الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرجوع عن الإقرار:
المقر به نوعان:
النوع الأول: حق الله عز وجل الخالص1، وهو ما يسقط بالشبهة من الحدود، كحد السرقة، وحد الزنا، وشرب الخمر.
النوع الثاني: حق الآدمي2، سواء أكان مالا كثمن أرض بيعت، أو بدل قرض، أو كان عقوبة كحد القذف، أي: اتهامه من شخص بجريمة الزنا من غير
1 يعرف حق الله تعالى بأنه كل ما ليس للعبد إسقاطه، كالإيمان بالله تعالى، وسائر العبادات، والحدود، ويمكن أن يعرف أيضًا بأن: ما يتعلق به النفع العام من غير اختصاص بأحد.
2 يعرف حق الآدمي بأنه كل ما يصح للإنسان إسقاطه، أو ما يتعلق به مصلحة خاصة.
بينة1، والقصاص، وحد القذف حق لآدمي على الرأي القائل بأنه مع ملاحظة أن فيه حقا لله وحقا للإنسان، فإن حق الإنسان غالب.
فأما حقوق الآدميين فقد اتفق العلماء على أنه لا يصح الرجوع عن الإقرار بها؛ لأنها حقوق تثبت للمقر له، فلا يملك المقر إسقاطها بغير رضاه، وبين بعض العلماء أن حق الله المالي2، كالزكاة، والكفارة لا يصح الرجوع فيه عن الإقرار به لما فيه من شائبة حق الآدمي3.
وأما حقوق الله عز وجل الخالصة، وهي ما يسقط بالشبهة من الحدود كحد الزنا، وحد السرقة، فقد اختلف العلماء فيه على رأيين:
1 حد القذف يجتمع فيه حق الله وحق الإنسان، ففيه حق الإنسان؛ لأن مما لا شك فيه أن للإنسان المطعون في عرضه حقا في تطبيقه على من رماه بالزنا، حتى يدفع العار عنه ويعلم الناس أن إلصاق الجريمة به كان كذبا وافتراء، وفيه أيضا حق الله تعالى؛ لأنه سبحانه يريد المصالح لعباده، ومن مصلحتهم أن تصان أعراضهم من أن تمس بأذى، فكان أمره جل وعلا أن يعاقب القاذف ومن حق الله تبارك وتعالى أن يمتثل العباد لأوامره ويجتنبوا نواهيه، وقد اختلف العلماء، فقال الحنفية إن حق الله في حد القذف هو الأغلب، والشافعية يرون أن حق الإنسان هو الأغلب، وعلى هذا الرأي الأخير يجوز أن يورث، ويعفى عنه من المقذوف، ولا يجري فيه التداخل.
2 قسم العلماء الحقوق المالية التي تجب لله تعالى إلى ثلاثة أقسام:
الأول: قسم يجب لا بسبب من الإنسان، فإذا عجز عنه الإنسان وقت وجوبه لا يثبت في الذمة بل يسقط، وذلك كزكاة الفطر.
الثاني: قسم يجب بسبب من جهة الإنسان -على سبيل البدل- فيثبت في ذمته، تغليبا لمعنى الغرامة، كجزاء الصيد في الحرم، وفدية الحلق في الحج.
الثالث: قسم يجب بسبب من جهة الإنسان -لا على سبيل البدل- كخصال الكفارة الواجبة على من جامع في نهار رمضان.
الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، الجزء الأول، ص28، دار الكتب العلمية - بيروت.
3 حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، ج2، ص3، مطبعة عيسى البابي الحلبي.
أحدهما: أنه يصح الرجوع عن الإقرار بها، فلو أقر إنسان بجريمة الزنا ثم رجع عن إقراره فإنه يقبل منه، سواء كان الرجوع قبل صدور الحكم عليه بالحد، أو بعده، وسواء أكان رجوعه قبل تنفيذ الحكم أم في أثنائه.
وهذا الرأي يراه الحنفية، والشافعية، والإمام أحمد، وهو مروي عن الإمام مالك في قول له.
ويحصل الرجوع عن الإقرار بالزنا، بقوله: كذبت، أو رجعت عما أقررت به، أو ما زنيت، أو كنت فاخذت، أو نحو ذلك.
الرأي الثاني: أنه لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار بعد كماله كغيره من الإقرارات فإنه لا يصح الرجوع فيها.
وهذا يراه ابن أبي ليلى، وأبو ثور، ورواية عن مالك، وقول للشافعي.
ما استند إليه الرأي الأول:
استند الرأي القائل بصحة الرجوع عن الإقرار بحقوق الله تبارك وتعالى، إلى ما يأتي:
أولا: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء ماعز الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الآخر فقال: يا رسول الله، إنه قد زنى، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه
الآخر فقال: يا رسول الله، إنه قد زنى، فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرة1، فرجم بالحجارة، فلما وجد مس الحجارة فر، يشتد، حتى مر برجل معه لحي2 جمل فضربه به، وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هلا تركتموه"، رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وقال: إنه حديث حسن.
وفي رواية رواها أبو داود: فقال صلى الله عليه وسلم: "هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه"3.
قال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على أنه يقبل رجوعه4.
ثانيا: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض لماعز -عندما جاءه معترفا بالزنا- بالرجوع بقوله: "لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت" فلو لم يسقط به الحد لما كان له معنى5.
ثالثا: الرجوع عن الإقرار مثل الإقرار الأول، كل منهما خبر يحتمل الصدق والكذب، وهو نفسه مصدر لخبرين، ولا يوجد مرجح يرجح الأخذ
1 الحرة -بفتح الحاء- أرض ذات حجارة سود.
2 اللحى -بفتح اللام وسكون الحاء- عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان.
3 نيل الأوطار، ج7، ص269.
4 مغني المحتاج، ج4، ص150.
5 نيل الأوطار للشوكاني، ج7، ص268، والمغني لابن قدامة، ص8، ص197، ونصب الراية للزيلعي، ج3، ص167، وحاشية ابن عابدين، ج4، ص10، وبدائع الصنائع، ج7، ص232، 233.
بالإقرار على الأخذ بالرجوع، وتلك شبهة والحدود تدرأ بالشبهات كما هي القاعدة الشرعية المقررة.
ما استند إليه الرأي الثاني:
وأما الرأي القائل بأنه لا يقبل الرجوع عن الإقرار بحقوق الله تبارك وتعالى، فقد استند إلى ما يأتي:
أولا: أن ماعزا بعد أن أحس بألم الحجارة وألم الموت، فر من الناس، ومع ذلك قتلوه، فلو كان الرجوع عن الإقرار في الحدود مقبولا لألزم النبي صلى الله عليه وسلم من قتلوه بدية القتل الخطأ1.
مناقشة هذا الاستدلال:
نوقش هذا الاستدلال بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزمهم بالدية؛ لأن هروب ماعز عند تنفيذ الحد لا يدل صراحة على الرجوع عن الإقرار، لاحتمال أن يكون الهروب من ألم الضرب.
وعلى فرض أنه يدل صراحة على الرجوع عن الإقرار، فإنه لم ينقل أن أولياء ماعز طالبوا بالدية حتى يقضى لهم بها.
ثانيا: قياس الإقرار بالحدود على الإقرار بالحقوق الأخرى، ولما كان الإقرار بالحقوق غير الحدود لا يصح الرجوع فيه، فكذلك الإقرار بالحدود لا يصح الرجوع فيه.
1 معنى الدية: المال الذي يجب بسبب الجناية على النفس أو ما دونها، وما دون النفس كتعطيل منفعة عضو من أعضاء الإنسان.
مناقشة هذا الاستدلال:
نوقش هذا الاستدلال بأن هذا قياس مع الفارق، والقياس مع الفارق لا يصح، والفارق بين الأمرين أن الحدود تدرأ بالشبهات، والحقوق الأخرى لا تدرأ بالشبهات1.
هذا، وقد انتصر الشوكاني للرأي القائل بعدم قبول الرجوع عن الإقرار بعد كماله فقال2: هذا الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله، ولا يصح الاستدلال على سقوط الحد بالرجوع عن الإقرار بما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وحسنه، ورجال إسناده ثقات عن أبي هريرة:"أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد، فأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "هلا تركتموه" لأنه لا يدل على أنه قد سقط عنه الحد بذلك، بل على أنه إذا ترك ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يأتي بشبهة مقبولة.
وهكذا لا يصح الاستدلال بحديث جابر عند أبي داود، والنسائي "أن ماعزا صرخ بهم فقال: يا قومي ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:"فهلا تركتموه وجئتموني به"، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أراد رجوعه إليه للاستثبات إذا جاء بشبهة مقبولة.
على أنه قد روي في بعض طرق الحديث عند مسلم، والنسائي وأبي داود
1 نيل الأوطار، للشوكاني ج7، ص268، والمغني لابن قدامة ج8، ص197، ونصب الراية، للزيلعي ج3، ص167، وحاشية ابن عابدين ج4، ص10، وبدائع الصنائع ج7، ص232، ص233.
2 نيل الأوطار للشوكاني، ج7، ص270، والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، ج4، ص316، 317.
-واللفظ له- من حديث أبي سعيد قال: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما أوسقناه ولا حفرنا له، ولكنه قام لنا، قال أبو كامل وهو الجحدري: فرميناه بالعظام، والمدر، والخزف، فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت" فدل هذا على أنه إنما فر إلى المحل الذي توجد فيه الحجارة التي تسرع في القتل.
"وهكذا لا يصح الاستدلال بما أخرجه أبو داود عن بريدة قال: "كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، فإنه رجمهما بعد الرابعة".
ثم قال الشوكاني بعد ذلك: وعلى كل حال ليس التحدث الواقع بينهم مما تقوم به الحجة؛ لأنه مجرد حدس، وبهذا تعرف أنه لا دليل على أن الرجوع عن الإقرار يسقط به الحد، وقد حصل المقتضى بالإقرار فلا يسقطه إلا بدليل يدل على سقوطه دلالة بينة ظاهرة".
انتهى كلام الشوكاني في الدفاع عن رأيه، لكننا نسأل: وماذا نقول في الرواية التي رواها أبو داود1 التي بينت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه" ألا تدل هذه الرواية للرأي الآخر؟ وأليس هذا -كما يقول ابن عبد البر- أوضح دليل على أنه يقبل رجوعه2.
1 نيل الأوطار، ج7، ص269.
2 مغني المحتاج، ج4، ص150.