل للمواق، ج1، ص296.
الإمام مالك في هذا الحكم.
وكالذي يتبع مذهب الإمام الشافعي فيحفظ أن هذا المذهب يرى أن خلوة الزوج بالمرأة التي عقد عليها قبل أن يدخل بها دخولا حقيقيا لا تأخذ حكم الدخول الحقيقي، فلا يجب لها كل المهر المسمى في العقد بل نصفه فقط إذا حصل الطلاق قبل الدخول الحقيقي1، ولكن هذا المنتمي لمذهب الإمام الشافعي لا يعرف الدليل الذي استند إليه الشافعي في هذا الرأي.
وكالذي يتبع مذهب الإمام أحمد بن حنبل فيحفظ مما يحفظ في هذا المذهب أنه يجوز للقاضي أن يحكم بشاهد واحد ويمين المدعي2، لكن هذا الشخص لا يعرف دليل ذلك.
وهكذا، فهؤلاء مقلدون يحفظون مذاهب أئمتهم، لكنهم لا يعرفون غوامضها ولا تتوفر عندهم القدرة العلمية على تقرير الأدلة التي تستدل بها هذه المذاهب الفقهية، وهؤلاء لا يجوز توليتهم القضاء عند من يشترطون في القاضي أن يكون مجتهدا.
الرأي الثاني: لا يشترط الاجتهاد في القاضي، وبهذا الرأي قال أبو حنيفة، وبعض المالكية3، كابن العربي، فإنه يرى أن الاجتهاد ليس شرطا بل يشترط عنده
1 الحاوي للماوردي، ج13، مخطوط بدار الكتب المصرية.
2 صحيح مسلم، بشرح النووي، ج12، ص4.
3 يرى ابن عبد السلام وغيره من فقهاء المالكية أنه يصح تولية المقلد القضاء لكن بشرط أن يكون مجتهد مذهب، أو مجتهد فتوى. أسهل المدارك، ج3، ص197، ونظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص19.
العلم، وأما الاجتهاد إذا وجد فلا يجوز العدول عن صاحبه قط1. ويرى بعض فقهاء الإباضية أن الاجتهاد ليس شرطا في القاضي فينعقد القضاء لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد مع وجود من بلغها بشرط أن يكون ذا علم ونباهة، وفهم بما يتولى أمره2.
معنى الاجتهاد:
معنى الاجتهاد كما عرفه الأصوليون: "بذل الفقيه وسعه في استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية".
ومعنى بذل الوسع أن يحس من نفسه العجز عن المزيد على ما بذله3، والتقليد يضاد الاجتهاد، وقد عرف العلماء التقليد بعبارات مختلفة، عرفه بعضهم بأنه قبول رأي الغير بلا دليل ولا حجة، وعرف الجرجاني بأنه عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدا الأحقية فيه من غير نظر وتأمل في الدليل، فقال الجرجاني: إن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه.
وعرفه ابن السبكي بأنه أخذ القول من غير معرفة دليله4.
وعرفه تقي الدين الحصني: بأنه قبول قول المستند إلى الاجتهاد، فلو قال
1 مواهب الجليل، ج6، ص89.
2 شرح كتاب النيل، وشفاء العليل، ج13، ص20.
3 حاشية الصاوي على الشرح الصغير، ج4، ص188، وأصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص423.
4 ويرى بعض العلماء أن أخذ القول مع معرفة دليله يمكن أن يسمى تقييدا ويكون هذا واسطة بين التقليد والاجتهاد، وعلل هذا بأنه لا ينطبق عليه تعريف الاجتهاد ولا تعريف التقليد، انظر شرح كتاب النيل وشفاء العليل، لمحمد بن يوسف أطقيش، ج17، ص474، 475.
إنسان مثلا: رأيت القطب، فإن الأخذ به يكون قبول خبر لا تقليد؛ لأنه لم يكن هذا القول مستندا إلى الاجتهاد، بل يستند إلى الرؤية1.
هذا ما يتصل بمعنى كل من الاجتهاد، والتقليد، ويرى البعض أن القياس والاجتهاد بمعنى واحد، قال الشيرازي في كتابه "اللمع" في أصول الفقه: ذهب بعض الناس إلى أن القياس هو الاجتهاد، والصحيح أن الاجتهاد أعم من القياس؛ لأن الاجتهاد بذل المجتهد وسعه في طلب الحكم، وذلك يدخل فيه حمل المطلق على المقيد، وترتيب العام على الخاص، وجميع الوجوه التي يطلب منها الحكم، وبعض ذلك ليس بقياس.
وقال القاضي عبد الوهاب من المالكية في كتابه "الملخص" في أصول الفقه: ذهب بعض أهل الأصول إلى أن الاجتهاد هو القياس، وأنهما اسمان بمعنى واحد، وهذا غير صحيح؛ لأن الاجتهاد أعم من القياس ينظم القياس وغيره، ولذلك قالوا: هذا الحكم علمناه قياسا وهذا علمناه اجتهادا، وقال في مواضع أخرى: اعلم أن الاستدلال أعم من القياس؛ لأن كل قياس يتضمن الاستدلال وليس كل دليل قياسا، يبين ذلك أن الاستدلال يصح في الظواهر والاستنباط على غير وجه القياس2.
ومن المعلوم أن هناك ثلاثة أنواع من الاجتهاد.
أحدها: الاجتهاد المطلق، وهو أم تتوافر في الشخص القدرة على استنباط
1 التعريفات للجرجاني، ص37، 38 وكفاية الأخيار، لتقي الدين الحصني، ج1، ص97.
2 نقلا عن كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض، للسيوطي، ص83.
الحكم في جميع أبواب الشرع، بأن كان يستطيع أن يفتي في العبادات، والمعاملات من بيع وإجارة، ورهن، وشفعة، وغيرها، ومسائل الأسرة والجنايات وما عدا هذا من أبواب الشرع.
النوع الثاني: اجتهاد المذهب، وهو أن يكون متمكنا من معرفة الأحكام في الوقائع التي لم يرد فيها نص عن إمام مذهبه، بطريق التخريج على النصوص، أو القواعد المنقولة عن هذا الإمام، فاجتهاده لا يخرج عن دائرة إمام مذهبه1.
النوع الثالث: اجتهاد الفتوى، وهو أن يكون متمكنا من ترجيح قول لإمام المذهب على قول آخر، أو الترجيح بين ما قاله الإمام وما قاله تلاميذه، أو غيره من الأئمة.
فالمجتهد المطلق مثل علماء الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة المشتهرة، أبي حنيفة، ومالك والشافعي، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم جميعا.
ومجتهد المذهب كابن القاسم، وأشهب في المذهب المالكي، والكمال بن الهمام في المذهب الحنفي، والغزالي، والنووي في المذهب الشافعي، ومجتهد الفتوى ككبار المؤلفين من أهل المذاهب2.
1 لكل إمام من الأئمة المجتهدين أصول يسير عليها في الاستنباط، وتختلف هذه الأصول بين الأئمة في بعضها، فمثلا يرى أبو حنيفة أنه إذا خالف الراوي بفعله ما رواه، فإنه يجب الأخذ بفعله لا بما رواه، ويرى الشافعي وجوب الأخذ بما رواه، وتطبيق هذه القاعدة يتضح مما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب"، فهذا حديث رواه أبو هريرة لكن ثبت من فعل أبي هريرة أنه غسل أقل من السبع، فهل نأخذ بروايته أم نأخذ بفعله؟ أبو حنيفة يرى الأخذ بالفعل؛ لأن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول، والشافعي يرى الأخذ بالقول لاحتمال النسيان من أبي هريرة.
2 حاشية ابن عابدين، ج5، ص365.
فما هو نوع الاجتهاد المشترط في القاضي عند من يقول به من العلماء من هذه الأنواع الثلاثة؟
أغلب الذين يشترطون الاجتهاد في القاضي يريدون به الاجتهاد المطلق، وقد بين العلماء أنه لا بد من توفر عدة أمور علمية، عند الشخص حتى يصح أن يتحقق عنده الاجتهاد المطلق، وهذه الأمور هي -بعد تحقق عدة شروط بدهية، وهي شرط الإسلام والبلوغ، وشدة الفهم بالطبع- ما يأتي:
أولا: لا بد أن يكون عارفا من القرآن والسنة ما يتعلق بالأحكام، ولا يشترط أن يكون حافظا للآيات الكريمة أو الأحاديث الشريفة عن ظهر قلب، بل يكفي أن يكون عارفا بمواضع أحكام القرآن والسنة، لكي يرجع إليها عند الاحتياج إليها، لكن يجب أن يعرف خاص القرآن وخاص السنة وعامها، ومطلقهما ومقيدهما، ومجملهما ومبينهما، ويعرف الناسخ والمنسوخ، والنص والظاهر، والمحكم1 ويعرف من الستة: المتواتر، والآحاد؛ لأنه لا يتمكن من الترجيح بين
1 المحكم: هو اللفظ الذي وضحت دلالته على الحكم، ولا يحتمل تأويلا، ولا تخصيصا، ولا نسخا.
- مثل النصوص التي تدل على أحكام أساسية هي من قواعد الدين، كالإيمان بالله تعالى، وملائكته.. إلخ.
- أو كان نصًّا دل على حكم شيء هو من أمهات الفضائل كالعدل، والوفاء بالوعد.
- أو دل على حكم جزئي ورد التصريح بتأييده ودوامه، مثل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} .
الظاهر: هو اللفظ الذي وضحت دلالته على معناه، بحيث لا يتوقف فهم المراد منه على قرينة خارجية، مع احتمال التأويل والتخصيص، ولم يكن الحكم المستفاد منه هو المقصود الأصلي من سوق الكلام، مثاله: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فكلمة {أَحَلَّ} تدل دلالة واضحة على حرمة الربا، لكن كلا منهما ليس مقصودا بالأصالة من سوق الكلام، وإنما المقصود الأصلي بيان الفرق بين البيع والربا=
الأدلة عند تعارضها -بحسب الظاهر- إلا بمعرفة ذلك ويعرف الحديث المتصل، والمرسل1، والمنقطع، والمعضل، وغير ذلك من أنواع الحديث الضعيف، ويعرف الصحيح، والحسن، وحال الرواة قوة وضعفا؛ لأنه يتوصل بذلك إلى تقرير الأحكام، فيقدم عند التعارض، في ظاهر النصوص، الخاص على العام، والمقيد على المطلق والمبين على المجمل، والنص على الظاهر، والمحكم على المتشابه، والناسخ والمتصل، والقوي على مقابلها.
ثانيا: أن يكون عارفا بلسان العرب، لغة ونحوا، وصرفا وبلاغة، لأنه لا بد منها في فهم الكتاب والسنة.
ثالثا: أن يعرف أقوال العلماء من الصحابة ومن بعدهم، إجماعا واختلافا، فلا يخالفهم في اجتهادهم إذا أجمعوا على حكم من الأحكام ولا يجب أن يعرف
= لأن الآية نزلت ترد على الذين قالوا بالتساوي بينهما فقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} .
النص: هو اللفظ الذي وضحت دلالته على معناه مع احتمال التأويل، والتخصيص، وكان الحكم المستفاد منه هو المفصود الأصلي من سوق الكلام، مثل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} في التفرقة بين حكم البيع وحكم الربا.
1 المرسل: ما سقط منه الصحابي، والمنقطع ما حذف من سنده راو واحد قبل الصحابي، ولو تعدد في المواضع، بحيث لا يزيد الساقط في الموضع الواحد على واحد، مثاله في حديث متصل الإسناد رواه أحمد: قال أحمد، قال الشافعي، قال مالك: قال نافع، قال ابن عمر: فإذا قال أحمد: قال الشافعي، قال مالك، قال ابن عمر: وحذف منه نافعا كان منقطعا في موضع واحد، وإذا قال أحمد: قال مالك، قال ابن عمر، وحذف الشافعي ونافعا كان منقطعا في موضعين.
والحديث المعضل: ما حذف من سنده اثنان على التوالي في الموضع الواحد، سواء كان الحذف من أوله أو من وسطه، أو من آخره.
مثاله في المثال السابق، إذا قال أحمد: قال الشافعي قال ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحذف منه مالكًا ونافعا على التوالي كان معضلا في وسطه، وهكذا.
انظر الشهاوي: في مصطلح الحديث للدكتور إبراهيم دسوقي الشهاوي، ص29.
أقوالهم في كل مسألة، بل في المسألة التي يريد أن يعرف حكمها، ويكفي أن يعرف أن المسألة التي يفتي أو يحكم فيها أن قوله لا يصادم الإجماع في هذه المسألة، إما بكونه يعلم أن قوله يوافق بعض العلماء السابقين، أو أنه يغلب على ظنه أن هذه المسألة من المسائل التي لم يتكلم فيها السابقون بل هي إحدى المسائل التي تولدت في عصره.
رابعًا: أن يكون عارفا بالقياس، وشروطه وأنواعه، فيعرف القياس الجلي، وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين المقيس والمقيس عليه، أو بعبارة أخرى هو ما كانت علة الفرع أقوى منها في الأصل، كقياس الضرب لأحد الوالدين على التأفيف المحرم بقوله سبحانه وتعالى:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ، ويعرف القياس المساوي، وهو ما يبعد فيه الفارق، أو هو ما كان العلة التي بنى عليها الحكم في الأصل موجودة بقدر ما هي متحققة في الأصل، وذلك كقياس إحراق مال اليتيم على أكله، الذي حرمه الله تبارك وتعالى بقوله:{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، وقوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ، ويعرف القياس الأدنى، وهو ما لا يبعد فيه انتفاء الفارق، أو بعبارة أخرى هو ما كانت العلة في الفرع أضعف وأقل وضوحا مما في الأصل، مع تساوي الاثنين في تحقيق أصل المعنى الذي صار به الوصف علة، مثل قياس التفاح على القمح، في كونه من الأشياء الربوية -عند الشافعية- التي لا يجوز بيع شيء منها بجنسه بزيادة، والعلة المشتركة هنا بين القمح الذي ثبت حكمه من الحديث
الشريف، وبين التفاح أن كلا منهما مطعوم1.
ويجب كذلك أن يعرف طرق استخراج العلل، والاستنباط، وقد بيّن العلماء أنه لا يشترط أن يحصل على النهاية في كل الأمور التي اشترطت في المجتهد المطلق، بل يكفي الدرجة الوسطى في كل ذلك.
واجتماع ذلك كله إنما هو الشرط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه2.
ويبين القاضي عياض طريقة العمل بالأدلة الشرعية، فيقول: "إن ترتيب
1 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء"، رواه البخاري ومسلم، وزاد مسلم وأحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال:"فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".
وقد اختلف العلماء في العلة في الربا في هذه الأصناف الستة، حتى يقاس عليها ما عداها، فيري ابن حزم الظاهري، وابن عقيل من علماء الحنابلة أنه لا يقاس على هذه الستة شيء آخر، أي: إن ربا التفاضل لا يحرم إلا في هذه الأصناف الستة المذكورة في الحديث، أما ابن حزم فلأن مذهبه لا يأخذ بالقياس، وأما ابن عقيل فلأنه لم يجد علة في الأصناف الستة ليعمل بالقياس، ويرى الحنفية أن العلة هي الكيل والوزن مع اتحاد الصنف، وهذا أيضا ما يراه الشيعة، وهو ظاهر مذهب أحمد، ويرى الشافعية أن ربا التفاضل يحرم في النقدين "الذهب والفضة"، وكل طعام بطعام إذا اتحد الصنف وهذا أيضًا رواية عن أحمد، ويرى المالكية أن ربا التفاضل يحرم في الصنف الواحد من النقدين أو من القوت وما يصلحه عادة.
2 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص239، 240، وبين العلماء أن من لا تتوافر فيه صفة الاجتهاد لا يفتي الناس برأيه، وإنما يخبر عن فتوى المجتهدين، قال الإمام الباجي في مجال الاستدلال لشرط الاجتهاد في القاضي، بعد أن ذكر قول الله تبارك وتعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ، قال الباجي:"ومن ليس من أهل الاجتهاد فإنه لا يرى شيئًا، وبذلك قال الفقهاء المتقدمون إنه لا يفتي من لا يعرف ذلك إلا أن يخبر بما سمع، فلم يجعل ذلك من باب الفتوى، وإنما هو إخبار عن فتوى صاحب المقالة، عند الضرورة، لعدم المجتهد الذي تجوز له الفتوى" المنتقى شرح موطأ مالك للباجي، ج5، ص183.
الاجتهاد على ما يوجبه العقل، ويشهد له الشرع، تقديم كتاب الله عز وجل على ترتيب أدلته في الوضوح، من تقديم نصوصه، ثم ظواهره ثم مفهوماته، ثم كذلك السنة على ترتيب متواترها، ومشهورها، وآحادها، ثم ترتيب نصوصها، وظواهرها، ومفهوماتها، ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة، وعند عدم هذه الأصول كلها القياس عليها والاستنباط منها، إذ كتاب الله مقطوع به، فوجب تقديم ذلك كله، ثم الظواهر، ثم المفهوم، لدخول الاحتمال في معناها، ثم أخبار الآحاد عند عدم الكتاب والمتواتر منها، وهي مقدمة على القياس، لإجماع الصحابة وتركهم نظر أنفسهم متى بلغهم خبر الثقة، وامتثالهم مقتضاه دون خلاف منهم في ذلك، ثم القياس أحرى عند عدم الأصول على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين رضي الله عنهم" ا. هـ1.
سؤال:
وهنا يمكن أن يسأل القارئ: هذه الشروط التي بينتموها لا تتحقق جميعها في شخص واحد، فكيف يجوز اشتراطها؟ هذا السؤال أثاره ابن قدامة الفقيه الحنبلي المشهور، وأجاب عنه بما يفيد أنه ليس من شرط المجتهد أن يكون محيطا بكل هذه العلوم إحاطة بجمع أقصاها، أو متبحرا فيها، حتى يكون في النحو كسيبويه، وفي اللغة كالخليل، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة، ولسان العرب، لا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب في حال خلافتهما، يسألهما بعض الناس عن الحكم في بعض المسائل، فلا يعرفان ما فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسألان الناس، فيخبرهما من يعلم بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1 الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي، ج1، ص384.
فقد سئل أبو بكر عن الميراث الذي تستحقه الجدة؟ فقال لها: مالك في كتاب الله شيء، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، ثم قام، فقال: أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة، فقام المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس.
وثبت أن عمر رضي الله عنه استشار الناس في إملاص المرأة "أي: إسقاط جنينها بجناية عليها"، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة1: عبد أو أمة، فقال لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة.
ومعنى هذا أنه لا مانع من أن يتوقف المجتهد في بعض المسائل.
وصرح العلماء بأنه لا يشترط في المجتهد أن يعرف المسائل التي فرعها المحتهدون في كتبهم؛ لأن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد أن حازوا رتبة الاجتهاد، فلا تكون شرطا له.
وصرح ابن قدامة بأنه ليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل، بل من عرف أدلة مسألة وما يتعلق بها تثبت له صفة الاجتهاد وإن كان جاهلا بغيرها، وذلك كما إذا كان يعرف الفرائض وأصولها فليس من شرط
1 سمى العبد والأمة غرة؛ لأنهما من أنفس الأموال، فالغرة عند العرب أنفس شيء يملك، وقد أجمع الفقهاء على تقدير الغرة بخمس من الإبل.
وتجب الغرة في الجنين الذكر، وفي الجنين الأنثى، ولا فرق في قيمة الواجب لكل منهما، والفقهاء يقدرون دية الجنين الذكر بنصف عشر الدية الكاملة، ولما كانت دية الرجل الكاملة هي مائة من الإبل فإن نصف عشرها يكون خمسا من الإبل، ويقدر الفقهاء دية الجنين الأنثى بعشر دية الأم، ولما كانت دية المرأة خمسين من الإبل؛ لأنها نصف دية الرجل، فيكون عشرها خمسا من الإبل.
التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عودة، ج2، ص299، دار التراث بالقاهرة.
اجتهاده فيها أن يكون عارفا بالبيوع، أو الحدود، أو غيرهما من مجالات الفقه الإسلامي. وقد ثبت أنه ما من إمام من الأئمة المجتهدين إلا وتوقف في بعض المسائل، وقال بعض العلماء: من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم كلمة "لا أدري" أصيبت مقاتله.
وحكى أن الإمام مالكا رضي الله عنه، وهو أحد الأئمة الأربعة المشتهرين سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري، ولم يخرج بذلك عن كونه أحد المجتهدين الكبار.
وإنما المعتبر أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك، ورزق فهمه كان مجتهدا له الفتيا، وولاية القضاء1. وبين العلماء أن الاجتهاد المطلق أصبح سهلا بعد أن دونت العلوم، قال ابن الصباغ: "إن هذا سهل في هذا الزمان "يقصد زمانه" فإن العلوم دونت وجمعت".
وما صرح به ابن قدامة يصح أن يسمى بتجزؤ الاجتهاد، ومعنى تجزؤ الاجتهاد أن تكون عنده القدرة على الاجتهاد في فن من فنون الفقه دون الفن الآخر منه2 كما لو كانت عنده قدرة الاجتهاد في فقه الأسرة فقط، أو فقه العبادات فقط، أو فقه المعاملات وهكذا.
وبعض فقهاء الشافعية أيضا صرح بجواز تجزؤ الاجتهاد، قال محمد
1 المغني ج9، ص42، وإرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني، ج10، ص234، دار الفكر. والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، لمحمد بن أحمد الشربيني الخطيب، ج5، ص81. مطابع الشعب.
2 كتاب النيل وشفاء العليل، لضياء الدين عبد العزيز الثميني مع شرحه لمحمد بن يوسف أطفيش، ج17، ص475.
الشربيني الخطيب "ويجوز تبعيض الاجتهاد بأن يكون العالم مجتهدا في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه"1. والواقع أن العلماء مختلفون في هذه القضية، ففريق من العلماء يرى أن الاجتهاد يتبعض أي: يتجزأ، وعزاه الصفي الهندي2 إلى الأكثرين من علماء الأمة، قال الشوكاني3: "قال ابن دقيق العيد وهو المختار؛ لأنه قد يمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد" ا. هـ.
ومن أدلة هذا الرأي أنه لو لم يكن من المآثر تجزؤ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل، واللازم منتف؛ لأن الواقع يبين أن كثيرا من علماء الأمة المجتهدين سئلوا في مسائل فلم يجيبوا بالحكم فيها، وكثيرا منهم سئل في مسائل فأجاب عن بعضها فقط، ولم يجب عن البعض الآخر، ولم يغير هذا من وصفهم ومكانتهم بأنهم مجتهدون بلا خلاف.
وفريق آخر يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ، ويستندون إلى أن من لا يستطيع الاجتهاد في بعض المسائل لا يستطيع الاجتهاد في البعض الآخر؛ لأن أكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض، وكلها متناظمة متسقة بعضها مع البعض الآخر، وخاصة ما كان من علوم الاجتهاد مرجعه إلى ثبوت ملكة الاستنباط للأحكام
1 الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، ج2، ص298.
2 الصفي الهندي هو محمد بن عبد الرحيم صفي الدين الهندي، توفي سنة 715هـ، فقيه شافعي، ولد بالهند، وقدم اليمن، ثم انتقل إلى مكة، فالقاهرة، فالبلاد الرومية فدمشق، من مؤلفاته النهاية في أصول الفقه، انظر ما كتبه محققو كتاب "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار" للشوكاني، ج1، ص24، "هامش" بتحقيق محمود النواوي وآخرين من مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر، سنة 1993.
3 السيل الجرار، للشوكاني، ج1، ص24.
الشرعية، فإن هذه الملكة إذا تمت حصلت القدرة للشخص على الاجتهاد في جميع المسائل، وإن نقصت هذه الملكة فإن الشخص لا يقتدر على الاجتهاد في أي مسألة، ولا تتحقق له الثقة في نفسه لتقصيره، ولا تتحقق ثقة الناس فيه لذلك.
ويظهر من كلام الشوكاني في هذه القضية أنه يرى عدم تجزؤ الاجتهاد، وقد حكى هذين الرأيين اللذين ذكرناهما، وما يستند إليه كلاهما، ثم بين أنه إذا ادعى البعض أنه قد اجتهد في مسألة دون مسألة فهذه الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا فإن هذا المجتهد المطلق سيورد على من يدعي الاجتهاد في مسألة دون مسألة من المسالك والمآخذ ما لا يستطيع تعقله1.
ونرى الأخذ بالرأي القائل بجواز تجزؤ الاجتهاد؛ لأن المطلوب شرعا أن يكون الشخص ملما بكل ما يتصل بالمسألة التي يبحثها من أدلة شرعية، وهذا من الممكن ومتيسر لكثير من العلماء السابقين ومتيسر أيضا لبعض المعاصرين.
والسؤال الذي يمكن أن يثار هنا هو ما هي مكانة علماء الفقه الإسلامي المعاصرين، وما هو موقعهم بالنسبة إلى أنواع الاجتهاد الثلاثة، هل فيهم من يصح أن يكون مجتهدا اجتهادا مطلقا، أو مجتهدا اجتهاد مذهب، أو اجتهاد فتوي؟
إذا قلنا بصحة القول بأنه يمكن تجزئة الاجتهاد كما بين العلامة ابن قدامة وغيره، بمعنى أنه يصح أن يكون الشخص مجتهدا في مسألة من المسائل الفقهية، كالطلاق الثلاث في كلمة واحدة، أو قضاء المرأة، أو باب من أبواب الفقه كالعبادات أو المعاملات، أو فقه الأسرة، أو غير ذلك، وليس بلازم أن يكون عالما بغير ذلك من المسائل أو الأبواب الأخرى في الفقه. إذا قلنا بهذا الرأي -وهو
1 السيل الجرار، ج1، ص24، 25.
صحيح- فإنه يمكن أن تنطبق صفة الاجتهاد الجزئي على العديد من علماء الفقه الإسلامي المعاصرين، وإن كانوا قلة بالنسبة إلى باقي العلماء.
وكذلك يمكن أن يكون بين الفقهاء المعاصرين من هو مجتهد اجتهاد مذهب، ومن هو مجتهد اجتهاد فتوي.
لكن الاجتهاد المطلق غير المجزأ، وهو الذي يكون العالم عنده الملكة العلمية التي تؤهله لأن يستنبط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية في كل أبواب الشرع، وليس متخصصا في مسألة معينة، أو باب معين من أبواب الفقه كعلماء الصحابة، وأئمة المذاهب الفقهية الأربعة المشتهرة، فلا أعلم أن أحدا من علماء الفقه الإسلامي المعاصرين في مصر وغيرها من البلاد العربية أو الإسلامية أو غيرها يصح أن تنطبق عليه هذه الصفة.
والكثيرون من علماء الأمة الإسلامية الآن ليسوا مجتهدين، لا اجتهادا مطلقا ولا اجتهاد مذهب، ولا اجتهاد فتوي، وإنما الصفة العلمية التي يصح أن يتصفوا بها هي أنهم علماء مخبرون عن فتوى، أو نقلة فتوى؛ لأنهم ينقلون فتاوي المجتهدين السابقين في شتى الموضوعات، ولم يتدخلوا باجتهاد في استنباط الحكم الشرعي، فهم فقط يحكون الفتوى عن غيرهم من الأئمة المجتهدين، وليس لهم حق الفتوى؛ لأن الفتوى حق المجتهد بأنواعه الثلاثة، قال الفقهاء المتقدمون: إنه لا يفتي من ليس من أهل الاجتهاد إلا أن يخبر بما سمع، فلم يجعل ذلك من باب الفتوى، وإنما هو إخبار عن فتوى صاحب المقالة عند الضرورة لعدم المجتهد الذي تجوز له الفتوى1.
وسئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن فتوى المقلد فأجاب بأنه حامل فقه
1 المنتقى شرح موطأ مالك، للباجي، ج5، ص183.
ليس بمفت ولا فقيه، بل هو كمن ينقل فتوى عن إمام من الأئمة، لا يشترط فيه إلا العدالة وفهم ما ينقله "كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي، ص23".
إذا لم يوجد مجتهد:
الذين يشترطون الاجتهاد في القاضي صرحوا بأنه لم يوجد المجتهد، فإنه يجوز تولية المقلد للضرورة، حتى لا تتعطل مصالح الناس، والمقلد هو من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته، كما سبق بيانه.
ويسمون المقلد الذي تولى القضاء لعدم وجود المجتهد: قاضي الضرورة، وقال البعض من العلماء إنه يلزم قاضي الضرورة أن يبين مستنده إذا سئل عنه في كل الأحكام التي يصدرها، ولا يقبل قوله: حكمت بكذا من غير أن يبين مستنده في هذا الحكم، ولعل هذا من العلماء إنما كان لضعف ولايته.
والمراد بمستنده في الحكم ما استند إليه من بينة، أو نكول عن اليمين أو نحو ذلك1.
وبين بعض العلماء من القائلين باشتراط الاجتهاد أنه إذا لم يوجد المجتهد المطلق يولى أفضل المقلدين، وهو مجتهد الفتوى ومجتهد المذهب.
هكذا يرى بعض العلماء، ويرى بعض آخر أنه لا يشترط الأفضل، بل يصح تولية من هو دون الأفضل مع وجوده ما دام عالما.
1 نهاية المحتاج، ج8، ص240.
بل صرح بعضهم بأنه يصح تولية غير العالم حيث شاور العلماء1.
هذا، وإذا كان القاضي غير مجتهد فالواجب عليه أن يشاور العلماء، فإذا كانت آراؤهم مختلفة في هذه المسألة التي يستشيرهم فيها قضى بقول أعلمهم، وقيل يلزمه أن يقضي بقول أكثرهم، ويرى ابن فرحون أن الرأي القائل بأنه يقضي بقول أعلم العلماء هو الأصح، وقيل: إن للقاضي أن يحكم بقول من شاء من العلماء إذا رأى الصواب بذلك، ولم يقصد الهوى.
وللقاضي غير المجتهد الاكتفاء بمشورة واحد من العلماء، فإن فعل ذلك فالأفضل أن يشاور أعلمهم2.
دليل القائلين باشتراط الاجتهاد:
استدل القائلون باشتراط الاجتهاد بما يأتي:
أولا: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بين للناس ما أنزل إليهم يتفكروا ويعتبروا، فإذا لم يكن عندهم تبيين النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزله الله تبارك وتعالى من القرآن الكريم لم يحدث لهم التفكر في أحكامه.
ثانيا: قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} .
1 حاشية الدسوقي، ج4، ص129.
2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، بهامش فتح العلي المالك، ج1، ص78.
وجه الاستدلال بهذا النص الكريم أن من لم تتوفر فيه صفة الاجتهاد فإنه لا يرى شيئًا1.
ثالثا: ما رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم 2 ثم أصاب فله أجران، فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ3 فله أجر"4.
أدلة القائلين بعدم اشتراط الاجتهاد:
يستدل لهذا الرأي بما يأتي:
أولا: أن الغرض من القاضي أن يفصل في الخصومات، وأن يوصل الحقوق إلى من يستحقها، فإذا أمكنه ذلك بعلم غيره، بأن يرجع إلى فتوى غيره من العلماء جاز قضاؤه5، كما يحكم بقول المقومين في الأمور التي تحتاج إلى تقويم الخبراء6، فإن من المسلم به أن القاضي يستعين في القضايا التي تحتاج إلى رأي الخبراء والمختصين برأي هؤلاء، ويحكم بناء على ما أبدوه من رأي، ومثل هذا حكمه في القضايا مستيقنا بعلم غيره من العلماء المجتهدين، فكما جاز له أن يحكم
1 المنتقى شرح موطأ مالك، ج5، ص183، وسبل السلام، ج1، ص117.
2 أي: إذا أراد أن يحكم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "فاجتهد" فإن الاجتهاد إنما يكون قبل الحكم، وهذا مثل قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، وهي آية الوضوء ومعناها إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم. الآية.
3 أي: لم يوافق ما هو عند الله تعالى من الحكم.
4 سبل السلام، ج4، ص117 والمنتقى شرح موطأ مالك ج5، ص183.
5 بدائع الصنائع، ج7، ص3.
6 المغني، ج9، ص41.
بالرجوع إلى رأي الخبراء جاز له أن يحكم بعد الرجوع إلى علم غيره من المجتهدين.
مناقشة هذا الدليل:
نوقش هذا الدليل بأن الغرض من نصب القاضي، وتقليده ليس القضاء على أي وجه كان، وإنما القضاء على وجه الكمال، وهذا لا يتحقق إلا إذا توفرت في القاضي صفة الاجتهاد1.
ثانيا: ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: أنفذني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن فقلت: تنفذني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: "إن الله تعالى سيهدي لسانك، ويثبت قلبك"، فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك. فهذا يدل على أن الاجتهاد ليس شرطا في جواز تولية القاضي؛ لأن عليا حينئذ لم يكن من أهل الاجتهاد2، بدليل أن عليا نفسه صرح بما يفيد أنه ليس مجتهدا وهو قوله:"ولا علم لي بالقضاء"، وما دام علي ليس له علم بالقضاء فلا يكون مجتهدا؛ لأنه ليس من المتصور أن يكون الإنسان مجتهدا ولا يعلم القضاء، فهذا يفيد أن الاجتهاد ليس شرطا في القاضي.
مناقشة هذا الدليل:
نوقش هذا الدليل بأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لعلي بأن يثبت الله قلبه، ويهدي لسانه، فإن كان بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رزقه الله أهلية الاجتهاد فلا إشكال، وإلا فقد حصل له المقصود من الاجتهاد وهو العلم والسداد،
1 فتح القدير، ج7، ص244.
2 حاشية سعدي جلبي مع شرح فتح القدير، لابن الهمام، ج7، ص257، 258.
فعلي رضي الله عنه كان يحكم وقد تحققت فيه الصفة العلمية التي تؤهله لذلك، وهذا لا يثبت في غير علي -رضي الله تعالى عنه1.
هذا، وقد صرح القائلون باشتراط الاجتهاد في القاضي بأنه إذا فقد شرط الاجتهاد فولى رئيس الدولة مقلدا منصب القضاء، فإن أحكام هذا القاضي تنفذ للضرورة لئلا تتعطل مصالح الناس.
وهذا أيضًا فيما لو ولى رئيس الدولة أي شخص آخر، غير أهل لمنصب القاضي، كالفاسق، والصبي، والمرأة، فإن قضاءهم ينفذ للضرورة2.
وأرى ونحن في مجال الكلام عن الاجتهاد أن أنقل عبارة للصنعاني يوضح فيها أن الاجتهاد أمر غير متعذر، وكان كلام الصنعاني في سياق الرد على من يقول بأن الاجتهاد يكاد أن يكون معدوما بالكلية، وإذا كان الاجتهاد متعذرا فمن شرط القاضي أن يكون مقلدا مجتهدا في مذهب إمامه، ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه، وأدلته، وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه.
هذا ما قاله بعض العلماء ولم يرتض الصنعاني هذا الكلام ورد عليه بقوة قائلا: "ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان وإن تطابق عليه الأعيان، وقد بينا بطلان دعوى تعذر الاجتهاد في رسالتنا المسماة بإرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد3 بما لا يمكن دفعه، وما أرى هذه الدعوى التي تطابقت عليها الأنظار إلا من كفران
1 فتح القدير، ج7، ص256.
2 تكملة المجموع، لمحمد نجيب المطيعي، ج19، ص117.
3 جمعت ضمن الرسائل المنبرية كما هو مبين بهامش سبل السلام، ج4، ص118.
نعمة الله عليهم، فإنهم -أعني المدعين لهذه الدعوى والمقررين لها- مجتهدون يعرف أحدهم من الأدلة ما يمكنه بها الاستنباط مما لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمن، ولا معاذ بن جبل قاضيه فيها وعامله عليها، ولا شريح قاضي عمر وعلي رضي الله عنه على الكوفة".
ثم يقول الصنعاني: "فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عوضا عن إمامه، وتتبع نصوص الكتاب والسنة عوضا عن تتبع نصوص إمامه، والعبارات كلها ألفاظ دالة على معان، فهلا استبدل بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها ونزل الأحكام عليها، إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا؟ تالله لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، من معرفة الكتاب والسنة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب وتفهم مرامهم، والتفتيش عن كلامهم، ومن المعلوم يقينا أن كلام الله تعالى وكلام رسوله الله صلى الله عليه وسلم أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة المرام، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع، وأقربه إلى الفهم والانتفاع، ولا ينكر هذا إلا جلمود الطباع، ومن لا حظ له في النفع والانتفاع، والأفهام التي فهم بها الصحابة الكلام الإلهي والخطاب النبوي هي كأفهامنا، وأحلامهم كأحلامنا، إذ لو كانت الأفهام متفاوته تفاوتا يسقط معه فهم العبارات الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين، ولا مأمورين، ولا منهيين، لا اجتهادا ولا تقليدا.
أما الأول فلاستحالته؛ وأما الثاني فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد، ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على جوازه، لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد، فهذا الفهم الذي فهمنا به هذا الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل، على أنه قد شهد المصطفى صلى الله عليه وسلم بأنه يأتي من بعده من هو أفقه1 ممن في عصره وأوعى لكلامه، حيث قال:"فرب مبلغ أفقه من سامع" وفي لفظ "أوعى له من سامع".
انتهى هذا الكلام الجيد للصنعاني، ولا يخفى على القارئ أن الصنعاني يقصد الحث على الاجتهاد لمن عندهم القدرة العلمية التي تؤهلهم لفهم نصوص الكتاب والسنة، حسب القواعد الواجب مراعاتها في استنباط الأحكام، ولا يظن أن الصنعاني قصد أن من حق كل أحد أن يجتهد في استنباط الأحكام، ولو لم يكن مؤهلا التأهيل العلمي لذلك.
وبعد، فمن الأفضل في العصر الذي نعيش فيه أن يوجد تقنين شرعي موحد، لعدم توفر شرط الاجتهاد في القضاء الآن؛ ولأن النظم المعاصرة تلزم القاضي أن يحكم بالنصوص القانونية، ولا يحق له أن يخرج عنها.
1 سبل السلام، ج4، ص148.