الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدلة المانعين للحكم على الغائب:
استدل المانعون للحكم على الغائب بالأدلة الآتية:
أولا: قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} .
فالآية الكريمة ذمتهم لإعراضهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، وهذا يدل على أنه يجب عليهم أن يحضروا للحكم، ولو نفذ الحكم مع الغيبة، لم يجب الحضور ولم يستحقوا الذم، فدل هذا على عدم جواز الحكم على الغائب1.
مناقشة الاستدلال:
ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بأنه لا منافاة بين ذمهم على عدم الحضور؛ لأنه واجب عليهم عدم الغيبة، فيمكن أن يجتمع الأمران: الذم على عدم الحضور ونفوذ الحكم مع الغيبة.
ثانيا: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر، فإنك إذا
1 أدب القضاء، لابن أبي الدم، القسم الدراسي لمحقق الكتاب، ج1، ص158.
سمعت كلام الآخر علمت كيف تقضي" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي بمعناه، وقال فيه الترمذي، هذا حديث حسن صحيح. فسماع كلام الآخر مستلزم لحضوره.
مناقشة الاستدلال بالحديث:
أجاب المخالفون عن الاستدلال بهذا الحديث بأنا نقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلام كل منهما، وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين، ويفارق الحاضر الغائب، فإن البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته، والغائب بخلافه.
قال ابن حزم بعد فرض أن هذا الحديث وما يفيد معناه صحيح: "لو صحت الأخبار لما كان لهم بها متعلق أصلا؛ لأنه ليس فيها أن لا يقضي على غائب، بل فيها أن لا يقضي على حاضر بدعوى خصمه، دون سماع حجته، وهذا شيء لا نخالفهم فيه، ولا يجوز أن يقضي على حاضر ولا غائب بقول خصمه، لكن بالذي أمر الله تعالى به من البينة العدلة فقط"1.
ثالثا: ما روي عن عمرو بن عثمان بن عفان، قال: أتى عمر بن الخطاب رجل قد فقئت عينه، فقال له عمر: تحضر خضمك، فقال له: يا أمير المؤمنين أما بك من الغضب إلا ما أرى؟ فقال له عمر: فلعلك قد فقأت عيني خصمك معا، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معا، فقال عمر: إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء.
قال المستدلون بهذا: ولا يعلم لعمر بن الخطاب في ذلك مخالف من
1 المحلى لابن حزم، ج9، ص368.
الصحابة1، وقد أجاب ابن حزم على هذا بعدة أمور:
أولا: لا يصح هذا عن عمر؛ لأن هذا مروي من طريق محمد الغفاري عن ابن أبي ذئب الجهني، وهما مجهولان، وجهالة الراوي ترد الحديث، قال ابن حزم:"لا يدرى من هما في خلق الله تعالى".
ثانيا: هذا الأثر مروي عن عمرو بن عثمان بن عفان عن عمر بن الخطاب؛ وهذا كذب لأن عمرو بن عثمان بن عفان لم يولد إلا ليلة موت عمر.
ثالثا: على فرض صحة ما نقل عن عمر فليس فيه إلا أنه يقضي على غائب بدعوى خصمه، وهذا حق لا ينكر.
رابعا: أن النقل الصحيح عن عمر، وعثمان أنهما قضيا على الغائب إذا صح الحق، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلاف ذلك2.
رابعا: القضاء إنما هو لقطع المنازعة، ولا توجد منازعة هنا لعدم الإنكار.
خامسا: القضاء على الغائب قضاء لأحد الخصمين وحده، فلا يجوز، كما لو كان الآخر في البلد.
سادسا: يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة، ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه.
1 المحلى، لابن حزم، ج9، ص368.
2 المصدر السابق.
مناقشة هذه الاستدلالات:
أجيب عن هذه الاستدلالات بأن أبا حنيفة ناقض الأصل الذي يقول به، فقال إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجا غائبا، وله مال في يد رجل، وتحتاج إلى النفقة، فاعترف لها بذلك، فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة.
ونرى الأخذ بالرأي القائل بصحة القضاء على الغائب بعد محاولات إحضاره، ما دامت البينة موجودة، لكي لا تضيع حقوق الناس، والعصر الذي نعيش فيه شاهد على حالات كثيرة يستولي فيها بعض الناس على أموال الآخرين لاستثمارها -ظاهرا- في تجارة أو غيرها، ثم يهرب، فهل تضيع حقوق الناس بحجة عدم القضاء على الغائب، أم ينظر القاضي في القضية ويطلب البينة، فإذا قامت البينة حكم القاضي بمقتضاها، وسنجد -كما سنبين- أن بعض فقهاء الحنفية يرى القضاء على الغائب مخالفا بهذا رأي إمامه أبي حنيفة -رضي الله تعالى عنه.
وقد دافع ابن حزم الظاهري بعباراته الهجومية المألوفة منه عن الرأي القائل بصحة القضاء على الغائب، قال:"وما ندري في الضلال أعظم من مثل حاكم شهد عنده العدول بأن فلانا الغائب قتل زيدا عمدا، أو خطأ، أو أنه غصب هذه الحرة، أو تملكها، أو أنه طلق امرأته ثلاثا، أو أنه غصب هذه الأمة "الجارية" من هذا، أو تملك مسجدا، أو مقبرة، فلا يلتفت إلى كل ذلك، وتبقى في ملكه الحرة، والفرج الحرام، والمال الحرام، ألا إن هذا هو الضلال المبين، والجور المتيقن، والفسق المتين، والتعاون على الإثم والعدوان"1.
1 المحلى، لابن حزم، ج9، ص369.
اضطراب فقهاء الحنفية في مسائل الحكم على الغائب:
مع أنه صح النقل عن أبي حنفية -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يرى أنه لا يقضي على الغائب بشيء، فإن فقهاء الحنفية قد اضطربت آراؤهم وبيانهم في مسائل الحكم للغائب وعليه، ولم ينقل عنهم أصل قوي ظاهر تبنى عليه الفروع بلا اضطراب ولا إشكال، كما قرر ذلك صاحب كتاب جامع الفصولين، وهو من كبار فقهاء الحنفية، واستظهر أن القاضي عليه أن يتأمل في الوقائع التي تعرض عليه، ويحتاط للحقوق حتى لا تضيع، ويلاحظ الحرج الذي يمكن أن يحدث للمتخاصمين، ويقدر الضرورات، فيقضي بحسبها جوازا وفسادا وذكر مثالين لهذا:
المثال الأول: لو طلق الزوج زوجته عند العدول، ثم غاب الزوج عن البلد، ولا يعرف مكانه، أو كان مكانه معروفا، ولكن القاضي لا يستطيع إحضاره، ولا تستطيع الزوجة أن تسافر إليه هي أو وكيلها لبعده الشاسع، أو لأي مانع آخر.
المثال الثاني: لو غاب المدين وله نقد في البلد.
ويرى صاحب جامع الفصولين أنه في مثل هذين المثالين لو أقام الخصم البرهان الغائب، بحيث اطمأن قلب القاضي، وغلب على ظنه أنه حق لا تزوير فيه ولا حيلة، فينبغي للقاضي أن يحكم على الغائب أو له، وكذلك ينبغي للمفتي أن يفتي بجواز ذلك، دفعا للحرج عن الناس والضرورات، وصيانة للحقوق عن الضياع، خاصة وأن مسألة القضاء على الغائب من المسائل الظنية الاجتهادية، وذهب إلى جواز الحكم على الغائب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد،
وفيه روايتان عن فقهاء الحنفية ثم قال: "والأحوط أن ينصب عن الغائب وكيل يعرف أنه يراعي جانب الغائب، ولا يفرط في حقه"1.
الغائب عند المالكية:
بيّن فقهاء المالكية أن الغائب إما أن يكون قريب الغيبة، كما لو كانت المسافة بيننا وبينه تستغرق يومين أو ثلاثة "بوسائل المواصلات البدائية أي: بالحيوانات" وإما أن يكون بعيدا جدا، كالبعد بين تونس والمدينة المنورة.
فإذا كان قريب الغيبة فحكمه حكم الحاضر في سماع الدعوى عليه والبينة، ثم يرسل إليه القاضي يخبره إما أن يقدم إلى مقر القاضي، أو يوكل عنه وكيلا في الدعوى، فإذا لم يقدم ولا وكل عنه وكيلا حكم عليه القاضي.
وأما إن كان بعيد الغيبة جدا فالقاضي يقضي عليه بعد سماع الشهود وتزكيتهم بيمين القضاء من المدعي أن حقه ثابت على المدعى عليه، وأنه ما برأه به، ولا وكل الغائب شخصا يقضي هذا الحق عنه، ولا أحاله على أحد في جميع هذا الحق ولا بعضه.
وبين المالكية أن يمين القضاء واجبة لا يتم حكم القاضي إلا بها، كما هو المذهب عندهم2.
1 جامع الفصولين، لمحمود بن إسرائيل، الشهير بابن قاضي سماونة، ج1، ص43، طبعة أولى، والمجاني الزهرية على الفواكه البدرية لابن الغرس، ص96.
2 الشرح الصغير، ج5، ص24، 25، مطبعة صبيح.
الغائب عند الشافعية:
الغائب الذي يحكم عليه عند الشافعية نوعان:
النوع الأول: من كانت المسافة بين القاضي وبينه فوق مسافة العدوى، ويحددون مسافة العدوى بأنها المسافة التي لو خرج مبكرا1 لبلد القضاء لرجع إليها في يومه2 بعد فراغ زمن المخاصمة المعتدلة من دعوى، وجواب، وإقامة بينة حاضرة، وتعديلها، قالوا: والعبرة بسير الأثقال؛ لأنه منضبط3.
وقيل أن يكون بينه وبين القاضي مسافة القصر، وهي ثمانون كيلو مترا تقريبا، كالمسافة بين مكة وجدة، عندما كانت كذلك قبل أن تزحف المساكن من المدينتين، لكن المسافة الآن قد قلت عن ثمانين كيلو مترا بين جدة ومكة.
النوع الثاني: الحاضر في البلد لكنه توارى، أو تعزز، وعجز القاضي عن إحضاره، فهذا أيضًا يعد غائبا ويحكم القاضي عليه، لتعذر الوصول إليه، وإلا لاتخذ الناس ذلك ذريعة إلى إبطال الحقوق.
وأما غير هذين فلا تسمع الحجة ولا يحكم عليه إلا بحضوره، كما هو مبين في فقه الشافعية4.
وأكثر أهل العلم يرون أن الحاضر في البلد أو قريب منه إذا لم يمتنع من الحضور لا يقضي عليه قبل أن يحضر أمام القاضي؛ لأنه يمكن سؤاله، فلا يجوز الحكم عليه قبل سؤاله كالحاضر الذي يحضر مجلس القاضي، ولا يصح القياس على الغائب البعيد؛ لأن البعيد لا يتيسر سؤاله.
أما لو امتنع المدعى عليه من الحضور، أو توارى فيجوز القضاء عليه؛ لأنه تعذر حضوره وسؤاله أمام القاضي، فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد، بل هذا أولى؛ لأن الغائب البعيد معذور، وهذا لا عذر له5.
1 التبكير كما قال الشافعي إما أن يكون معناه الخروج عقب طلوع الفجر، وهذا أخذا مما قالواه في صلاة الجمعة، فإن التبكير فيها يدخل وقته من طلوع الفجر، أو يكون معناه التبكير في عرف الناس، وهو الخروج قبيل طلوع الشمس. الجمل على المنهج، ج5، ص364.
2 القدر الذي ينتهي به سفر الناس غالبه هو أوائل الليل.
3 سميت مسافة العدوى بهذا -كما قال بعض العلماء- لأن القاضي يعدي أي: يعين من طلب خصما منها على إحضاره، وقد علق على هذا بعض آخر من العلماء: "ولعل هذا تفسير باللازم، وإلا فمعنى أعدى: أزال العدوان، كما أن اشتكى أزال الشكوى، وفي المصباح: واستعديت الأمير على الظالم طلبت منه النصرة، فأعداني عليه أعانني ونصرني، فاستعدى طلب التقوية والنصرة، والاسم العدوى. قال ابن فارس: العدوى طلبك إلى وال ليعديك على ظلمك، أي: ينتقم منه باعتدائه عليك، والفقهاء يقولون: إلى مسافة العدوى، وكأنهم استعاروها من هذه العدوى؛ لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعد يوم واحد، لما فيه من القوة والجلادة. حاشية الجمل على المنهج، ج5، ص364.
4 الغاية القصوى في دراية الفتوى، لعبد الله بن عمر البيضاوي، تحقيق علي محيي الدين علي القره داغي، ج2، ص1012، وحاشية الجمل على شرح المنهج لزكريا الأنصاري، ج5، ص359، 360 مطبعة مصطفى محمد.
5 المغني، ج11، ص487.
شروط القضاء على الغائب عند القائلين به:
الشرط الأول، تعسر إحضار المدعى عليه.
الشرط الثاني: أن يكون المدعى به حقا لآدمي، فإن كان حقا خالصا لله تبارك وتعالى فلا يصح القضاء به على الغائب، كحد شرب الخمر، والزنا؛ وذلك لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، بخلاف حقوق الآدميين، فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم القاضي بالمال دون عقوبة السرقة، وهي قطع اليد؛ لأن العقوبة هنا هي حق من حقوق الله تبارك وتعالى، وأما المال فهو حق
الإنسان1.
ويرى الشافعية جواز القضاء على الغائب في حد القذف؛ لأن حد القذف فيه حقان: حق لله تبارك وتعالى، وحق للعبد، لكن حق العبد أغلب عند الشافعية، ولهذا جاز القضاء فيه على الغائب2.
الشرط الثالث: أن يصرح المدعي بالدعوى، ويعين المدعى به من ناحية القدر، والجنس.
الشرط الرابع: أن يقيم المدعي البينة، وهل يقوم القاضي باستحلاف المدعي مع بينته أم لا؟ للعلماء في هذا رأيان:
أحدهما: أنه لا يستحلف المدعي مع بينته، وهذا منقول عن أحمد في أشهر روايتين عنه.
وقد استند هذا الرأي إلى ما يأتي:
أولا: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه".
ثانيا: البينة التي أقامها المدعي بينة عادلة، وما دامت بينة عادلة لا تجب اليمين معها، ما لو كانت اليمين على الحاضر.
الرأي الثاني: يستحلف المدعي مع بينته، وهذا ما يراه الشافعي، ورواية ثانية عن أحمد، ويراه المالكية كما سبق أن بينا.
1 المصدر السابق، ج11، ص486.
2 فتاوى الإمام النووي المسمى المسائل المثنورة، ص163، دار الكتب العلمية، ببيروت.
وقد استند هذا الرأي إلى ما يأتي:
أولا: يجوز أن يكون المدعي قد استوفى ما قامت به البينة، أو ملكه العين التي قامت بها البينة، ولو كان المدعى عليه حاضرا فادعى ذلك لوجبت اليمين، فإذا تعذر ذلك فيه لغيابه وجب أن يقوم القاضي مقامه في الأمور التي يمكن أن يدعيها الغائب.
ثانيا: القاضي مأمور بالاحتياط في حق الغائب؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، واستحلاف المدعي من الاحتياط1.
لا يحلف المدعي على حاضر إذا أقام البينة:
العلماء الذين يرون استحلاف المدعي على الغائب مع وجود البينة، إنما قالوا ذلك احتياطا للغائب؛ لأنه يجوز أن يكون قد حدث بعد ثبوته بالبينة إبراء من هذا الحق، أو قضاء، أو حوالة، وأما إذا كانت الدعوى على حاضر، وأقام المدعي البينة فليس للقاضي تحليف المدعي مع البينة، حتى لو ارتاب القاضي، وما على القاضي عند الارتياب إلا أن يحتاط في البحث عن حال الشهود.
نصب "مسخر" يقوم مقام الغائب:
يرى بعض العلماء أنه في حالة نظر الدعوى على غائب يستحب للقاضي أن ينصب مسخرا، أي: شخصا يقوم مقام المدعى عليه الغائب، ينكر ما يدعي المدعي نيابة عن الغائب بأن يقول للمدعي: ليس لك عليه ما تدعيه، وذلك لكي تكون الحجة التي يقيمها المدعي على إنكار منكر، ويرى هذا البعض من العلماء أن هذا من المسخر وإن كان كذبا -والكذب حرام- إلا أنه جاز هنا لأنه من المصلحة، والكذب قد يجوز للمصلحة، وخصوصا وأن الأصل براءة ذمة الغائب مما يدعيه عليه خصمه2.
ونصب المسخر -كما قال أحد أساتذتنا3- إغراق في الحرص على الشكليات يشبه المهزلة، وإلا فما الذي يمنع من سماع البينة، حتى على تقدير أن الغائب في الواقع مقر ونحن لا نعلم، وتكون حجة ضرورة -لمكان الغيبة والجهالة- واقعة موقع الاستثناء من الأصل العام الذي يقرر أن البينة لا تقام على مقر، وأليس هذا أفضل ألف مرة من ذلك السخف الذي لا معنى له "نصب المسخر"؟
1 المغني، ج11، ص486.
2 قال بهذا الرأي الشافعية، وبعض الحنفية.
3 الدكتور إبراهيم عبد الحميد، في نظام القضاء في الإسلام، ص253.
الشرط الثاني من شروط صحة الحكم في الدعوى:
أن لا يسبق من المدعي ما يناقض دعواه:
اشترط العلماء هذا الشرط؛ لأن يستحيل الجمع في الصدق بين سابق كلامه ولاحقه، كما لو ادعى شخص ملكية دار بعد إقراره أنه استأجرها؛ لأن استئجارها إقرار بالملك للمؤجر، فيكون بدعواه متناقضا، والتناقض يمنع صحة الدعوى.
وقد استثنى بعض العلماء من هذا بعض المسائل:
منها ما لو كذب القاضي المدعي فيما سبق منه، فتصح الدعوى حينئذ؛ لأن الكلام بهذا التكذيب -الذي حدث من القاضي- صار غير معول عليه، فلم يوجد التناقض.
ومنها ما لو أقر بالرضاع، فقال عن امرأة معينة: هذه رضيعتي، ثم اعترف بالخطأ في إقراره، فله أن يتزوج بها بعد ذلك.
ومنها ما لو صدق الورثة امرأة على أنها زوجة لمورثهم ودفعوا الميراث إليها، ثم دعواهم استرجاع الميراث منها بحكم الطلاق البائن الذي كان قد حصل من مورثهم حال صحته، ووفاته بعد هذا الطلاق، فتسمع دعواهم، لقيام العذر في ذلك لهم، حيث استصحبوا الحال في الزوجية، فصدقوا المرأة فيها، وخفيت عليهم البينونة؛ لأنها من الأمور التي ينفرد بها الزوج، ولذلك كان التناقض عفوا.